نشأة الموسيقى

منذ أن خلق الله الكون ودبت في الأرض الحياة, وبدأ يحس الإنسان ويدرك ما يدور حوله من الظواهر الطبيعية المختلفة كان طبيعياً أن يكون هو المرآة التي تعكس عليها كل هذه الصور ويصبح مقلداً ومحاكياً لها ومقتبساً منها ولكن كيف بدأ الإنسان يدرك أنه أصبح يمارس ما نسميه نحن الآن بالموسيقى وكيف بدأ يصبح مبدعاً لها؟ هل كانت البداية مجرد تقليد الطبيعة والحيوانات والطيور؟

نظريات نشأة الموسيقى

هناك نظريات عديدة في هذا الموضوع كل منها تفيد الأخرى وكلها تتفاوت في تفسير نشأة الموسيقى. تقول نظرية أن البداية لم تكن على أنها أداة للسماع والتطريب والترفيه ولا هي تعبير عما يجيش في نفسه من العواطف والمشاعر, وبالطبع ليست كفن له تقاليده وقيمه. ولكن الإنسان شعر بما في الطبيعة من روعه ورهبه وحاجته إلى ممارسة حياته بين أمل في حياة طيبة مأمونة للعيش وبن وحشه وخوف مما يدور حوله من مظاهر طبيعية وأخطار تهدده من بين الكائنات التي تعيش معه، إذن لم يجد سوى أن يتخذ من الحركات الإيقاعية والأصوات الساذجة والصرخات والضربات ما يدفع به عن نفسه المخاوف وطارداً الأرواح الشريرة ومستغيثاً لإدرار المطر.

وقد مرت مراحل طويلة وشاقة عبر آلاف السنين متدرجاً من الأصوات والصيحات ومهتدياً إلى وسائل أخرى مساعدة كآلات الطَرق المختلفة مروراً من آلات النفخ من القرون والعظام المثقوبة ثم في حقبة متفاوتة جداً إلى الآلات الوترية وهو بذلك يجتاز في كل مرحلة درجة من درجات الاستفادة.

وهناك نظرية أخرى تقول أن الإنسان الأول توصل للموسيقى محاكياً للطيور, مناغياً للجنس الآخر, وعرف أول خطوة من الغناء من صيحات ممدودة للتنبيه والنداء وتوصل إلى ذلك عن طريق العمل الجماعي الذي ينظمه الإيقاع.

ولكن هناك من يضحد هذه النظرية مفترضاً أنها لو صحت لكنا نجد الآن عند بعض الشعوب التي ما زالت في دور البداوة (التي تتشابه ظروفها مع ظروف الإنسان القديم وذلك في أواسط إفريقيا وأمريكا اللاتينية) نوعاً من الغناء أشبه بتغريد الطيور, وألحاناً شبيهة بصيحات التنبيه أو أغاني إيقاعية للعمل الجماعي, ولكن يمكن إثبات عدم وجود ذلك فعلا.

وهناك نظرية عامة تقول أن الأصل هو الكلمات وانه بعدما عرف الإنسان أبسط لغة للتفاهم وجد انه أثناء التحدث أو التعبير عما يريد أن يعبر "يقول" كان لا بد من وجود ابسط أنواع التنغيم من تغيير درجة الصوت حده وغلظا, ويقال أنه من هنا ولدت أبسط ميلودية من درجات متقاربة, وأن من تقدم هذا الأسلوب ومع مرور الوقت وزيادة المساحة الصوتية البشرية. توصل الإنسان إلى السلم الخماسي.

وهذه النظرية لها ما يفندها أيضاً, فإن الموسيقى في أبسط صورها وحينما كان الإنسان يعبر عن ذاته أو تنبيهه لإنسان آخر ولو بصرخة معينة فإنها مع تكرارها تصبح هذه الصرخة ذات الشكل المعين في الأداة مع نطقها مصاحبة بحرف معين:ها- يا- دا- هو- يو- دو- أو الخ.

