مكانة أرسطو التاريخية
لعل شخصية ما من الشخصيات لم تثر من لاعجاب الذي لاحد له، والنقد والحملة اللذين لاحد لهما أيضاً ،كما اثارت شخصية أرسطو وفلسفته. - فقد كان أرسطوفي نظر العصور الوسطى المثل الأعلى للفكر الإنسا^ي، وكانت فلسفته ينبوع الحقيقة التي إذا خالفها شيء فهوقطعا على ضلال . وهكذا نجد أنه طوال هذه العصور ، بل قبل هذا بكثيرحوالى مستهل القرن التاسع ، بدأت شخصية أرسطو تحتل المكانة الأولى في التفكيرلفلسفى . وحينثذجردمن مكانته التاريخية ، واصبح ينظر إلى فلسفته خارجة عن زمانا وعن عصرها، والبيئة الروحية التي نشأت فيها ، لأن هذه العصور كانت تنشد الفلسفة الأبدية ، وهي قد وجدتها في أرسطو ، فما الحاجة إذن إلى وضعه في موضعه التاريخي الحقيقي؟.
لكن جاء العصر الحديث فحطم ، أو-على الأقل - بدأ بأن هز هذا النير الذي طغى على التفكير في العصور الوسطى ، واصبح يعارض شخصية أرسطوكل المعارضة . واستمرت الحال على هذا النحو حتى الآن ، خصوصا في نظر انصار الفلسفة النقدية الذين اعتبروا فلسفة أرسطو الخصم الأكبر لفلسفة كنت ، ورأوا ان كنت قد يذل جهداً كبيراً في تحطيم الفلسفة الأرستطالية . وعلى هذا النحونظرلى فلسفة ارسطو على أنها خارجة عن عصره . وفي كلتا الحالتين لم يكن يراعى في تقديره النظرة التاريخية . أما اليوم فيجب الا ينظرإلى أرسطو خارجاً عن زمانه ، أوباعتبارأن فلسفته فلسفة دائمة لأن النقد التاريخي أو فلسفة التاريخ تدعونا إلى تقويمه بحسب العصر الذي نثاً فيه ، ودور الحضارة الذي ظهرإبانه ، ثم بحسب مميزات شخصيته الخاصة ، باعتبارها مقاومة لتيارات سابقة أو معاصرة ، ثم باعتبارها مبشرة بتيارات اخرى جديدة سيكون لها السيادة في العصور التالية .
وعلى هذا ، فإن بحثنا في مكانة أرسطو التاريخية سينقسم إلى ثلاثة اقسام رئيسية : القسم الأول يتعلق بوضع أرسطو الروحي في مجرى تطور الحياة الروحية في الحضارة اليونانية . والقسم الثافي يتعلق بطبيعة التفكير الأرستطالي ، وهنا ننظر نظرة منطقية صرفة إلى الدوافع الرئيسية والمهيئات البدائية التي جعلت ارسطويفكرعلى النحولذي فكربه ؛ والقسم الثالث ننظر فيه إلى أرسطو باعتباره صاحب مذهب ، فنحاول أن نبين الخطوط الرئيسية التي سار فيها مذهبه، والأفكار الموجهة التي قادت تيارات هذا المذهب ، والغاية التي كان يرجوها صاحبه من قيام هذا المذهب. ويمكنأننضيفإلى هذا كخاتمة ، معنى الفلسفة كما فهمه أرسطووكما خلفه للعصور التالية، والدوافع التي جعلته ينظرإلى معنى الفلسفة تلك النظرة الخاصة به.
فلننظر إذن اولاً في وضع ارسطو الروحي في الحضارة اليونانية ، فنقول إن أرسطوكان يمثل الدور الأخيرمن أدوار الحضارة اليونانية ، بالمعى الدقيق لكلمة الحضارة . فهوإذن مناظر من ناحية « التعاصر» لكنت في الحضارة الغربية ، إذ نجد ان كليهما تصل الحضارة عنده الى اعل درجة يلغتها ، وأن مذهب كلمنهما يعبر عن كل الأفكار السائدة من قبل، لأن المذهب عام يشمل كل النواحي السابقة . فارسطوفي الحضارة اليونانية ، أوكنت في الحضارة الغربية ، قد أعطى نظرة في الوجود شاملة ، هي اعلى ما وصلت إليه الحضارة في كل تاريخها ، حق ان مهمة العصور التالية لم تتعد الشرح والتفسير لهذا المذهب الذي جاء به ، أو اتخاذ أطراف معينة من نواحي مذهبه واليربها حقى نهايتها ، مما أدى بهذه المذاهب المتطرفة إلى ان تستنتج من مبادثها ما يجعل هذه المبادى، نفسها خط منطقياً.
