فيلون السكندري

فيلو الإسكندري أو فيلو السكندري أو (ايديدا بالعبرية)، ولد في 20 قبل الميلاد وتوفي في عام 50 بعد الميلاد، كما أطلق عليه اسم فيلو اليهودي، كان فيلسوفًا هلنستيًا يهوديًا عاش في الإسكندرية في الوقت الذي كانت مصر فيه مقاطعة رومانية.

استخدم فيلو الأمثال الفلسفية لمواءمة النص المقدس اليهودي، وخصوصًا التوراة، مع الفلسفة اليونانية. اتبعت طريقته ممارسات تفسير النص اليهودي والفلسفة الرواقية. كانت لممارساته أهمية بالنسبة لبعض الأساقفة المسيحيين، إلا أنه لم يلقى رواجًا بين اليهوديين الربانيين (اليهودية الحاخامية أو التلمودية). تبنى فيلو الاستعارات والعِبر بدلًا من التفسير الحرفي للكتاب المقدس اليهودي.

يرى بعض الباحثين بأن مفهومه حول «لوغوس» بكونه مبدأً إبداعيًا للرب أثر في بدايات الكرستولوجيا (دراسة طبيعة يسوع المسيح). ينأى باحثون آخرون ذلك التأثير المباشر، ويدعون استعارة فيلو والمسيحيين المبكرين أفكارهم من مصدر مشترك.

الحدث الوحيد من حياة فيلو الذي يمكن تأريخه بدقة هو مشاركته في البعثة إلى روما عام 40 ميلادية. كان ممثلًا عن يهود الإسكندرية أمام الإمبراطور الروماني غايوس، بعد نزاعات قامت بين يهود الاسكندرية والإغريق. توجد تفاصيل هذا الحدث وبعض السير الذاتية الأخرى ضمن أعمال كل من فيلو ويوسيفيوس، خصوصًا في (السفارة إلى غايوس) الذي لم ينجو منها سوى مجلدان من أصل خمسة.

استوحى فيلو فكرته فيما يخص أعماله «حكمة سليمان» ومهن كل من طائفتي الأسينيون اليهودية والثيرابوتي من «أرسطوبولس أوف بانياس» ومدرسة الإسكندرية اليونانية. لم يُزعم بكون فيلو قديسًا أو ملفانًا أبدًا في حياته.

حياته

يُرجح بأن فيلو ولد باسم يوليوس فيلو. عاصر أجداده حكم الطالمة والسلوقيين. رغم عدم معرفة هوية والديه، إلا أنه من المعروف بأن فيلو قدم من أسرة رفيعة المستوى ومبجلة وثرية. حصل إما والده أو جده من أبيه على الجنسية الرومانية من الحاكم الروماني غايوس يوليوس قيصر. كتب جيرو أن فيلو جاء من أسرة كهنوتية. كان لعائلته روابط اجتماعية وعلاقات مع جماعة الكهنوت في يهودا (جنوب فلسطين حاليًا) والسلالة الحشمونية والسلالة الهيرودينية والسلالة اليوليوكلاودية في روما.

كان لفيلو شقيقان، الاسكندر الأبرخ وليسيماخوس. وكان لديه اثنين من أبناء أخيه الاسكندر، تيبيريوس يوليوس الاسكندر وماركوس يوليوس الاسكندر. كان الأخير الزوج الأول للأميرة الهيرودية بيرينيس. توفي ماركوس في 43 أو 44 ميلادية.

زار فيلو المعبد الثاني في القدس مرتين على الأقل خلال فترة حياته. عاصر فيلو السيد المسيح وتلامذته. حظي فيلو وأشقاؤه بتعليم جيد. تعلمو عن الحضارة الهلنستية للإسكندرية والثقافة الرومانية، ووصل إلى درجة كبيرة من المعرفة حول الحضارة المصرية القديمة، لاسيما تلك التي تخص التقاليد اليهودية، بالإضافة إلى دراسة الأدب التقليدي اليهودي والفلسفة اليونانية.

من غير المعروف تاريخ ولادة ووفاة فيلو، إلا أنه من الممكن تخمينهم عبر وصفه لنفسه «رجل كبير في السن» عندما كان فردًا في البعثة إلى غايوس كاليغولا عام 38 ميلادية. يقدر بروفيسور التاريخ اليهودي دانييل شوارتز تاريخ ميلاده بين 10 أو 20 قبل الميلاد. يشير ذكر فيلو إلى حدث حصل خلال فترة حكم الإمبراطور كلاوديوس على أنه توفي في وقت ما بعد العام 41 ميلادية.

السفارة إلى غايوس

في كتابه (السفارة إلى غايوس) يصف فيلو مهمته الدبلوماسية إلى غايوس كاليغولا، وهو واحد من الأحداث القليلة التي نعرف تفاصيلها في حياته. أشار إلى أنه كان يحمل عريضة تصف واقع المعاناة التي يعشيها يهود الإسكندرية ويلتمس من الإمبراطور تأمين حقوقهم. أعطى فيلو وصفًا أكثر دقة لمعاناتهم من يوسيفيوس، وذلك لإيصال فكرة أن يونانيي الإسكندرية هم الجانب المعتدي في الصراع الأهلي الذي خلف العديد من القتلى اليهود واليونانيين.

عاش فيلو في فترة زاد فيها التوتر العرقي في الإسكندرية، والذي تفاقم مع القيود الجديدة التي فرضها الحكم الامبراطوري. أدان بعض المغتربين اليونانيين في الإسكندرية اليهود لتحالفهم المفترض مع روما، حتى مع قمع روما للقومية اليهودية في يهودا. في كتابه (ضد فلاكوس)، يصف فيلو حال اليهود في مصر، إذ وصل ما لا يقل عن مليون نسمة وتوطنوا في منطقتين من الأحياء الخمسة للإسكندرية. يروي انتهاكات البريفيكتوس أولوس أفليليس فلاكوس، الذي انتقم ردًا على اليهود لرفضهم الامتثال لعبادة كاليغولا بوصفه إلهًا. يرى دانييل شوارتز أنه بالنظر إلى هذه الخلفية المتوترة، كان من الأنسب له سياسيًا تفضيل التوحيد الربوبي على المجاهرة العلنية باليهودية.

