موريس بلوندل

فيلسوف فرنسي معاصر، كاثوليكي النزعة، ولد في مدينة ديجون Dijon في 2 يناير سنة 1864، وتوفي في أكس-إن-بروفانس Aix - en - Provence في4 يونيو سنة 1949.

وكانت أسرته من الطبقة الوسطى، مسيحية متدينة، يكثر فيها رجال القانون. لكن موريس التحق بمدرسة المعلمين العليا وكان من أبرز أساتذته أميل بوترو E. Boutroux «الذي كان يلقن تلاميذه الوحدة الباطنة الفريدة في المذاهب الكبرى الأصيلة في نفس الوقت الذي كان فيه يعلمهماستمراروعرضية التاريخ العام للأفكار، ويروض تأملهم ويثيرفيهم القدرة على لابتكار بواسطة حسه النقدي وبواسطة لاشعاع الراديوي المعدي الذي كان ينبعث من تفكيره الشخصى الذي كان دائما في حال تولد» على حد تعبير بلوندل («رحلة موريس بلوندل الفلسفية» أحاديث مع فريدريك لوفيفرجرت في سنة ١٩٢٧، باريس سنة ١٩٦٦ ص ٣) كذلك تأثر بأوليه لبرين - 6ا01 Laprune الذي «استطاعت حياته المضنية الحارة أن تحل - في سجو فكر بغير غيوم - كثيرا من المشاكل التي لا تزال متقدة بأنفاس بسكال» (الموضع نفسه). وفي مدرسة المعلمين العليا، اصطدم بنقد أحيانا هدام، وأخرى نزيه للدين في حدود العقل فقط.هنالك تولدت في ذهنه فكرة لرسالة التي سيقوم بها للحصول على الدكتوراه، وهي أن يستخرج من المواقف السلبية ضد الدين موقفا إيجايا يبين مثروعيتهأمام العقل. ومن هنا كانت نقطة انطلاق فكره هي النزاع بين ما تقتضيه الفلسفة والعقل وبين ما أق به الدين المسيحي من تعاليم.

وناقش رسالة الدكتوراة في ٧ يونيوسنة١٨٩٣ : وكانت الرسالة الكبيرة بعنوان: «الفعل: محاول لنقد الحياة والعلم في الممارسة العملية» وقد شرح لمحدثه لوفيفر لماذا اختار هذ اموضوعفقال : «مامعنى أن نفعل؟ أليس هو أن نأفي بجديد دائما؟ هذا فإن دراسة لفعل، بروح العقل، هودائما بمثابة تجديد بالشراب من عين الشباب. . ان ما أردته هوأن أحرر نفسي، مستخدما الوسط - الجديد بالنسبة إلي - الذي كان يحاصرفي عن يميني وعن شمالي . وكان يعطيني الانطباع انني لا أتنفس بحرية- وهو وسطكانت فيه الأطراف لمتقابلة، تتحدى بعضها بعضا ولا تعوض - وسط يتذبذب بين الهواية وبين النزعة العلمية، فيه تصادمت المسيحية المحدثة على الطريقة الروسية مع المهارة القاسية للمثالية الجذرية على الطريقة الالمانية، وسطفيه -سواء في الأدب وفي الفن وفي الفلسفة بل وفي التربية الدينية نفسها - يستوي التصوري Notionnel والصوري Formel بل واللاوعي[٠غ1٢٢» (الكتاب نفسه ص ٣٤-٣٥) .

وقد نمى بلوندل نتائج رسالته من حيث المنهج في بحثين مهمين، الأول بعنوان : «رسالة عن مقتضيات الفكر المعاصر فيما يتعلق بالدفاععن الدين وفي منهج الفلسفة لدراسة المشكلة

الدينية» (ظهر سنة ١٨٩٦)، والثاني بعنوان: «التاريخ والعقيدة، المناقص الفلسفية في التفسير اللاهوي الجديد» (ظهر فيس ١٩٠).