هذا من الناحية العامة . أما من ناحية المذاهب الفلسفية الخاصة ، فيلاحظ أن أمثال هؤلاء المفكرين الذين يظهرون على القمة ، وعند نقطة التقاطع أو فترة الانتقال بين دور الحضارة ودور المدنية ، يكونون مذهباً ميتافيزيقياً ويكون للميتافيزيقا إلى جانب الفلسفة بفروعها الأخرى ، وإلى جانب العلم ، نصيب ، فهو - على الأقل - نصيب ضخم في إقامة نظرتهم في الوجود . أما بعد هذا العصر ، فلن تكون هناك غير مذاهب أخلاقية لا تعفى بما بعد الطبيعة ، إلا باعتبارها حلية أو شيئا مضافاً يكمل بها لمذهب، ولا تكون في الواقع اساساً له. وفي هذا الدورتستقل الفلسفة عن العلم تمام الاستقلال ، ويكون الشقاق قوياً بين الفلسفة والعلم ، كما يكون الشقاق كذلك قوياً بين النقل والعقل ، او بين الدين والتفكير النظري المجرد. فبعد أن كان الدين والعقل متزاوجين، أو- على الأقل - غيرمتعارضين، نجد في الدور التالي أن ثمة تعارضاً قوياً لحساب العقل والتفكير النظري الصرف على حساب الدين والتجربة الروحانية الوجدانية. والمفكر الذي يتسنم القمة مثل أرسطوفيما يتصل بالحضارة اليونانية، أوكنت فيما يتصل بالحضارة الغربية، يكون الشعور عنده بإقامة مذهب ميتافيزيقي صادراً عن هذا التوتر العظيم الذي شعر بوجوده في داخل نفسه، بين التفكير العقلي الذي يقتضيه النظر الخالي من الاعتقاد، وبين الإيمان الديني القائم على العاطفة والتجربة الروحية المباشرة. ولذا يكون المذهب الميتافيزيقي في هذه الحالة خالياً في الواقع من كل اسطورة، ويحاول قدر الاستطاعة ان يخرج عن الخوارق او اللامعقول، لكي يجعل كل شيء معقولاً. وهذه الظاهرة اوضح ما يكون لدى ارسطو، ومن هنا يمكن ان يفسرلنجاح العظيم الذي لقيه من جانب رجال العصورالوسطى سواءمنهم المسيحيون والملمون . فإن أمثال هؤلاء المفكرين الذين يشعرون بالتوتر العظيم بين النقل والعقل، او بين الدين والعلم، لا يجدون خيرا من هؤلاء المقيمين على نقطة التقاطع بين الحضارة والمدنية لكي يشبعوا هذه الرغبة.