يرى فيلو بأن غاية كاليغولا بتشييد تمثال له في المعبد الثاني حركة استفزازية، ويسأل، «هل ستخوض علينا حربًا لأنك تتوقع بأننا لن نتحمل إهانةً كهذه، وأننا سنقاتل لأجل مواثيقنا، ونموت دفاعًا عن أعرافنا الوطنية؟ لأنه من غير المعقول أن تكون جاهلًا للحد الذي لا تعلم به نتاج محاولاتك استقدام مثل هذه البدع إلى معبدنا». أظهر فيلو في جميع ما عُرف عنه دعمه على نحو مطلق الالتزام اليهودي بالتمرد ضد القيصر إزاء ما يحصل من تدنيس للمقدسات.

أثنى العديد من الناس على رجاحة عقل فيلو مقارنة بسنّه ومدى تعلميه ومعرفته. ما يشير إلى أنه كان رجلًا كبيرًا في السن سنة 40 ميلادية.

في كتاب (عاديات اليهود)، يحكي يوسيفيوس عن اختيار فيلو من قبل الجالية اليهودية الاسكندرانية كممثل رئيسي لهم أمام الإمبراطور الروماني غايوس كاليغولا. ويقول بأن فيلو وافق على تمثيل يهود الإسكندرية على خلفية الاضطراب الأهلي الحاصل بين اليونان واليهود. يروي يوسيفيوس أيضًا خبرة فيلو في الفلسفة، إضافةً لكونه أخًا للاسكندر الأبرخ. تبعًا ليوسيفيوس، رفض فيلو والجالية اليهودية الأكبر اعتبار القيصر إلهًا وتشييد التماثيل له أو بناء المذابح والمعابد. يقول يوسيفيوس بأن فيلو اعتقد بدعم الرب الواضح لهذا الرفض.

أكمل يوسيفيوس تعليقاته حول فيلو

«بدأت جلبة بالظهور في الإسكندرية بين القاطنين اليهود واليونانيين؛ واختير ثلاثة سفراء من الأطراف المتنازعة والذين قدموا إلى غايوس. كان أبيون واحدًا من سفراء أهل الإسكندرية، والذي جدّف كثيرًا على مقدسات اليهود وجحد بها، ومن بين أمورٍ أخرى قالها، اتهم اليهود بتجاهل المنزلة الشرفية لقيصر؛ إذ أنه في حين قيام جميع من خضعوا للإمبراطورية الرومانية ببناء المذابح والمعابد لغايوس، واعتبره بعضهم بمنزلة الآلهة، وحدهم اليهود من اعتقدوا تشييد النّصب له شيئًا مشينًا بحقهم، كما القسم باسمه. روى أبيون الكثير من الأشياء القاسية التي هدف من ورائها إلى استفزاز غايوس لصب غضبه على اليهود، كما كان مرجّحًا له أن يفعل. إلا أن فيلو، زعيم الوفد اليهودي، وهو رجل مرموق على كل الأصعدة، وأخ الاسكندر الأبرخ، ورجلٌ حنيف في الفلسفة، كان على استعداد ليراهن على نفسه ضد تلك الاتهامات؛ إلا أن غايوس نهاه عن ذلك وصرفه؛ وكان في حالة شديدة الغضب جعلت من الواضح التفكير بأنه على وشك التسبب بأذىً كبير. خرج فيلو مهانًا، وقال لليهود ممن هم حوله بأنه عليهم التحلي بقدر من الشجاعة، إذ أن كلمات غايوس أظهرت له غضبه نحوهم، إلا أنه في الواقع كان قد سلط غضب الرب على نفسه».

فيلون

أ ل فيلسوف يهودي، جمع بين الفلسفة واللاهوت ويعد

فيلون

لاهوتياً اكث مما يعد يدرنا، لأن الأصل عنده لم يكن الفلسفة وإنما كان الدين؛ ولأول مرة سنجد النزاع الفري بين الفلسفة وبين الدين، أو بين العقل والنقل، عند أول الأديان السماوية الثلاثة الرئيسية، ونعفي به الدين اليهودي .

يمتاز فيلون عمن سبقه من المفكرين اليهود بأننا نجد لديه لأول مرة الحقيقة الدينية وقد وضعت في صيغة فلسفية ، والمبادىء العقلية الصرفة التي تقوم عليها الحقيقة الدينية ، كما نجد المعارضة بين ما يقتضيه العقل وبين ما اق بم النقل واضحة مشعورا بها كل الشعور . فقد كان التفكير اليهودي في الإسكندرية إلىما قبل ذلك التاريخ لا يكاد يتجاوز هذه التأثرات البعيدة التي غزت الإسكندرية في ذلك العصر، ما أدى إلى قيام نهضة في الفكر اليهودي في الإسكندرية كان مظهرها الأول ترجمة التوراة إلى اللغة اليونانية. ولكن الشخصيات التي عنيت بالوقوف موقفا خاصاً بإزاء هذه الحقائق القتي أتت بها الفلسفة اليونانية لم تكن بذات قيمة كبيرة ، ولذا جاءت ابحاثها أقرب ما تكون إلى اللاهوت والكلام منها إلى الفلسفة بالمعفى الصحيح . وإنما نجد ذلك مثلا لأول مرة عند فيلون الذي استطاع أن يجمع بين الثقافة اليونانية - وقد حصل معظم اجزائها وإستطاع ان يحيط بها إحاطة كبيرة - وبين التفكيراليهودي الذي كان يؤمن به الى جانب هذا إيماناً كبيراً . فلم يكن لم حينثذ ان يرفض الواحد لحساب الآخر، وإنما كان ممثلا لذلك النوع من الفكر الذي. هوخليط بين الفلسفة والدين أو بين التفكير العقلي والفهم النقلي ، ما يجعل لفيلون في هذا الباب أهمية خاصة ، خصوصاً إذا لاحظنا اننا نتطيع ان نعد. النموذج لاعلى الأول لكل تيار فكري سار في هذا الاتجاه ما سنراه واضحا كل الوضوح فيما بعد ، إن في الفلسفة المسيحية أوفي الفلسفة الاسلامية.

