قوة (اجتماعياً وسياسياً)
القوة أو النفوذ أو السلطة (بالإنجليزية: Power) مفهوم يمثل لب موضوع التدرج الطبقى الاجتماعى. لذلك ليس من المستغرب أن تثور خلافات عديدة حول معنى القوة (بما فى ذلك خلافات حول ماكان يقصده بعض علماء الاجتماع بمفهوم القوة فى كتاباتهم السوسيولوجية فى الماضى).
في علم الاجتماع: النفوذ أو السلطة تعني امتلاك قوة اجتماعية ضمن نسيج العلاقات الاجتماعية يمكن المرء من تنفيذ رغبته مهما كانت مدى شرعيتها أو مطابقا للقوانين الاجتماعية، ماكس فيبر في المباديء الأساسية في علم الاجتماع يعرف النفوذ:
- "نقصد بالنفوذ كل فرصة/إمكانية ضمن العلاقات الاجتماعية، تسمح للشخص بتنفيذ رغبته الخاصة، حتى لو كانت ضد مقاومة ما، وبغض النظر عن أساس هذه الفرصة."
شهدت النقاشات الفلسفية الاجتماعية مؤخرا جدل حول مصطلح النفوذ والسلطة يتركز حول قضية الطبيعة التحجيمية و/أو التمكينية للنفوذ. بعض المدارس ترى النفوذ والسلطة على انها أشكال من القيود على تصرفات الإنسان، وفي نفس الوقت هي ما يجعل الفعل ممكنا، حتى ضمن نطاق ضيق. معظم هذا النقاش نتج عن أعمال للفيلسوف ميشيل فوكو، الذي يقول مثل ميكيافيللي بأن النفوذ "منصب استراتيجي معقد في مجتمع معين [بنية اجتماعية]". كان مصطلح فوكو بطيعته البنيوية يتضمن كلا الجانبين التمكيني والتحجيمي. يناقش أنتوني غيدنز بشكل خاص في أعماله الجانب التميكيني للنفوذ.
ممارسة النفوذ لا تحتاج بالضرورة لممارسة إكراه coercion (عن طريق القوة أو التهديد) لذا فإن النفوذ يتضمن كلا القوتين الفيزيائية والسياسية، بما فيها الكثير من أشكال القوة التي تندرج تحت مصطلح (النفوذ). في الكثير من الأحيان يطلق على "النفوذ" اسم "تأثير" مع أن بعض المؤلفين يعتبرون التأثير مصطلح أكثر عمومية في حين أن النفوذ هو ممارسة قصدية للتأثير على شخص معين.
بشكل أكثر تعميما يمكن تعريف النفوذ على انه القدرة الأحادية (سواء كانت مباشرة أو إيحائية) أو حتى كامنة لشخص ما على إجداث تغيير ملحوظ، في حياة بعض الأشخاص. تعتبر قوانين النفوذ والسلطة تفسيرا للتطور، يستخدم من قبل بعض الأفراد، بهدف جعل الأفراد أكثر راحة ضمن البنية الاجتماعية لمجتمعه.
التعريفات
لعل أفضل تعريف للقوة -بين كل التعريفات - ذلك الذى قدمه ماكس فيبر فى دراسته المعنونة: "توزيع القوة داخل المجتمع السياسى : الطبقة، والمكانة، والحزب"، والمنشورة فى كتابه: الاقتصاد والمجتمع، الصادر عام 1922. وقد اعتبر فيبر القوة هى المفهوم الأساسى والمحورى فى دراسة التدرج الطبقى، الذى تمثل الطبقة، والمكانة، والحزب ثلاثة أبعاد مستقلة لها (وقد تكون تلك الأبعاد مرتبطة ببعضها البعض أحيانا). ويمكن القول بوجه عام أن الطبقات هى نتاج توزيع القوة الاقتصادية (أو بمصطلح فيبر: نتاج علاقات السوق)، وأن المكانة تمثل نوعا من المقوة الاجتماعية التى تعرف تعريفا معياريا، وأن الأحزاب هى جماعات تنشط فى المجال السياسى من أجل تحقيق أهداف مختلفة. وهكذا كان فيبر يعرف القوة -على أسس عامة - بأنها قدرة الأشخاص أو الجماعات على تنفيذ رغبتهم، حتى عندما يواجهون معارضة من الآخرين. ولذلك لاحظ هنا أن القوة هى علاقة اجتماعية. ومن هناكان فيبريرى أن التوزيع المتباين للقوة يؤدى إلى موقف يتسم بننوع فرص الحياة، أى حيث تكون القدرة على الحصول على المموارد الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية موزعة توزيعا غير متكافئ. وتقول عبارة فيبر الشهيرة فى هذا الصدد إن: "الجماعات الطبقية وجماعات المكانة و الأحزاب تمثل كلها ظواهر لتوزيع القوة فى المجتمع".