فإذا طبقنا هذه المبادىء العامة على الفلسفة الأرستطالية-كماعرضناها في الصفحات السابقة-وجدنا أرسطويمتازبكلهذه الخصائص التي اتينا عل ذكرها ’ فهويمتازأولاً بأنه كان يمثل ، إلى اعلى درجة ، كل المذاهب السابقة . وهنا يجب أن يفرق بين امرين من الصعب أن يفرق بينهما بدقة ، ونعني بهما ان يستوعب المرء المذاهب السابقة من أجل ان يهضم ما فيها ويعلوعليه ، وأن يعرف الانسان المذاهب السابقة معرفة تاريخية صرفة ، لا يقصد بها إلا مجرد التأريخ. فالحال هنا تختلف تمام الاختلاف عن الحال هناك؛ ذلك أن الإنسان يبغي في الحالة الأولى من وراء معرفة امذاهب السالفة أن يقيم مذهباً قد شمل كل شىء ، وخلا من كل العيوب التي توجد في المذاهب السابقة ، على حين انه في الحالة الثانية لا يبغي من وراء التأريخ شيئاً آخر غيرمجرد العلم بالأشياء ، أي أنه ا ينتقل من ذلك إلى إخصاب فكره الخاص . وكل حالة من هاتين الحالتين تنتسب إلى دور خاص من ادوار الحضارة ، إذ تنتسب الحالة ا لأولى إلى دور أوج الحضارة وابتداء المدنية ، بينما تنتسب الحالة الثانية إلى الدور الأخير من ادوار المدنية . إذ هي قد وجدت في العصر القديم حوالى القرن الأول قبل الميلاد ؛ ووجدت في الحضارة الغربية ، أوتوجد-على الأصح - في القرن الذي نحيا فيه . فأرسطوإذن حينما يعرض للمذاهب السابقة لا يعرض لها لجرد العلم بالتاريخ ، وإنما يعرض لها من اجل استخلاص المشاكل ووضعها الوضع العحيح ، ثم إظهار ما هنالك من عيوب وما يبدو بإزائها من شكوك، ومحاولة تلافي الأولى وحل الثانية.
ويمتاز أرسطو ثانيا بأنه لم يفرق مطلقا بين العلم وبين الفلسفة . فقد نظرإلى المذاهب الفلسفية نظرة شاملة باعتبارها تكمل المذاهب العلمية،وإنكنا نجد أنه في الطور الأول قد بدأت اثار الاتجاهات المقبلة تظهر فيه ، إذ ذراه يعنى عناية خاصة بالمسائل العلمية على حساب امسائل الفلسفية، بعد ان كان في الطور الأفلاطوني وطور التنقل ، معنيا كل العناية بالأبحاث الفلسفية والميتافيزيقية بوجه خاص . وهذا شيء نستطيع ان نتلمسه ، ليس فقط فيما يتصل بالعلوم وفروع الفلسفة التي عني بها طوال تطوره الروحي ، بل نستطيع أيضاً ان نتلمسه في اي فرع من فروع الفلسفة ، بحسب تطوره طوال محياه . فنجد مثلا يالنسبة إلى ما بعد الطبيعة انها كانت في الطور الأول مؤثرة فيه إلى أقصى حد ، كما نجد ايضاً ان للدين والتصورات الثعبية تأثيراً كبيراً في إقامة مذهبه الفلفى . اما في الدور الثاني الذي تمثله خصوصاً الأجزاء القديمة من « ما بعد الطبيعة »، ثم «ما بعد الطبيعة » في اجزائه الرئيسية ، باستثناء الآثار الباقية ليتافيزيقا أرسطو كما ستظهر في الطور الأخير- نقول : إنا نرى في هذا الطور أن النزعة العقلية قد بدأت تسود المذهب الأرستطالي ، إذ قد حاول ارسطو قدر المستطاع أن يخرج كل تفسير إيمافي نقلي من حظيرة التفكير الميتافيزيقي ، كما أنع استبعد نائياً كل تفسيرأسطوري . ولكنا نجد في أواخر هذا الدور أن فكرة الله قد اخذت تتطور بتأثير الطبيعيات ، فإذا بنا ننتقل من فكرة الله الى فكرة المحرك الأول ، حتى اذا ما وافي الطور الثالث ، انتقلنا من التوحيد المشاهد بوضوح - خصوصاً في الطور الأول من الدور الثافي -إلى الشرك المتمثل في الفصل الثامن من مقالة اللام في نظرية عقول الأفلاك ومحركات الكواكب . فكأننا نجد ، في تطور علم واحد ، ان ارسطوقد مثل هذه الصلة بين العلم والدين تمثيلا دقيقا .