وإنا لنرى فيلون في أول الأمر مؤمنا باليهودية كل الإيمان : يؤمن بكتبها ويعتقد أن هذه الكتب لا يمكن أن تكون إلا إلهية صادرة عن وحي إلهي وإلا لما استطاعت البقاء تلك المدة الطويلة، فبقاؤها دليل إذن على مصدرها الإلهي. وهر .لا يتثني من هذا كتابا من الكتب التي تشتمل عليها التوراة ، وإنما يأخذ بها كلها ولا ينكر صحة أي كتاب منها ، بل ولا ينكر ان تكون » الأسفار الخمسة » من وضع موسى حقا . وعلى هذا نستطيع أن نقول من هذه الناحية إنه كان

مؤمناً أشد الإيمان بالحقائق النقلية . وكان إلى جانب هذا من ناحية أخرى شديد العناية بالفلسفة اليونانية ، وذلك لأن الفلسفة اليونانية قد غزت العقول في ذلك العصر ، وكان على العقول المفكرة ان تقف موقفاً واضحاً بإزاء هذه الفلسفة فيما يتعلق بصلتها بالحقائق الدينية اليهودية ، فكانن طريقة فيلون في اخذه للمذاهب اليونانية أن يقول إغها هي الأخرى تعبر عن الحقيقة ، فإذا كانت التوراة تعبر هي الأخرى عن الحقيقة ، والفلسفة اليونانية كذلك فلا ضيرإذن على رجل الدين أن يأخذ بكلتا الثقافتين . وكل ما هنالك من فارق بين الفلسفة اليونانية والأقوال الدينية أن الأقوال الدينية أكمل وأتم وإن كات أقل تفصيلا وتدقيقا، بينما الفلسفة اليونانية أقل شمولا ، ولكنها أكثر تفصيلا وأدق صياغة . لهذا كان على فيلون ان يبين ما هنالك من صلة وثيقة بين الفلسفة اليونانية وا لديانة اليهودية .

وقد كانت ثقافة فيلون أقرب إلى اليونانية منها إلى العبرية ، لأنه كان يأخذ ثقافته مباشرة عن التراجم اليونانية للنصوص العبرية أكثر من أن يأخذها عن الأصول العبرية نفسها ، فكان تأثره بالفلفة اليونانية اوضح في الواقع واشد من تأثره بالديانة اليهودية ٠ ومن هنا كان أقرب ما يكون إلى المفكر الذي يفكر حراً ، مع إضافته - لكي تتفق الحقيقة الدينية مع الحقيقة الفلسفية -شيئا من الأقوال الدينية لكي لا تكون هذه الحقيقة الفلسفية عارية اوخارجة عن الدين . وإن كان الطابع اللاهوقي مع ذلك لا يزال يطبع جميع تفكيره حتى ليمكن أن يقال إن الأصل في التفكيرعند فيلون ليس هو الفلسفة ثم انتقل منها إلى الدين ، وإنما يجب ان يقال إن الأصل هو الدين ، وليست الفلسفة لديه إلا عدة ووسيلة لاكتناه الحقيقة الدينية.

وعلى الرغم من هذا نرى فيلون حريصاً على ان يطرح من نفسه كل تعصب ديني . فهو لا يؤمن فقط بما قاله الفلاسفة اليونانيون ، وخصوصاً بما قاله افلاطون ، بل ا ينكر كل فضل وقيمة للدين الشعبي اليوناني. ونحن نراه في تفكيره كثيراً ما يتأثر بالمعتقدات الشعبية عند اليونان ، فهو مثلا في نظريته في الكواكب بحسبانها أجاما حية - وإن كان هذا القول قد فال به أيضاً أرسطو في صررة مهذبة - نقول إن فيلون في قوله بهذا القول ، إنما تأثر أكثر ما تأثر بالعقائد الدينية اليونانية الشعبية . ومن بين المفكرين اليونانيين الذين

فيلون

عني بهم فيلون اشد العناية نرى في المقام الأول افلاطون ، ثم الفيثاغورية المحدثة والرواقية. أما المدرسة المثائية الجديدة التي يمثلها شراح ارسطو وعلى رأسهم الإسكندر الأفروديسي فلم يكن له أن يعفى با ، لأن التدقيق العلمي الذي جرت عليه هذه المدرسة ما كان ليتفق مع النزعة الصوفية التي سادت تفكير فيلون .

ولكن ، إذا كان فيلون قد اضطر إذن إلى الأخذ بهاتين الناحيتين ، فإنه كان لا بد يشعر شعوراً قوياً واضحاً بالتعارض بين الحقيقة الدينية والحقيقة الفلسفية العقلية ، فيا السبيل للتخلص من هذا التعارض او للقضاء عليه ؟او ما السبيل لبيان ما هنالك من تشابه قوي بين الفلسفة اليونانية والديانة اليهودية ؟ وجد فيلون أمامه طريقين : الأول الاعتقاد بتأثير الديانة اليهودية في كل التفكير اليونافي ، ثم تفسير النصوص الدينية من ناحية اخرى تفسيراً يتلاءم مع الحقائق التي أتت ها الفلسفة اليونانية ، أي اتخاذ طريقة , التفسير الرمزي » في النصوص الدينية . فمن الناحية الأولى يقول فيلون إن الأصل في كل تفكير كائنا ما كان، الديانة اليهودية، فهي التي اثرت في كل تفكير سواء اكان تفكيراً يونانيا ام غيريوناني ، ولا نستطيع ان نجد مكانا عل الأرض في عصر من العصور لم يتأثر بهذه الديانة ولا يجد فيلون حرجا في ان يقول إن مذهب هرقليطس في الأضداد قد أخذ مباشرة عن سفر 1 التكوين ا، كما ان الصورة التي اعطيت عن الحكيم اليوناني مثلا هي نف الصورة التي تجدها في قصة أيوب . وهكذا نجد باستمرار أن الفلاسفة اليونانيين في كل افكارهم قد تأثروا تأثراً كبيراً بالتفكير اليهودي الممثل في النصوص الدينية اليهودية الباقية .