وقد تبنى ماكس فيبر هذا الرأى فى محاولة صريحة منه لمواجهة الماركسية الفجة التى كانت شائعة فى أيامه، والتى كانت تطابق بسهولة بين السيطرة الاقتصادية والسيطرة السياسية. وأراد أن يوضح رأيه الذى ذهب فيه إلى أن القوة لا تتوقف بالضرورة على امتلاك الموارد الاقتصادية، ومن هنا تأتى أهمية مفهوم المكانة، وملاحظاته المتنوعة بشأن المكانة التى وردت فى ثنايا كتاباته فى علم الاجتماع العام.
كما قدم فيبر ملاحظات أخرى بشان طبيعة القوة فى مؤلفاته عن علم الاجتماع السياسى. فهناك عدد قليل من الجماعات فى المجتمع التى تبنى قوتها على الإكراه أو القوة العسكرية وحدها. فى مقابل ذلك هناك بعض الجماعات المسيطرة التى تحاول أن تضفى شرعية على ما تحوزه من القوة، وبذلك تحولها إلى ما أسماه فيبر سيطرة (أو ما ترجمه تالكوت بارسونز بمصطلح "السلطة"). ويرى فيبر أن هناك ثلاثة أسس للسيطرة هى : الأساس التقليدى، والأساسى القانونى الرشيد، والأساس الكاريزمى.
فهل كان مفهوم فيبر عن القوة يتسم بالكفاءة، أم أن هناك طرقا أكفاً لفهم هذه الظاهرة والتعبير عنها؟ يذهب ستيفان لوكاس (فى مؤلفه: القوة: رؤية راديكالية، الصادر فى عام 1974) إلى ن القوة مفهوم مختلف عليه فى الأساس. فهو مفهوم يختلف علماء الاجتماع دائما على تعريفه وعلى طرق استخدامه. ومرجع هذا الخلاف أن تعريفنا للقوة وكيفية تناولها إجرائيا (انظر: التعريف الإجرائى) يتوقف على موقفنا النظرى وعلى التوجه القيمى الذى نتبناه. ومع ذلك، فلو أخذنا كل ذلك فى الاعتبار، هل يمكن إدخال بعض التحسينات على مفهوم فيبر عن المقوة؟
لو أننا تعمقنا فى دراسة تعريف فيبر، فسوف نتبين بوضوح أنه زرع داخل هذا التعريف فكرة الصراع والقصد. وتتجلى فكرة القصد فى محاولة فرد أو جماعة من الناس" تنفيذ رغبتهم. فذلك القصد يعنى وجود نوع من الفعل الواعى، والرشيد، و المحسوب الذى يبذل من أجل تحقيق هدف معين. ولكن تلك النقطة قد توضح لنا جانبا من علاقات القوة، ولكن هل يمكن أن تكشف لنا حقيقة كافة علاقات القوة؟ بمعنى آخر هل من الممكن ممارسة القوة بشكل غير متعمد أو غير مقصود؟ هل يمكن أن ننظر إلى القوة على أنها تنطوى على تحقيق بعض مآرب الشخص سواء عن عمد أو بغير عمد - وليست سعيا عمديا وراء تحقيق أهداف بعينها؟