وهذا يشابه تماماً ما يشاهد في «فاوست» عند جيته. فالدساتير الأولى من فاوست تمثل الطور الأول من الحضارة الأوروبية، والجزء الأول من فاوست يمثل الطور الثاني، حينما تبلغ الحضارة الاوروبية أوجها ، وفاوست الثاني يبشر بدور المدنية الذي ستقع فيه الحضارة الغربية . فالحال هنا تماما كالحال بالنسبة إلى فاوست عند جيته، لأننا نجد أرسطو قد تطور في وضعه للميتافيزيقا نفس التطور الذي عانته الصلة بين العلم والدين في الحضارة اليونانية . فبينما كانت النظرة الدينية تسود في الطور الأول ، وتحاول أن تفسر الأشياء على هذا النحو ، نجد في الطور الثافي أن التفير العقلي هوالذي يسيطر على الاتجاه الفلسفي ، كما نجد في الطور الأخير أن اميتافيزيقا يجب أن تخرج من حظيرة التفكير ، لكي يحل علها علم الطبيعة بمعناه الدقيق . وأرسطوقد مثل هذه الأطوارخيرتمثيل في التطور الذي عاناه ، فاطرح في الطور الثافي النزعة الدينية التي تملكته في الطور الأول ، واستمسك بنزعة عقلية لا انر للأساطير الدينية فيها ، ثم انتهى في الطور الثالث إلى نزعة طبيعية عصفت بالميتافيزيقا فأطارتها من حظيرة التفكير، وبذا خرج ارسطو من التوحيد إلى الشرك .
ويمتاز ارسطو نالثاً ان الاخلاف عنده لم تكن كل شيء ، بل كان نصيبها ثانويا - في الواقع - بالنسبة إلى بقية العلوم الفلفية والعلوم الطبيعية، بينما كان المقام الأول لعلم ما بعد الطبيعة. هذا إلى ان التفير العقلي العلي الآلي، لم يكن السائد في تفكيره ، كما ستكون الحال بعد ذلك في المذاهب التالية ، وخصوصاً عند الرواقيين والأبيقوريين . بل نجد أرسطو يجمع بينه وبين التفكير القائم على النظر العقلي المجرد الذي يحكمه قانون العلية . وتلك هي الخصائص الحضارية العامة التي تتمثل في مذهب أرسطو .
أما فيما يتعلق بالمسألة الثاية المتصلة بطبيعة تفكيره الخاص ، فإننا نستطيع أن نتوصل إلى معرفة ذلك عن طريق المقارنة بين التفكير الأفلاطوفي والتفكير الأرستطالي، إذ نجد أن التفكير الأخيرمنطقي إلى أقصى درجة، بمعنى أنه يقوم على التحليل ولا يلجأ إلى التركيب إلا في النادرجداً وهذه النزعة المنطقية تسود كل نواحي التفكير الأرستطالي ، حتى ان الفلسفة عند أرسطو كادت ان تنتهى إلى تحليل للمفهومات والمعاني . وهذا ظاهر جداً في الملمج الذي اتبعه دانماً في نظره إلى المسائل الفلسفية ، إذ كان يبدأ بتحليل لفظي لغوي للمفهوم الذي هو بصدد دراسته ، ومن هنا كان للأبحاث اللغوية نصيب كبيرفي تفكيره , إلا ان النزعة العلمية قد حاولت أن تخفف من حدة هذه النزعة المنطقية الصرفة القائمة على التحليل ، فأضافت إلى التحليل التجربة والملاحظة . ولو ان ارسطو سار على المتهج الأول حتى النهاية ، لجاءت فلسفته فلسفة تصورية صرفة ، ليس فيها أدنى أثر للناحية التجريبية أوللناحية الموضوعية ٠ ولكن الناحية الثانية -وهى التجربة والملاحظة-قد انضافت^لى الناحية الأولى ، فطامنت من حدة النزعة التصورية ، وخففت من أثر طغيان الناحية الذاتية . وهذه الناحية الثانية هي الأساس فيما ينسب إلى ارسطومن واقعية ، مع ان هذه الواقعية يجب الا يغالى في تقدير قيمتها هنا ؛ ونقصد بالواقعية هنا النزعة التجريبية الحسية ٠ وقد كان هذا الاختلاف في المنهجين سبباً لتناقض وقع فيه ارسطو فيما يتصل بفكرة الجوهر الحقيقي 'و الجوهر الأول ، إذن ان أرسطو قد وصل إلى القول بأن الصورة هي الأصل، فكان عليه -فيكل فلسفته - أن يجعل الصورة هي كل ثي| في التفكير، وحيتذ سينحل موضوع لفلسفة-أ و واجبها - إلى تحليل للتصورات. ولكن ارسطو- تبعاً للمنهج التجريبي - قد قال ايضاً بالوجود العيني المتقوم إلى جانب الوجود الذهني ، فلم يشأ في هذه الحالة ان يكون صاحب فلسفة تصورية مطلقة ، على النحو الذي نراه في العصر الحديث ، عند هيجل مثلا .