ولكن لكي يفلح هذا المنهج، ولكي يكون في وسع فيلون ان يبين ان كل الأفكار اليهودية توجد في الفلسفة اليونانية ، كان عليه أن يفسر النصوص الدينية تفسيراً رمزياً على اساس اها تحتوي جميعاً عل هذه الافكار التي اتت بها الفلسفة اليونانية . فباتخاذ منهج التفسير الرمزي يستطيع أن يبين هذه الحقيقة ، وهي ان الأفكار اليهودية توجد بتمامها في الفلسفة اليونانية . وكل ما هنالك من فارق، إنماهو في صياغة الحقيقة الدينية في الفلسفة اليونانية بطريقة واضحة مفصلة . وهذا المنهج الخطر جداً في استعماله والذي يستعين بم دائماً رجال الدين في كل لحظة يجدون فيها النص الديني لا يتلاءم في حروفه ومعانيه الظاهرية ،معما يؤدي إليه التفكير

العقلي ، هذا المنهج قد استخدمه ، أو اساء استخدامه ، فيلون إلى اقصى حد. وهويشبه النص بالجسم، والمعفى الرمزي بالروح ، ويستطيع الإنسان أن يأخذ بواحد من الاثنين؛فهذ الا قيمة له في الواقع في نظر فيلون. ولكنا نراه يميل إلى الأخذ بالمعفى الرمزي، أو الروح، على حاب الأصل الذي يؤخذ مباشرة من النص بحروفه . فهو وإن كان قد شعر بما هنالك من تعسف شديد ، بل واحياناً كثيرة من مغالطة ظاهرة واضحة ، نجد انه مع ذلك يأخذ بهذا المنمج الرمزي في كل شى ء تقريباً ، لأنه مضطر إلى هذا نظراً إلى ما هنالك من خلاف بين بين الفكر اليونان والأقوال اليهودية ، وهو لا يعتمد في هذا فقط على تأويل الألفاظ بحب اللغة القي كتبت بها ، ل وعلى تأويل الألفاظ بحسب لغات اخرى ، فئرا. مثلا يغسر اشتقاق بعض الألفاظ العبرية عن طريق الفاظ يونانية ، ع أنه لا صلة مطلقاً من ناحية الاشتقاق بين هذه الألفاظ اليونانية والألفاظ العبرية. بل وأكثر من هذا يذهب إلى حد اتخاذ الترجمة الخاطئة لبعض فصول التوراة كأساس لهذا المنهج الرمزي ، لأنه يجد في هذه الترجمة الخاطئة ما يعينه أكثر على تطبيق هذا المنهج ، فليس بغريب إذن أن ينظر الى هذه الترجمة اليونانية على اها أصح من الأصل العبري .

وقك قلنا إن فيلون شخصية لاهوتية قبل كل شيء ، وقكنا ايضاً إنه دأ من الدين واستعان بالفلسفة - لا العكس ، كما هي الحال بالنسبة إلى جميع الفلاسفة اليوتانيين السابقين ، والى كل فيلسوف حقيقي ؛ ولهذا نجد ان الحقيقة الدينية عنده هي الأصل في كل تفكير وهي التي تطبع الحقيقة العقلية لديه بطابعها الخاص ، ومن هنا كان علينا ان نبداً ببيان الحقيقة الدينية عند فيلون ، اي بالناحية اللاهوتية في تفكيره، كي ننتقل منها فيما بعد إلى الناحية بالمعفى الضيق.

وهذا يبدو اول ما يبدو بأوضح صورة في فكرة فيلون عن الله وهنا نجد لأول مرة في تاريخ التفكير الديني أو الميتافيزيقي فكرة اللامتناهي، بوصف انه اعلى درجة من المتناهي. فالحال قد انقلب هنا إلى الضد تماما مما كانت عليه الحال من قبل في التفكير اليوناني : فقد كان اليوناني ينظر إلى اللامتناهي على انه احط درجة من المتناهي ، لأن المتناهي هو الذي له طبيعة وهو المحدود ، وماله طبيعة وما هومحدود اعى درجة قطعاً من الثيء اللامتناهي ، غير المعدود بطبيعته . ولكنا نجد فيلون - وكان في هذا خارجا على الروح اليونانية -

٢٢٢

فيلون

يقلب الوضع فيجعل اللامتناهي اعلى درجة من المتناهي على اساس )ن اللامتناهي هو الذي يعم ويشمل كل متناه ، ومن حيث ان اللامتناهي هو الحاوي لصفات لا حصر لها ، بينما المتناهي هو الذي يشتمل على صفات محدودة ، أوغهائية ، وما هوأدفى في الصفات هوقطعا أدفى في الدرجة ، كما أن ما هو أعلى في الصفات أعلى في الدرجة-لهذا فإن اللامتناهى، اعني الذي يشتمل على كثيرجداً لم لا يتناهى من الصفات اعلى من المتناهي أي الذي يشتملعلى عدد محدود معلوم من الصفات، ومن هذا التفسير لفكرة المتناهي وغير المتناهي (اللامتناهي) عند كل من التفكير اليونافي وتفكير فيلون، نجد ان ما يقصده الواحد من المتناهي واللامتناهي ليس هوالذي يقصده الآخر. فاللامتناهي عند اليونان هو الذي لم يأخذ صورة بعد، أو الذي تكون صورته ناقصة، ويقبل اتخاذ اية صورة، والمتناهي هو الذي أخذ صورة معينة وأصبح ذا طبيعة معلومة. أما عند فيلون فإن اللامتناهي هوالذي لا يمكن حصر صفاته، ولا يقصد به الذي لا توجد له صفة معلومة. والمتناهي هو المحصور الصفات، ولا يقصد به المعلوم الصفات. فيجب أن نلاحظ هذا الفارق بالدقة ونحن نفسر التفرقة بين المتناهي واللامتناهي عند كل من التفكير اليونافي وتفكير فيلون، أو التفكير الديني من جهة أخرى بوجه عام :

والله، لماكان هو اللامتناهي، لأنه يشمل كل الصفات الكمالية الممكنة أو الموجودة ؛ ولما كان من ناحية أخرى يشمل هذه الصفات اللامتناهية بدرجة لا متناهية ، ولما كان العقل الإنسافي من ناحية أخرىغيرقادر على إدراك اللامتناهي- لهذاكله ا نستطيع في الواقع أن ندرك الله. ولهذا نجد فيلون من ناحية ينظر إلى صفات الله بوصفها سلوبا ، ولكنا نجده من ناحية أخرى ينعت الله بصفات إيجابية ؛ لأنه لا بد له أن يحدد هذه الصفات السلبية على أساس فكرة لديه عن ماهية الصفات الثبوتية الواجبة لله ، ولم يستطع فيلون أن يتخلص من هذا التعارض بين الصفات الثبوتية وبين الصفات السلبية ، ولهذا فسنشيرفقط إلى أنه قال بكلتا الناحيتين دون أن يستطيع أن يحل هذا التعارض بين الاتجاهين ، لأنه كان في الواقع إما أن يأخذ بالاتجاه السلبي في تحديد صفات الله أو أن يأخذ بالاتجاه الإيجابي في تحديد هذه الصفات . ولم يكن في استطاعته ان يتخذ سبيلا ثالثا ، إلا إذا كان ذلك على اساس التصاعد بين الصفات الإيجابية والصفات السلبية ، من حيث ان السلب تال بعد هذا للايجاب ، ويكون السلب أو الصفات السلبية في درجة أعلى

من الإيجاب أو الصفات الإيجابية ( الثبوتية).فمن الناحية الأولى ، أي من ناحية الصفات السلبية التي ينسبها فيلون إلى الله ، يرى فيلون أن الله هو اللامتناهي في مقابل المتناهي، والحاوي في مقابل المحوي ، والثابت في مقابل المتغير، والداثم في مقابل الزائل، والكامل في مقال النافص، والأبدي في مقابل الحادث أو المخلوق .

