هيباشيا



في هذا الزمن، كانت مصر مهد الحضارات ومنبت العلوم وقدس أقداس الفلسفة ومنارة علوم الرياضات والهندسة - شاهدة الأهرام والمعابد على ذلك، هيباشيا فيلسوفة الأسكندرية، نبوغ مبكر وعبقرية فذة، وقليل مايجود الزمان بالعبقريات ،إذ أن العبقريات أمل الإنسانية الأوحد في أن تستطيع أن تخرج بها يوماً من خضم مشكلاتها، وحروبها، وأزمتها، ومصائبها وأوجاعها وعنفها المتصاعد في شتى بقاع العالم.

تلقت 'هيباشيا' مباديء العلوم عن والدها 'ثيوف' الذي كان يقوم بتدريس الرياضيات والفلك في المتحف، ثم دخلت عالم الفلسفة علي مذهب مدرسة الافلاطونية الحديثة التي نشأت في الإسكندرية وانتشرت في العالم في ذلك الوقت، وكأن لها تأثيرها في الفكر المسيحي. وتصف دائرة المعارف البريطانية 'هيباشيا' بانها فيلسوفة مصرية وعالمة في الرياضيات. وكانت المرأة الأول التي لمعت في ميدان الرياضيات، واجتمعت لها الفصاحة والتواضع والجمال مع قدراتها العقلية الممتازة، فجذبت عددا هائلا من المعجبين بها. ويقول سقراط المؤرخ عنها بلغ من رباطة جأشها، ودماثة اخلاقها الناشئين عن عقلها المثقف: أن كانت تقف امام قضاة المدينة وحكامها، دون أن تفقد¬ وهي في حضرة الرجال¬ مسلكها المتواضع المهيب الذي امتازت به عن غيرها، والذي اكسبها احترام الناس جميعا.

كانت 'هيباشيا' تلقي محاضراتها في المتحف أو المكتبة، فيهرع الناس الي سماعها، ويتزاحم الشباب علي محاضراتها في الفلسفة ربما للتزود من علمها، وربما للتمعن في جمالها. فقد كان جمالها الأسطوري من عوامل الجذب، فلم تسلم من مضايقات ومطاردات الرقعاء من الشباب الطامعين في انوثتها، فكانت تصدهم بالطريقة التي تعلمتها من فلسفة 'افلاطون' وهو مقاومة الشهوة بالحكمة والعلم والمعرفة، وتقول لهم ان قيمة الإنسان ليست في جمال ملامحه، ولكن في جمال اخلاقه، فيشعرون بالخجل من انفسهم، ويروي المؤرخون في ذلك وقائع واحداثا اضطرت الي فعلها حتي يقف الشباب عند حدود الأدب.

ومن دلائل عبر عبقرية هذه الفتاة انها تعلمت علي نفقة الدولة، وذلك شيء فريد، خاصة إذا عرفنا ان النساء لم يكن يتمتعن بمجانية التعليم. اما الاستثناء الثاني¬ كما يذكر الدكتور امام عبد الفتاح¬ فهو انها عملت بالتدريس في الجامعة وهي في الخامسة والعشرين من عمرها، وهو استثناء واضح خاصة ان حكومة الإسكندرية كانت 'هيباشيا' علي ديانة اليونان، مما يدل علي انها كانت متفوقة، فنعمت بالامتيازات تقديرا لعلمها وعبقريتها.

ولدت سنة 370 ميلادية.. وقتلت قتلاً عنيفاً 415 ميلادية عن ٥٤ سنة، كانت أصغر أستاذة في جامعة الإسكندرية عند سن الثلاثين أى سنة 400 ميلادية. جاءت النهاية المأساوية لهذه الفيلسوفة الجميلة نتيجة للظروف التي دفعت المسيحيين الي مطاردة بقايا الوثنية، وتصفية الحساب مع الوثنيين الذين اضطهدوا المسيحيين، واذاقوهم العذاب في القرون السالفة، وكما يقول الدكتور امام: كان المسيحيون الأول ينظرون الي 'هيباشيا' علي انها تجسيد للعلم والثقافة والفلسفة الوثنية بصفة عامة، وهي امور تتحد في نظرهم مع الوثنية في هوية واحدة. ثم ان 'هيباشيا' كانت في رأيهم ترتبط بعلاقة غير شرعية مع الوثني 'اورستيس' حاكم الإسكندرية الرومانى أورستس SETSERO الذي كان علي عداء مستحكم مع البابا 'كيرلس' السكندري، فأصبحت هي النقطة المحورية في التوترات وامور الشغب التي وقعت بين المسيحيين واعدائهم، والتي اجتاحت الإسكندرية اكثرمن مرة. ففي ليلة مظلمة من ليالي شهر مارس 415م، اعترض الثائرون عربة 'هيباشيا'، فأوقفوها، وأنزلوها ثم جروها الي كينسة قيصرون ثم انهالوا عليها طعنا وتقتيلا..

وأشد الجرائم وأقذرها وأبشعها ترتكب باسم الحفاظ على المقدسات، ان القتل والتنكيل لمن يطعن في الدين، قتلاً وتمزيقاً وتشهيراً وسحقاً، سواء في الحياة أو في الممات، فلا حرية إلا للكهان، ولا بحث ولافحص إلا لحفظة النصوص، ولاتبجيل ولا احترام ولاتقدير إلا لأصحاب القداسات وأرباب الفضيلة ،فهم الوحيدون الذين يمتلكون الحقيقة وهم ظل الآلهة في الأرض. وما أشبه الليلة بالبارحة!!!!! ولكل عصر كهانه ولكل عصر ضحاياه من الفلاسفة والعلماء والمفكرين والشعراء، وباسم الحرية يتم الاغتيال والتصفية الجسدية والتشريد والنفى ورفع رايات الردة ودق طبول الكفر والإلحاد وعقد المحاكمات والأحكام بالقتل وإعلان التوبة مرفوض