ولعل العلة في هذا ، تلك الموضوعية الواضحة عند الروح اليونانية بوجه عام ؛ فالتعارض بين الذات والموضوع لم يكن موجوداً بهذه لحدة التي نراها في الحضارة الغربية ، وإنما كان هناك دائما توفيق بين الباطن وبين الخارج ، مع اختلاف في فهم هذا التوفيق فالموضوعية عند افلاطون تختلف عن الموضوعية عند توكيديدس المؤرخ ، وكلا النوعين يختلف عن الموضوعية عند أرسطو . فالموضوعية الأفلاطونية موضوعية فنية ، إن صح هذا التعبير ، فيها ينظر الإنسان إلى الموضوع الخارجى ، بعد أن يفترض ابتداء وجوده ، نظرة فنية جمالية باعتباره موضوعاً للتأمل الصرف؛ اما الموضوعية عند توكيديدس فهي موضوعية المؤرخ الذي ينظر إلى الأحداث التاريخية العظمى، فلا يجد غير التسليم بإزائها. فإذا كانت موضوعية افلاطون تثير لحماسة الفنية أو حالة الدهشة التي يوجد فيها الإنسان، او الحالة الوسطى بين الإيروس وبين الصوفيا ، فإن موضوعية توكيذيدس تضع الإنسان في حالة تسليم مطلق للقدر . اما الموضوعية الأرستطالية فقد خرجت عن كلا النوعين، فهي لم تبلغ من ناحية ، درجة الحماسة الأفلاطونية ، كما إي لم تنزل إلى مستوى التسليم المطلق والخضوع السلبي ، كما هي الحال عند توكيديدس، وإنما كانت صلة توازن تام بين الموضوع وبين الذات ، وعدم طغيان للواحد على الآخر، وا لنظر في وضوح ونصاعة إلى الموضوع من جانب الذات . ولكن يفترض دائما في كل انواع هذه اموضوعية ، اياً كان هذا النوع ، اننا ننظرالى الموضوع باعتباره موجودا لا سبيل إلى الشك فيه . وهذا من شأنه أن لا ينتهي بنا إلى المثالية الحقيقية، لأن كل مثالية بمعنى الكلمة يجب أن تبدأ من الذات ، ويجب كذلك أن تنتهي إليها ، فيكون التساؤ ل بإزاء وجود الموضوع -إن لم يكن الشك المطلق فيه - نقطة البء .
هذا فيما يتصل بال مسألتين الأوليين المتعلقتين بال منهج الأرستطالي العام وطبيعة التفكير. أما من ناحية المسألة الثالثة الخاصة بالأفكار التوجيهية الرئيسية ، فنستطيع ان نعد في القمة فكرة الهيولى والصورة . وهنا يجب أن نفسرمسألة يحسن التمييز فيها ، وإلا وقعنا في الخلط ، وهي مسألة المذهب الفلسفي . فقد نفهم من المذهب الفلسفي أنه مجموعة أقوال متناسبة بين بعضها وبعض ، كتناسب اجزاء البناء من حيث اوضاع الحجارة بم ، وقد نفهم من المذهب شيئاً آخر هو سيادة مبادىء اولية خصبة ، تحكم وتشد اجزاء المذهب المختلفة ، وتكون كالروح التي تسري في جميع أجزائه . فإذا فهمنا المذهب بالمعنى الاول ، لم نستطع ان نقول إن لارسطومذهباً ، لان ارسطولم يرتب أفكاره وأقواله على نحو ما تترتب أحجار البناء، وعلى النحوالمشاهد بصفة خاصة في المثالية الألمانية، وخصوصاً عند هيجل وكنت . وإنما كان لأرسطومذهب بالمعنى الثاني ، أي بمعنى ان هناك افكاراً رئيسية موجهة هي التي استخدمها في كل ناحية من نواحي العلم التي طرقها . والفكرة الرئيسية عنده ، والتي تسري في جميع اجزاء مذهبه، هي فكرة الهيولى والصورة، فهي الأصل في فكرة الجوهر، وفكرة