ولن يستطيع الانسان أن يجدد صفات الله بطريقة اوضح وأكثر تفصيلا ، لأن كل ما يستطيع أن يصل إليه من صفات لا بد أن يكون مما هوفي نطاق عقله ، وما هوفي نطاق العقل مأخوذ مباشرة عن طبيعة العقل المخلوق الناقص المتناهي ، وما يصدر تبعا لهذا عن ذلك العقل يتصف جهذه الصفات المتنافبة مع صفة اللامتناهي . وإذا قلناعن الله إنه متصف بصفة ما ، فذلك يكون بطريقة سلبية باستمرار : فنقول عنه إنه فاضل افضل من الفضيلة ، وخيرأكثر خيراً من الخير، وحكيم أكبر حكمة من الحكمة ، وقادر اكثر قدرة من القدرة ؛ وهكذا باستمرار : لا نستطيع ان نضيف إلى الله إلا هذه الصفات السلبية، لأننا إذا أثبتنا له صفة إيجابية، فقد أضفنا إليه صفات تتعارض تمام التعارض مع طبيعته . ولهذا نجد فيلون لا يريد أن يبقي على أية صفة من صفات اشه ، بل ينعته بأنه الموجود بلا كيف ولا صفة اًص٢0اًغ ، ويخرج كل الصفات الأخرى عن الله ، ولا يبقي له غيرصفة واحدة هي صفة الوجود ، فنحن نعرف أن الله مرجود ، ولكننا لا نعرف مطلقا كيفية هذا الوجود ؛ فهوإذن وجود بلا كيف ، لأنه ليس في مقدورنا أن نحدد طبيعة هذا الكيف . ولذا يجب الا نبقي من بين أسماء اله إلا اسم واحد ، وهو الاسم الذي يدل على الوجود أعني : « يهوا».

ولم يكن لفيلون ان يقول بهذه السلبية لله ، إلا لأن في ذهنه نموذجا على الأقل للصفات الإيجابية اللائقة به ، وهوقد اضطر على أقدر تقدير أن يضيف إلى الله صفة الوجود ؛ وكان مضطراً إلى هذا بطبيعة الحال لأننا لوسلبناعن الله صفة الوجود ، فلن يكون ثمت داع بعدئذ للتحدث على وجه الإطلاق . ومهما يظهر في فكرة الوجود بالنسبة إلى الله من تناقض يتنافى مع مقام الألوهية - إذا ما فسرنا وجود الله على النحو الذي نفهم به الوجود الإنسافي- فإن فيلون، واللاهوت السلبي بوجه عام ، قدأضطر، دادا إلى إضافة صفة الوجود إلى الله . ولذا كان على فيلون أن يقول بأن لله صفات ثبوتية إلى جانب الصفات السلبية التي ذكرناها من فبل.

فيلون

٢٢٣

وهذه الصفات الإيجابية يجب ان يراعى فيها أولاً وقبل كل شيء ان تكون ممثلة لكمال الله إلى اعلى درجة ، فإذا وصفناه بالعلم فيجب ان يكون هذا العلم اعلى درجة من العلم ، وإذا وصفناه بالقدرة كانت هذه القدرة أعلى درجة من القدرة ، وكذلك الحال في بقية الصفات التي نعزوها إيجابياً إلى الله ، والمنهج الذي يجب ان يستخدم في هذه الحالة هو منهج المماثلة أو التمثيل ، والتمثيل هنا ينسحب من الإنسان على الله ، فنضيف إلى الله الصفات الرئيسية التي تكون صفات الكمال في الإنسان.

ويعنينا خصوصاً من بين الصفات الإيجابية التي يضيفها فيلون إلى الله صفتان : الأولى الخير، الثانية القدرة. أما عن صفة الخير ، فيلاحظ ان فيلون ينعت الله بأن صفته الأولى والرئيسية التي تترتب بالنبة إليها بقية الصفات هي صفة الخير ، فاش عنده مصدر للخير في الوجود ، ولولاه لما كان ثمت خير . وهو هنا قد تأثر بأفلاطون حينما جعل من فكرة الخير الفكرة الأولى وصورة الصور ، وتبعا لهذا القول أنكر فيلون ان يفعل الله القبيح ، فكل ما يفعله الله خير ، وكل ما يصدر في العالم من شر لا يمكن إضافته إلى اله ، لأن ما هو خير لا يمكن أن يصدر عنه إلا الخير ، وإنما يصدر الشر عن عنصر مضاد لته ، وهذا العنصر- كما سنرى بعد قليل - هو لمادة ، والصفة الثانية هي صفة القدرة ، وهنا يلاحظ ان فيلون قد حاول ان يجمع بين صفات الله عند الرواقيين ، وبين ما أق به- والأديان جميعا-من فصل بين العالم وبين الله ؛ فهو ينظر إلى الله عى أن له قدرة؛ لأن الأصل في الله دائماً ان يفعل ، وفعلهم يسود العالم اجمع ، ولكن هذا الفعل -إذا ما أردنا أن نصون الفارق والهوة البعيدة بين الله وبين الحوادث أو المخلوقات-لابد أن نتصوره بطريقة من شأغها أن تحول بيننا وبين النظر إلى هذه القدرة بوصفها علة باطنة في الموجود ، وإنما هذه القدرة عند فيلون قدرة عليا بها يتم حدوث الأشياء وتحركها وكل ما يجري في الكون من أحداث . ولكن ذلك لا يتم مباشرة بأن تتصل هذه القوة العليا المخلوق ، وإنما يتم ذلك عن طريق عدة وسائط . وهذه الوسائط هي القوى الإلهية . والقوة الإلهية عدة أنواع عند فيلون ، يعى بأن يذكر من بينها خصوصاً أربعة أنواع : فهو يذكر أولا الأنواع التي على مثال الصور الأفلاطونية وهي التي تكون نماذج يخلق على غرارها ما هو موجود، والقوى الثانية من نوع القوى العنصرية السائدة في الطبيعة عند الرواقيين ، والنوع الثالث هو الملائكة في المعتقدات