أما المشكلة الأخرى التى يمكن أن نتبينهافى تعريف فيبر فتتمثل فى تبنيه فرض وجود الصراع أو الشقاق. فقد لإحظ نقاد من توجهات مختلفة أن هذا التعريف يوحى بأن الشخص "أ" له قوة على الشخص "ب" إلى حد أنه يستطيع أن يتغلب على مقاومة "ب" لو آنه أراد المقاومة، الأمر الذى يعنى أن مصالح "ب سوف يضحى بها - ولو لفترة على الأقل - لصالح تحقيق مصالح ''أ' والحفاظ عليها. ومن المؤكد أن فيبر كان مهتما بدراسة القوة أساسا فى المواقف التى تتصارع فيها المصالح. وقد ذهب كثير من علماء الاجتماع، منذ فيبر، إلى افتراض أن القوة تنطوى على - بل إنها تستثير -مقاومة الجانب الخاضع فى علاقة القوة، وأنه يتعين على الجانب المسيطر فى تلك العلاقة أن يقمعها. فهل يعنى ذلك أن القوة لا يمكن أن تمارس فى إطار علاقات إجماع أو اتفاق الطرفين (الخاضع والمسيطر)، بمعنى أن يقبل الخاضعون استخدام القوة معهم بشكل شرعى؟هنايتعين أن ندقق فى طبيعة القوة التى تستخدم فى الموقف الذى نتناوله بالبحث. فإذا كانت القوة تستخدم مع طرف خاضع، وكان هذا الخاضع ينسب إلى الطرف المسيطر شرعية حقيقية، فإنتا نكون بصدد سلطة أو اقتناع. وتلك قوة تختلف أشد الاختلاف عن القوة التى تستند إلى القهر أو التلاعب والمناورة. ومع ذلك فعلينا أن نتذكر أن كافة تلك المصطلحات الأربعة تشير إلى أنواع من علاقات القوة.
ولكننا سنلاحظ أن فكرة القوة التى تستخدم فى إطار اتفاق أو إجماع واضح يمكن أن تفضى بنا إلى بعض المشكلات الأخرى. من هذا مثلا، أنه فى المواقف التى تنسب فيها الشرعية إلى الطرف المسيطر فى إحدى علاقات القوة، فهل يكون معنى ذلك أن الشرعية تتدفق من الطرف الخاضع الى الطرف المسيطر، محولة تلك العلاقة إلى سلطة (شرعية)، وهو ما كان يمكن أن يقوله تالكوت بارسونز وكثير من علماء السياسة؟ أم أن الشرعية فى مثل هذا الموقف تكون مفروضة من أعلى (أى من الطرف المسيطر)، وذلك عن طريق التلويح بالمعايير الاجتماعية، الأمر الذى يعنى أن تلك العلاقة تتسم بالتلاعب والمناورة، وهى وجهة نظر متجذرة بقوة فى الماركسية، خاصة فى فكرة جرامشى عن الهيمنة الإيديولوجية؟ وقد سبق لألفين جولدنر أن لاحظ (فى كتابه المعنون: الأزمة القادمة لعلم الاجتماع الغربى، الصادر عام 1970) أن "القوة تعنى - من بين ما تعنى القدرة على فرض الدعاوى الأخلاقية لأحد الأطراف فرضا وهكذا يمكن للطرف القوى فى أى علاقة قوة أن يحول نواحى قصوره ومثالبه الأخلاقية إلى شئ عرفى متواضع عليه ومحل اتفاق". وطبيعى أن تلك النقطة إنما تمثل جانبا مما قصده فيبر بمصطلح المكانة الاجتماعية.