ولما كان في رسالته للدكتوراه قد نحا نحونقد الفلسفة العقلية والاشادة بالخوارق واللامعقول، فإنه حين تقدم للحصول على وظيفة أستاذ فلسفة في إحدى الجامعات الفرنسية، أهمل طلبه، وظل على هذه الحال عامين إلى أن وافق على تعيينه وزير المعارف انذاك، ريمون بونكاريه، فعين أولا أستاذا للفلسفة في جامعة ليل Lille ثم انتقل منها إلى جامعة إكس - إن - بروفانس حيث استمر فيها إلى أن أحيل إلى التقاعد سنة ١٩٢٩ وهو في السبعين من ءمره، واستمر يعيش في أكس - إن بروفانس حتى وفاته سنة ١٩٤٩، وفي هذه الفترة، أتم رباعيته الفلسفية التي عبر فيها عن نمام مذهبه الفلسفي، وتشمل:

١ - «الفكر» La pensée ويشتمل على جزأين:

أ - « تكوين الفكر ومدارج صعوده التلقائي»، باريس سنة ١٩(ط٢، ة١٩٤٨.

ب- «مسؤوليات الفكر وإمكان إنجازه «، باريس سنة ١٩٣٤ (ط٢، سنة ١٩٥٤)

٢ - «الوجود والموجودات، les êtres ا Etre محاولة في إيجاد أنطولوجيا عينية وشاملة»، باريس سنة ١٩٣٥ (ط٢ سنة ٤١٩٦٣

٣- «الفعل L action» ويشتمل على قسمين:

أ-«مشكلة العلل الثانية ومحض العقل»، باريس سنة ١٩٣٦ (ط٢،سنة ١٩٤٩)

ب - «الفعل الانسافي وشروط بلوغه غايته» ، باريسسنة ١٩٣٣( ٢، نة١٩٦٣)

٤ - «الفلسفة والروح المسيحية» في جزأين، باريس ١٤٤- ١٤٦(ط٢،سة١٥٠)

مذهبه

١ ) فلسفة الفعل :

قلنا أن بلوندل أراد أن يخوض معركة النزاع بين الفلسفة والدين. وقدوجدأن حل مشكلتهما يقوم في تعمقها . وأدرك أن مسألة لفعل هي معقد الصلة بينهما، فكيف كان ذلك؟

بلوندل

إن الفعل هو الانان لأنه لا يتحقق شيء إلا بواسطة الفعل . ويستمر الفعل يجري على هيئة دورة : لأنه يريغ لا محالة إلى أن يكمل إراديا ما نستخدمه تلقائيا وبالضرورة . وهر يحيل إلى غاية مثعررا، وبمافيه من مبدا معاش، وماكان في المبدأ لا متناهيا ينبغي في ختام المطاف أن يعود لا متناهيا أيضا. لكن حضور هذا اللامتناهي يضع أمام الفعلمشكلة لا يستطيع حلها، ولكنه لا يملك ايضا الافلات منها، وذلك لأن الإحاطة اللامتناهي أمر مستحيل، ولكن علينا لتعلق باللامتناهي. غيرأن هذا لا يمكن إنجازه إلا بموهبة من الله، وهي موهبة يكشف عنها في النفس، ما فيها من تجليات نورانية .

وهكذا تنبثق في ديالكتيك الفعل مشكلة ما هو خارق ؛surnature ، وهي مشكلة وليست واقعا حقيقيا، لأنه إذا كانت المسألة ضرورية، فإن الجواب عنها يهيب بنوراخر - وإذا كان العقل لا يستطيع أن يعطيه مضمونا، فإنه يقدر مع ذلك على تحديد شروطه وشكله.