اليهودية ، والنوع الرابع هو الجن في المعتقدات الشعبية اليونانية . وعن طريق هذه القوى المختلفة يتصل الله ، أو فعل الله بالكون ، والله لا يدرك في الواقع في فعله من حيث هوفعل ، ولكن في اثارهذا الفعل . والذي يعنينا خصوصا فيما يتصل بنظرية الوسائط هذه ، « فكرة الكلمة» أو ال لوغرس 10205.

وتاريخ هذه الفكرة تاريخ شائق ؛ فقد تطورت كثيراً عند اليونان ، وعند اليهود وعند فيلون ، وعند المسيحية بوجه خاص . فهناك مقدمات تاريخية كثيرة لنظرية اللوغوس سواء في الكتابات اليهودية اوفي الفلسفة اليونانية . ففيما يتصل بالكتابات اليهودية نجد ان اللوغوس يذكر مراراً في الكتب الأولى من التوراة كما يذكر في كتاب « الحكمة» المنسوب إلى سليمان ، والذي كتب في الراقع في عهد الإمبراطور اغسطس ، على صورة الصوفيا أو الحكمة ثم نجد بعد ذلك ان فكرة الكلمة قد لعبت دوراً خطيراً في المسيحية عن طريق الإنجيل الرابع، ولسنا ندري على وجه التدقيق في اي وقت كتب ، وإن كان الأرجح أن يكون قد كتب في القرن الثاني وتحت تأثير فيلوني صرف ، ولو ان كثيراً من المؤرخين ممن يريدون ان يثبتوا اسبقية الإنجيل الرابع على أقوال فيلون في الكلمة يقولون إن فيلون لم يكن الأساس في فكرة الكلمة في الإنجيل الرابع ، وإنما اضيفت ، اسحالا ، هذه الكتب التي تعبر عن فكرة اللوغوس إلى فيلون، فالمصدر الأصلي سيكون حينثذ الإنجيل الرابع ، وليس العكس؛ ويهذا الرأي قد اخذ بعض المؤرخين ، ولكن الراجح الآن ان فيلون قد قال وتوسع جداً في مذهب اللوغوس واخذه عن مقدمات تاريخية يونانية ويهودية ، وأن الانجيل الرابع هو الذي كتب تحت تأثير فيلون .

وأيا ما كان الرأي، فإنه يشاهد ان اليهودية في كتاباتها المقدسة كان لها أثر كبير في تفكير فيلون من حيث نظرية اللوغوس ، ولكن الأثر الحقيقي الأكبر في هذه الفكرة عند فيلون هو الفلسفة اليونانية ، فنحن نجد من ناحية ان فكرة للوغوس قد لعبت دوراً خطيراً جداً عند الرواقيين على أساس انها القوة التي تحفظ الموجودات جميعاً أو على انها العلة المشتركة المقومة لجميع الأشياء ، إلا انه يلاحظ أننا لا نستطيع ان نعد الرواقية وحدها هي المصدر لنظرية فيلون في الكلمة ، فإن الكلمة عند فيلون تحتفظ بدرجة وسطى بين الله أو الألوهية وبين المخلوق ، بينما نجد الكلمة عند الرواقية قد

٢٢٤

فيلون

أصبحت هي الإله الأكبروهي باطنة في جميع الموجودات، لا خلوقة ، وعلى هذا فيجب ان نبحث عن مصدرآخر لفكرة الكلمة عند فيلون ، ونجد ذلك في فكرة اللوغوس عند هرقليطس ، فهرقليطس قد قال باللوغوس على أساس أنه القانون الذي تجري على أساسه أنواع التغير المتضاد في الوجود ، وهومبدأ الانقسام ، وإن كان الانقسام بعد ذلك عند هرقليطس يصبح وحدة ، إذ قال بفكرة ٠ هوية المتناقضين , 00^٤0ز00005 هنا0ءل3ى0030 ، إلا أن فكرة اللوغوس عند هرقليطس لا تكفي كذلك لتفسير العنصر الجديد ، الذي دخل نظرية فيلون في الكلمة ، إذ ان الطابع الرئيسي لفكرة الكلمة عند فيلون هوأن الكلمة هنا أصبحت معقولة ، والمعقول في هذه الحالة لا يمكن أن يستخلص مباشرة من التزاوج بين فكرة اللوغوس بوصفه المبداً الحافظ للأشياء ، واللوغوس بحسبانه مبداً الفصل بين الأشياء ، ولذا سنجد ان ثمت عنصراً ثالثاً مزدوجا قد أثر في فيلون في فكرته عن الكلمة ، وهذا العنصر الثالث المزدوج هوأفلاطون في نظريته في الصور ، ثم الفيثاغورية المحدثة فيما يتصل بفكرة الواحد ، أما فييا يتعلق بتأثر فيلون بالرواقية فيلاحظ أنه كما يقول فلوطرخس، قد نظر الرواقيون إلى الكلمة على أساس أما الله وأها القوة الحافظة لجميع الأشياء ، وأن هذه القوة تسود الموجودات جميعاً لأنها الحافظة لها كلها ، وفيلون يضيف إلى 1 الكلمة » هذه النعوت ، فهوينعتها بأنها القوة السائدة في الكون ، وبأها حالة في كل مكان ، وباها باطنة في الموجودات وبأنها كقوة للحياة المتطورة في الموجودات ، أوبتعبير رواقي، انا البذور أو العلل البذرية الي منها تنشأ الموجودات ، وتبعا لهذا ستكون < الكلمة » باطنة في الكون ، وقوة لسنا ندري بعد هل هي قوة معقولة او ليست معقولة ، أما بالنسبة إلى المذهب الرواقي ، فإنها في الواقع ليست قوة معقولة ، لأن المعقول بالمعفى الأفلاطوني أو الأفلوطيفي لم يعترف به الرواقيون، كما رأينا منقبل، ويؤيد فيلون فكرة الكلمة مفهومة على هذا الأساس، أي بحسبانها العلة الباطنة في الموجودات، بنفس الأدلة القي يسوقها الرواقيون من أجل إثبات 1 الكلمة » . فهو يقول ، كما يقول الرواقيرن ، إن بالعالم خلاء ، ولكن هذا الخلاء الذي يوجد في العالم من شأنه أن يجعل ثمت هوات وانفصالا وشقاقا بين الموجودات ، فما هي القوة التي تربط بين الموجودات المنفصلة فيها بينها وبين بعض مترابطة متحدة ؟ لا يمكن في هذه الحالة إلا أن نغترض قوة سائدة في جميع الموجودات ، من شأها أن تربط بين جميع

الأجزاء المختلفة للموجود ، وهذه القوة هي ٠ الكلمة ، أو اللوغوس.