لكل تلك الأسباب يتعين أن نتذكر هنا القول المأثور لدافيد لوكوود: فقد لاحظ فى ثنايا تعليقه على مشكلات دراسة القوة، خاصة عندما نسلم أن القوة طاقة كامنة، لاحظ أن: "القوة لا يجب أن تقتصر على الإشارة إلى القدرة على تحقيق أهداف أحد الأطراف فى موقف صراعى على حساب أهداف الآخرين، وإنما يجب أن تتضمن أيضا القدرة على منع المعارضة من أن تثور أصلا. فكثيرا ما نسمع أن دراسة القوة ينبغى أن تركز على عمليات صنع واتخاذ القرارات المهمة. ولكننا نستطيع القول بأن القوة "تكون أكثر قوة" لو أن الفاعل استطاع - عن طريق التلاعب أو المناورة - أن يمنع بعض المسائل والقضايا من أن تصل إلى نقطة القرار أصلا. (انظر دراسته المعنونة: "توزيع القوة فى المجتمع المصناعى - تعليق"، المنشورة فى الكتاب الذى حرره أورى وويكفورد بعنوان: القوة فى بريطانيا، الصادر عام 1973). وهكذا إذن لا تعنى القوة صنع القرار فقط وإنما يجب أن تعنى أيضا الحيلولة دون صنع بعض القرارات، ليس بشكل صريح فقط وإنما بأشكال مستترة أيضا.
مصادر القود
القوة فى الحقيقة مفهوم يشير إلى المقدرة على الفعل أو الإمكانية: إذ يعنى إمكانية حدوث فعل معين وليس حدوثه الفعلى. فالقوة سمة تتصل بالإمكانية أو بالقدرة على إقامة علاقه اجتماعية معينة، وهى لذلك تتوقف على ما يملكه الفاعل من مصادر القوة. ومن الأمور الواضحة كل الوضوح أن الموارد الاقتصادية كالثروة والتحكم فى الوظائف تمثل -فى المجتمع الرأسمالى المتقدم -مصدرا حيويا من مصادر القوة. ولكن هناك إلى جانبها عديد من المصادر الأخرى للقوة، نذكر من بينها على سبيل المثال: القدرة التنظيمية، الدعم العددى، الكفاءة، المعرفة ذات المستوى الرفيع، التحكم فى المعلومات، شغل بعض ا لوظائف أو الأوضاع الاجتماعية، السيطرة على بعض أدوات القوة، وأخيرا سمعة امتلاك القوة نفسها. والحقيقة أن العنصر الأخير يمثل مصدرا فريدا ومتميزا من مصادر القوة، فهو لا يعتمد على الامتلاك الفعلى للقوة، وإنما على مجرد اعتقاد الآخرين أن ذلك الطرف يملكها. كذلك ينبغى أن نلاحظ أنه ليس من المحتم أن يمتلك الشخص أحد مصادر القوة فعلا، وإنما يكفى أن تكون لديه القدرة على التحكم فى هذا المصدر. ومن أمثلة ذلك كبار موظفى المدولة وكبار المديرين. وبين كل تلك الإمكانيات والقدرة على استخدام المقوة من ناحية، واستخدامها ووضعها موضع التنفيذ من ناحية أخرى، هناك أولا رغبة ذلك الطرف فى استخدامها (وكذلك كفاءته فى هذا الاستخدام).
فالقوة الكامنة تعتمد على بعض المقومات. أما القوة الظاهرة الصريحة فلاتعبر عن نفسها بالمقومات والخصائص، وإنما تتجلى فى العلاقات الاجتماعية الواقعية. وهنا تتذكر أن الطبيعة التبادلية تمثل جزءا من تعريف العلاقه الاجتماعية. معنى ذلك أن ممارسة القوة تتضمن نوعا من التغذية الاسترجاعية (أو رد الفعل)، فالطرف "أ" يتصرف، والطرف "ب" يستجيب، ثم يستجيب ''أ'' لاستجابة "ب"، وهكذا. من هنا يتعين أن يمارس الطرف الخاضع قدرا من التأثير على الطرف المسيطر، لكى يتسنى وجود علاقة أصلا، وهى نقطة سبق أن توقف عندها ووضعها جورج زيمل منذ عهد بعيد
وهكذا نستطيع الآن - بعد هذا العرض - أن نرى مدى التعقيد والصعوبة فى تناول مفهوم القوة. وما أن نشرع فى محاولة تعريفه إجرائيا حتى نتبين رأى لوكاس فى مدى الاختلاف الجوهرى حول طبيعته. وقد تصدى لمناقشة هذه النقطة، وغالبية القضايا التى أثيرت فى هذه المادة دينيس رونج فى كتابه بعنوان: القوة، الصادر عام 1979.