هذه هي خلاصة ما قاله بلوندل في رسالته : «الفعل» كلام غامض، لا يرضي أصحاب النزعة العقلية، أي الفلاسفة، ولا يرضي رجال الدين حتى تحسر بعضهم على غياب سلطة محاكم التفتيش، وإلا لكانوا قد أحرقوه،كما قال في احاديثه تلك. فماذا اخذ عليه هؤلاء وأولئك؟ يقول بلوندل: أما «أهل اليسار فقد اتهموني بأني لم أحفظ للانسان نصيبه وأني أحلت كل شيء إلىخوارق. وأما أهل اليمين فقد أخذوا علي أنفي م أحفظ لله نصيبه، وأنني جعلت كل شيء طبيعيا، حتى اللطف الالهي والنظام فوق الطبيعي . لكن هذا يتنافى صراحة مع غرضي. لأنفي سعيت إلى المحافظة على هذين النصيبين كاملين دونتخل عن العقل، بل جعلت العقل يحافظ على حقه في التوجيه والمراقبة وحقه في التعاون والمشاركة إلى القمة التي يتحدث عنها سان جان دلاكروا ويقول إن عندها توجد سلبيتنا الفعالة، وبدون تعد على ميد! ن اللاهوت لأن العالي transcendant يمكن أن ينفذ في حياتنا ويصير محايثاًفي فعكنا مع المحافظة على كل المجاني الذي لا يمكن جعله طبيعيا.

وللأولين (أهل اليسار) كان في وسعي أن أقول: إني أسدي إليكم خدمة وهي أنأهىءالعقول وأنأمكنكمانتممن أن تطبقوا عليهم برنامجكم في احترام العقائد الدينية. وللفريق الثاني (أهل اليمين) كان في وسعي أن أقول : كيما يكون الاعتناق حرا ومعقولا كما تدعون أنتم إلى ذلك، ولكي تحافظ الأحوال الصوفية نفسها على طابعها الانساني، ومن أجل أن

يتضمن مصيرنا الشخصي والكلي وحدة فعلية، فلا بد أن يسري شعاع من الفكر والارادة في كل موضع وأن يفرض على كل العقول المشكلة الدينية في صورتها الأوفر حظأ من الوضعية والشمول. وفي هذا أنا لا استطيع أن أصدم!لا أولئك الذين لا يريدون ان يكون الدين إنسانياً، او اولئك الذين لا يريدون ان يقوم الانسان أو الفيلسوف بإثارة المسألة الدينية تحت مسؤ وليتنا الكاملة» («الرحلة الفلسفية لموريس بلوندل» احاديث مع لوفيغر، ص ٥٣،٥٢),

ذلك أن اهل الفلسفة رأوا في آراء بلوندل تضييقاً لجال العقل لحساب الايمان، وأهل الدين رأوا فيها توسيعا لمجال العقل بحيث يطال مسائل ينبغي في نظرهم أن تظل من شأن العقيدة المقدسة وحدها. وهكذا اتفق كلا الفريقين المتعارضين على إدانة مذهب بلوندل لأسباب متعارضة تماما.

فكان على بلوندل أن يواجه الفريقين معا. فيواجه أها الفلسفة قائلا أن العقل لا بقتات من وضوحه، وإا لتحول إلى فكرفي الفكر، بل على العقل أن يستفيد مما هو فعل معاش، أن ثم فلسفة في الفن ا تدعي خلق الجميل ولا استنباطه، بل مهمتها هي التأمل في أعمان الفنانين . فلماذا لا تكون هناك فلسفة تدرس الأديان الموجودة في العالم من وجهة نظر صورية، دون أن تحاول ردها إلى مذاهب محددة من قبل؟