وقد تكون بذلك بداية لميلاد لغة وتصبح هذه نداءات تعني(يا هذا أو يا أنت) وبذلك تكون الموسيقى هي التي سببت الألفاظ والحروف واللغات إلى فم الإنسان, فكانت بذلك هي وسيلته في التعبير وترجمة لرغباته.

وبذلك نجد أن الغناء كان أقدم بكثير من الآلات الموسيقية ولا سيما آلات النفخ والآلات الوترية فإن القبائل التي تعيش الآن في أحط مراتب الحضارة لها أغانيها دون أن تعرف بالضرورة الموسيقى الآلية ولكي ينظم المغني طريقة غنائه,اهتدى إلى وسيلتين للتعبير:-

أ‌)      ترتيل بسيط للنص أو مدلول معين ذو أهمية خاصة, قريبة من أسلوب الكلام العادي ويؤدي إلقائها " Reactive " على درجة أو درجتين أو ثلاثة على الأكثر, أي أنه أسلوب وليد الكلمة " Logogenic ".

ب‌)   أسلوب لا يهتم بالكلمة أو المدلول بقدر اهتمامه بالحالة النفسية والانفعال فهو يتكون من انطلاقات عنيفة هياجية أو العكس وهذا هو الأسلوب وليد العاطفة "pathogenic".

الأسلوب الأول:-

الألحان في هذه الحالة مجرد صوتان تفصلهما مسافة وهي تختلف من جنس لآخر وربما من قبيلة لأخرى, وقد تكون نوعاً من مسافات الثالثات أو حتى الرابعات أحياناً, وفي تطور طويل تبلورت الأصوات صوتاً بعد آخر حول نواة هي الصوتان الأصليان وحدث هذا التسلسل في المراحل الأولى في بداية ونهاية كل لحن دون أن يمس وسطها, ثم ازداد تبلور هذه الأصوات ووضحت في مرحلة متأخرة, حتى بدأت تدخل درجات أخرى وسيطة وكانت هذه بداية البداية بالنسبة للموسيقى.

الأسلوب الثاني:-

وفيه الصوت يقفز إلى أعلى ثم يهوي إلى أسفل في صيحات وصرخات بدأت تتضح فيها أثناء عملية التنظيم المستمرة بعض الأبعاد المحدودة والتي أصبحت موضع ارتكاز الأوكتافات والخامسات والرابعات والثالثات أو يبدو أن القبائل التي ترقص في خطوات وقفزات واسعة تفضل أن تغني في مسافة ثالثات أو رابعات عن أن تغني في مسافة الثانية كما يلاحظ أن نساء القبيلة الواحدة تغني ألحانها الخاصة بهن في درجة في درجات أضيق من الرجال كما تقصر خطواتهن عن خطوات الرجال.

ومما تتميز به ألحان البدائيون هو تكرار النموذج اللحني الضئيل مراراً ومع ذلك وجدوا طريقاً أكثر رقياً يحد من هذا التكرار اللانهائي الممل بعبارة واحدة. وذلك بأن يتم تبادل الأداء بين أحدهما مع الآخر أو بين صولو وكورس, قطعاً للممل وبثاً للحيوية بدلاً من هذا التكرار المضجر وهذه هي أولى خطوات الإنتيفونية.

ولم يكن تعدد الأصوات في عالم البدائيين جوهرياً ولو أنه كان موجوداً وبشكل بدائي وذلك بسبب مصادفات لم تكن في حسبانهم مثل ما يحدث عندما تشترك جماعة في الأداء ويحدث بسبب عدم الالتزام بالرتم أو بالأداء الموحد أن يشذ بعضهم وينشأ بذلك ما يسمى بالهتروفونية

وقد يحدث أن يغني عدد من المغنيين نفس اللحن من طبقات مختلفة وذلك بأن نسمع لحنين متوازيين وذلك على أبعاد تبدأ بالأوكتاف بسبب عامل السن والنوع, والذي يكون تلقائياً وغير مقصود عند الأداء.