الجوهر هي الأساس في علم ما بعد الطبيعة ، ثم في علم الطبيعة . أما من ناحية ما بعد الطبيعة ، فالصورة المطلوب الوصول إليها هي ماهية الأشياء الحقيقية ، ثم الصورة النهائية لكل هذه الماهيات أو صورة الصور ، وهي الله . وإذا كان معى الصورة هو الفكر ، لأن الصورة شيء روحي ، فإن حياة الصورة هي الفكر، وحياة صورة الصورهى الفكرالمطلق . إلاأن الفكر المطلق في هذه الحالة ليس فكراً خالياً يدور حول نفسه ، كما هى الحال مثلا باب إلى فكرة, الأنا المطلق،عند فشته؛وإنما يجاول أرسطو أن يكون أقرب إلى القوام وا لكيان ، فيضيف إلى هذا الفكر موضوعاً لا يستطيع أن يحدده ,
أما فكرة الصورة في علم الطبيعة فهي ما يسميه باسم الكمال 8اعي8ع٤٧522 ، والكلمة من حيث اشتقاقها في ليونانية تدل على الغاية ، إذ معناها بالتفصيل : ما يكون حاصلا على الغاية، أي ما يكون حاصلاً على الصورة , فالصورة هي الكمال، بمعنى انها غاية الحركة،وعلىهذا يجب أن يكون الموضوع النهائي للحركة هوالذي يتمثل فيه الكمال، بمعنى حصوله على الصورة إلى أعلى درجة ؛ وفي هذه الحالة لن يكون المحرك الحاصل على صورة الصور، باطنا في الاشياء ، بل يجب ان يكون شيئاً تميل الأشياء إلى ان تتحقق على أساسه ، ومن هنا كان المحرك الأول عالياً ، وكانت صلة الأشياء الأخرى بهذا المحرك صلة عشق .
وفكرة الهيولى والصورة هي في الآن نفسه فكرة القوة والفعل ، وقد راينا من قبل ، طوال عرضنا لمذهب أرسطو، ان القوة والفعل هما دائماً المفتاح الذي يلجاً إليه من أجل تفير كل شيء في أية ناحية من نواحي الفلسفة أو العلم . فكأن الفكرة الموجهة او الفكرة السائدة في المذهب الأرستطالي كلم هي فكرة القوة والفعل، أوالهيولى والصورة، والمعفى واحد.
وأخيراً نستطيع أن نقول إنه إذا كان أرسطوقد تظر إلى الفلسفة نظرة عامة شاملة باعتبارها متضمنة لجميع فروع المعرفة لانسانية - ولوأنه لم يستطع مع ذلك ان يدخل فيها تلك العلوم التي استقلت في الواقع ولم يكن من سبيل إلى إنكار استقلالها، مثل الرياضة وافلك - فإنه قد استخدم علما من العلوم الطبيعية الصرفة ، وهو علم الطب ، باعتباره علما فلسفيا إلى جانب العلوم الحيوية.
ومهما يكن من شي ء، فإنا سنجد العصور التالية تتجه اتجاهات هى جزئيات لمذهب أرسطو ، فبعضها - وهذا حدث في اللوقيون - يتجه اتجاهاً علمياً صرفاً ، كما هي الحال خصوصاً عند تلميذه العظيم اسطراطون اللمبساكي ، ثم جاء العصر التالي مباشرة، فكاد ينتقل المحور الرئيسي للفكر الأرسطي من اتكا إلى الأسكندرية في عهد البطالسة . وهنا استطاعت العلوم بفضل انغمالها انغمالا شبه تام عن الفلسفة أن تبلغ أعلى درجة بلغتها في العصور القديمة سواء في الجغرافية على يد إراتوستينيس ، أو ي الفيلولوجيا على يد كبار النحوين واللغوين والأثريين في الأسكندرية . هذا فيما يتصل باللوقيون ، أما من ناحية تطور الفكر اليونا في بعد أرسطو، فقد جرى تبعاً للمنطق الذي يجب ان يسيرعليه تطور الفكر في دور المدنية .