ولكننا نجد أن هذا المذهب في « الكلمة» لا يمكن أن يتفق إلا مع مذهب يقول بوحدة الوجود ، أما المذهب الثنائي والذي يقول بالعلو المطلق أو العلو أيا كان بالنسبة الى الله في صلته بالكون ، مثل هذا المذهب لا يمكن أن يتفق واياه أن يقال عن الكلمة إنها باطنة في الكون على صورة قوة حالة فيه، وهي هي في الواقع اشه؛ فيجب إذن أن نبحث عن قوة تفصل ، أو من شأنا أن يتفق وإياها أن يكون ثمت انفصال ، بين اله وبين الكون أو المخلوق ؛ ولذا يأخذ فيلون بما قال به هرقليطس في نظريته في اللوغوس. فاللوغوس عند هرقليطس هو مبدأ انفصال بين الأشياء المتضادة في الكون وهذا الانفصال هو في الواقع منشاً المخلوقات ، ومن شأنه أن يؤدي إلى الفصل بين القوة الخالقة والموجودات المخلوقة ، ولكن فيلون لا يذهب مع هرقليطس إلى أقصى نظريته؛ فإن هرقليطس في نظريته في اللوغوس يدعونا في نهاية الأمر إلى القول بالاتحاد أو الهوية بين المتناقضات ، ومن شأن هذا الطابع الجديد للوغوس ، بوصفه مبداً الانقسام ، ان يجعل في وسع الإنسان أن يقول بشيء من الهوية أو الامتزاج بين المخلوق وبين الخالق . لكن فيلون ينكر كل الإنكار قول هوقليطس هذا، إذ يرى من غير المعقول أن يضاف إلى الشيء الواحد- وفي آن واحد ومن جهة واحدة- صفتان متناقضتان ، وبهذا يحتفظ فيلون لله بكل علوه . إلا أن اللوغوس - مفهوماً على هذا النحو، ولكي تكون ثمت ثنائية مطلقة ، ولكي يقوم اللوغوس بمهمته الرئيسية - يجب الا يكون قوة مادية ، بل قوة عاملة ومعقولة ، ولهذا نجد فيلون في هاية الأمر يحيل اللوغوس الرواقي إلى معقول أفلاطوفي. وهو هنا قد تأثر كل التأثر بفكرة الصور الأفلاطونية ، واللوغوس هنا نجده متخذا صورتين : صورة متأثرة كل التأثر بالفيثاغورية المحدثة ، وصورة أخرى متأثرة بالأفلاطونية . فمن ناحية التأثر بالفيثاغورية المحدثة ، نجد فيلون يقول إن اللوغوس هو الواحد ، ولكنه لا يذهب مع الفيثاغوريين المحدثين إلى القول بأن الواحد هو اله ، وإن كنا نجد كثيراً من العبارات تؤذن بمثل هذا القول عند فيلون . ثم ينظرمرة اخرى إلى < الكلمة, على أساس فكرة العدد ٧ عند الفيثاغوريين المحدثين ، إذ يرى الفيثاغوريون المحدثون انقسام العالم إلى سبعة أشياء أولها السماء وآخرها النور.

فيلون

وسيكون هذا النور ، أو سيستبدل فيلون بهذا النور اللوغوس فاللوغوس هو القوة السابعة المتوسطة بين اله وبين الكون .

إلا أنه يلاحظ ان فكرة اللوغوس هنا غامضة كل الغموض ، كما نجد ان وظيفتها الرئيية تكاد تنحصر في الصفات الأخلاقية التي تضاف إلى اللوغوس، فيقال عن اللوغوس إنه الفضيلة أو الحكمة ، ولكن التأثر الحقيقى الذي اخذه فيلون في فكرته عن اللوغوس كان صادراً إليه من أفلاطون : فاللوغوس اصبح معقولا كالصور او هو مجموع الصور . وعلينا بعد ان نحدد صلة هذا اللوغوس بالله ثم بالكون , وهنا نجد فيلون قد اتمخذ موقفاً ثنائياً فيه تناقض ، هنا كالحال تماماً فيما يتصل بصفات الله فنحن نجده من ناحية ، يريد أن يحتفظ لشه بالعلو، ومن ناحية أخرى يضطر إلى أن يخلط بين الله وبين اللوغوس حى يكون في وسعه بعد هذا أن يبين وظيفة هذا اللوغوس من حيث تكون الأشياء . فيلاحظ أولا أن فيلون ينعت اللوغوس بأنه ليس ازلياً كاش ، كما انه ليس فانياً كالمخلوقات ، وإنما هو في مركز بين بين ، من هذه الناحية ، بين اله وبين المخلوقات . لأنه من ناحية قد ولده الش، او هو ابن اش ، وتبعاً لهذا سيكون له بدء، ولكن هذا البدء يجب ألا يفهم بالمعفى الزبني ، وانما البدء هنا يفهم من حيث المرتبة في الوجود فحسب . اعفي ان البدء وجودي ، بمعفى ان اللوغوس صادر عن اش ، وهذا الصدور يمكن ان يفهم على طريقتين، فيهما يظهر هذا التناقض الواضح في فهم فكرة اللرغوس عند فيلون . فتارة نرى فيلون يقول عن اللوغرس إنه صفة من صفات الله هي العلم، وتبعاً لهذا هوجاب من جوانب اله وشيء باطن فيه . ولكننا نجد فيلون من ناحية أخرى يذكر عن اللوغوس أنه صادر صدوراً خارجياً عن الله بمعنى انه ليس صفة حالة فيه ؛ وإنما هو شيء قد صدر عنه وانفصل وفي مرتبة دنيا بالنسبة إليه . والقول الأول يؤذن بالهوية بين اللرغوس وبين اش ، والقول الثاني يحتفظ بهذا الانفصال بين اش وبين اللوغرس . وهنا نجد الشراح والمؤرخين يختلفون كل الاختلاف في فهمهم لهذا التناقض . فمنهم من يريد أن يمحو هذا التناقض ومنهم من يقول بوجود هذا التناقض مهما حاول الإنسان من عحاولات ختلفة لرفعه. أما أصحاب الرأي الأول فيرفعون هذا التناقض بأن يفرقوا بين الكلمة النفسية وبين الكلمة الخارجية ، ويهيبون هنا بتفرقة نجدها عند فيلون فيما يتصل بالانسان . ففيلون يذكر ان الكلام عند الإنسان ينقسم إلى قسمين : كلام نفسي وهو الذي يكون عبارة عن تصورات