إن بلو ندل لم يكن معاديا للعقل، في صالح الفعل، على لنحوالذي نراه مثلاعند برجون , وهنا ينبغي أن نشيرإلى أن فكر بلوندل نشأ مستقلا تماما عن فكر برجسون . وهو يقول أنه لم يقرأ شيئا لبرجسون قبل كتابة رسالتهعن «الفعل» وهذا معقول، لأن برجسون لم ينشر قبل سنة ١٨٩٣ السنة التي نشرت فيها رسلة بلوندل - غير كتاب واحد هو رسالة للدكتوراهبعنوان «المعطيات المباشرة للشعور» يقول بلوندل (الكتاب نفسه ص ٢٣): «أما فيما يتعلق ببرجسون، فى كان لي أن أتأثر به لأنني لم أقرأ سطرا واحدا مما كتب قبل أن أنجز رسالتي (للدكتورا) وأنافشها. لكن بعد سنة ١٨٩٣ ، التذذت بلذة الصور الرائعة التي دبجها الفيلوف - الشاعر صاحب السورة الحيوية وجعلني أفكر في (أو: أحلم ب) الازدهار الربيعي للفكر الايوني وجدةمزدهرةللعالم، وفييقظة مفاجثة لعصارة تهز ثقل خمسة وعشرين قرنامن العلم توشك ترسيباتها أن تخنق الروح. لكن إذا كان الجانب النقدي في الغالب جميلا وخصبا (وان كان ذلك على نحو يختلف مع ما كنتأتمناه)، فإن الجانب الايجابي قد تمعلى نحو بدا ي من غير الممكن قبوله. ولهذا فإن نفس الألفاظ التي يستخدمها كل واحد منا، مثل: حياة، فعل، عقل (ذكاء)، الخ. . يبدولي أنهاعنده (انجازلي أن أعبربهذا التعبيرالقليل التوفيق) مستاصلة الجذور، منقولة من محورها، ومقطوعة الرؤ وس إلى درجة أن «المدة المحض» والتطور الخالق» لم يستطيعا، فيما بعد، إلا أن يساعداني على زدياد شعوري ن إلهام كلينا مختلف تمام الاختلاف عن إلهام الآخر» (الكتاب نفسه، ص ٢٣ - ٢٤) ويستمر بلوندل في بيان أوجه الاختلاف بين فلسفته وفلسفة برجسمون .

أما من ناحية المتشددين من الكاثوليك، فقد أخذوا عليه ما عرف باسم منهج المحايثة Méthode d'immanence خصوصا في تلك الفترة التي اضطربت فيها الكنيسة الكاثوليكية بحركة المجددين «Le Modernisme» حتى اتهم بلوندل بأنه ضالع فيها، مع أنه كان من المقاومين المعارضين لها، وحتى قيل أن الرسالة البابوية encyclique بعنوان :ل1025٤21 سنة ) تشير ضمناً إلى منهج امحايثة عند بلوندل.

وقد رد بلوندل على هذا التأويل قائلا: «إن الرسالة البابوية الموسومة باسم Pascendi (وهو اللفظ الأول منها) تميز بين ثلاثة معان متنازع عليها للكلمة «محايثة» Immanence وتدين معنيين من هذه المعاني وهما : المعنى الذي يتصل بمذهب المحايثة، ثم المعى الذي يدل على منهج بدعي استخراج الخارق على الطبيعة من الطبيعة نفسها . أما المعنى الثالث لهذا اللفظ فيتعلق بحضور فينا للطف اما متلطف أو غير مقيم inhahitante بدونه لا نستطيع شيئا في مجال الايمان أو النجاة . وينضبه كل تحول Conversion وكل حياة مسيحية وهو منبت في أعمق أعماق محايثنا ومع ذلك فإنه وارد دائا من أعل. وهذا الاستعمال للفظ المحايثة» ليس فقط مشروعا وعلى وفق الاستعمال التقليدي المنقول، بل هو ايضا لا يجوز إنكاره وأنا قد استخدمت هذا اللفظ بهذا المعنى الأخير كما استخدمه أيضا الكاردينال Deschamps . . . وكثير من المفسرين المخلصين» (الكتاب نفسه ص ٥٩)