وهناك أيضاً متوازيات الخامسات والرابعات ويحدث أيضاً توازي بالثالثات وهذا ما يسمى بالبارافونية. وهناك أيضاً الأصوات الممتدة "pedal note" ويكون أعلى اللحن وغالباً ما يكون أسفله. كما يحدث أحياناً في أداء المجاميع أن ينفذ صبر إحدى المجموعات عند الأداء التبادلي ولا تنتظر حتى يأتي دورها فإنها تدخل قبل أن ينتهي الصوت الرئيس وهذا ما نستطيع أن نسميه أول خطوة من البولفونية وهكذا نجد أن الأجناس البدائية قد غرست لنا البذور التي نبتت منها الموسيقى الرفيعة في الشرق والغرب.

ومع مرور الوقت وتطور حياة الإنسان إلى ما هو أبعد من البدائية بدأت تتمدد معالم الفنون (موسيقى- فن تشكيلي .....الخ).

بدأ يظهر خطان في كل فن:-

1)    فن بدائي محافظ وملتزم بما هو موروث لديهم.

2)    مستوى فن آخر أكثر تطوراً وذلك مع بداية ظهور طبقة من البشر يمتهنون هذا الفن ويسيطرون عليه ويصبح حرفته, وكانوا هم على مر العصور والحضارات القديمة هم طبقة الرهبان والكهنة في المعابد أو السحرة في القبائل البدائية.

وعلى أيدي هؤلاء بدأ يتحدد لكل فن طابعه الخاص وأصبح له مدارسه ومعاهده الخاصة التي كانت دائماً هي المعابد يتحكمون ويحافظون فيها على تقاليد وأصول هذا الفن.

أما النوع الأخر فقد ظل فناً بسيطاً بدائياً خالصاً خاصاً بالشعوب تتوارثه من جيل إلى جيل محافظاً عليه بعيدا عن تدخلات وتأثيرات الحضارات الموجودة أو المجاورة أو الغازية أو المغزوة حاملاً بذلك تقليد وطابع كل شعب على حدا يطوره ويعدله في داخله بما يناسبه دون مساس بهيئته وهيكله العام, وهذا النوع هو ما اصطلح عليه الآن بالإبداع الشعبي أو الفنون, أو ما اصطلح عليه علمياً بالفولكلور, والذي أصبح الآن علماً قائماً بذاته له أصوله ومنهاجه ومدارسه وباحثيه.

حينما وصل الإنسان إلى المستوى الفني الذي بدأت فيه الحضارات والمدنيات القديمة تتركز وتستقر في بقاع مختلفة من العالم ثم ابتدأت تتكون بذلك الجماعات ثم القبائل ثم الشعوب ثم الأمم, بدأ يأخذ كل منهم مأخذه الخاص من تلك الحضارة أو المدنية أسلوبه المعين والخاص في الحضارة والعمران وتعبيره الذاتي في شتى أفرع وأنواع الفنون المختلفة وفي صدرها الموسيقى.

وقد صعدت إلى قمة هذه المدنيات والحضارات القديمة وبلغت الذروة فيها أمم تقدمت وكانت في الطليعة وعلى رأس هذه الأمم:-

1-   مصر 2 - الصين  3-  اليابان 4-  الهند 5-  أشور وبابل 6-  اليونان والرومان

وهي التي نطلق عليها تاريخياً اسم الممالك القديمة والتي ترجع بمدنيتها هذه إلى آلاف السنين.وسيكون موسيقى هذه الممالك هي موضوعنا. وتبدأ العصور القديمة ومدنياتها المختلفة قبل الميلاد بآلاف السنين إلى أن تنتهي بسقوط الدولة الرومانية على يد برابرة الشمال عام 476 ميلادية إيذاناً ببداية العصور الوسطى.