ذهنية، لا يعبر عنها في الخارج بأصوات، وكلام خارجي يعبر عنه في الخارج باللفظ أو الصوت ، وتبعاً لاصحاب هذا الرأي سيكون كلام الله منقسما إلى هذين القسمين : إلى كلام نفسي هو اللوغوس بحسبانه العلم كصفة من صفات الله ، وإلى كلام خارجي هو اللوغوس بوصفه الصورة المعقولة التي هي نموذج للأشياء ، أما اصحاب الرأي الثاني فينكرون وجود مثل هذه التفرقة عند فيلون ، إذ يقولون إنه لا يتحدث مرة واحدة عن هذه التفرقة بين الكلمة النفسية والكلمة الخارجية . وإنما يجب ان يظل هذا التناقض كما هو، وكما هي الحال في كثير من اقواله .

أما فيما يتعلق بالصلة بين اللوغوس وبين الكون، فإننا نجد هذه الصلة على نوعين وذلك لاختلاف المصدر الذي صدرت عنه نظرية فيلون في اللوغوس . فالمصدر الأفلاطوني لنظرية اللوغوس عند فيلون يجعله يتصور اللوغوس على أنه مستودع الصور والنماذج العليا التي على أساسها تنشا الأشياء ، والأثر الرواقي في فكرة اللوغوس جعله يقول إنه القوة الحالة في الأشياء ، والتي بها يتم كل تغير وحركة في الوجود . وعلى هذا فإن اللوغوس يمكن ان ينظر إليه من ناحية على أنه مجموعة صور معقولة أو بوصفه احد المعقولات ، ويمكن ان ينظر إليه من ناحية اخرى على أنه قوة . إلا أنه يلاحظ ان اللوغوس عند فيلون يتخذ مظهر الفردية. وهذا لا يكن أن يتفق مع النظرة النانية. لأنه إذا كان اللوغوس منفصلا عن الكون ، وشيئا مفرداً مستقلا بذاته ، فإنه لا يمكن ان يعد كقوة فيه . هذا إلى أن فكرة الصور إذا ما اضيفت إلى اللوغوس ، لا تخلو هي الأخرى من تناقض،لأنها لا يمكن أن تكون فاعلة إلا إذا كانت حالة في الأشياء ؛ ومعى هذا أننا سنضطر في كلتا الحالتين إلى أن ننظر إلى اللوغوس على انه ليس مستقلا قائماً بذاته .

وكل هذه الماثل المتعلقة بالصلة بين اللوغوس وبين اله ، وبالصلة بين اللوغوس وبين الكون ، مصدرها الفكرة الرئيية التي أدت إلى القول باللوغوس . فالأصل في هذه الفكرة فكرة الوسائط ، لأن ما يرمي إليه فيلون من وراء فكرة اللوغوس هو أن يقول من ناحية بوجود هوة لا تكاد تعبر بين الخالق والمخلوقات ، ومن ناحية اخرى بإمكان عبور هذه الهوة ؛ وذلك عن طريق عدة وسائط ؛ لكي يتيسر حينثذ أن يأقي فعل من جانب الخالق نحو المخلوق ؛ وهذه ا لوسائط هي ما سماه فيلون باسم االقوى الإلهية» وهذه القوى الإلهية

٢٢٦

فيلون

يتصورها فيلون تارة على النحو الأفلاطوني ، وأخرى على النحوالرواقى، وثالثاً على نحو لملائكة في الديانة اليهودية، واخيراً على نحو الجن في الديانة اليونانية .

إلا انه يلاحظ أننا نجد نفس التناقض ، او الاختلاف ، الذي وجدناه من قبل في فكرة اللوغوس ، متمثلا في فكرة هذه , القوى الإلهية » المتوسطة بين الخالق والخلق. وذلك أننا نجد فيلون يذكر عن القوى الإلهية أب قوى موجودة في ماهية اله ، وتكاد تعد كأقانيم له ، ولكننا نجد من ناحية اخرى أن النظرة الأخرى القريبة من الرواقية تضطره إلى جعل هذه القوى حالة في الأشياء ، حتى يمكن أن تؤثرفيها ، خصوصاً ان الفكرة الرئيسية التي ادت الى القول بها إنما صدرت عن دافع تفسيرتأثير الخالق في الخلق ، فكان ضرورياً تبعاً لهذا ان تكون ثمت ملامسة مباشرة بين هذه القوى وبين المخلوقات.وعلىكلحال فإن هذا التناقض لا نستطيع رفعه ، كما هي الحال بالنسبة إلى بقية اجزاء مذهب فيلون ، وكل ما نستطيع فعله ان نفسره بنفس الوسيلة التي فسرنا بها التناقضين الأسبقين ، ونعني بها كون المصدر الذي صدرت عنه نظرية اله ونظرية القوى الإلهية واللوغوس مزدوجا، فهو الأفلاطونية من ناحية، والرواقية من ناحية اخرى ، اما الصورة الي تصور عليها هذه التأثرات فهي تارة تكون يهودية ، وأخرى يونانية شعبية .

وأهم هذه القوى الإلهية اثنتان : قوة الخير، وقوة القدرة . فقوة الخيرهي القوة الخالقة والتي يتم بها الإيجاد . اما قوة القدرة فهي القي بها يهيمن اله على العالم ويحكمه، ولهذا نجد فيلون يشبه هذه القوة الأخيرة بالمالك او الحاكم المسيطر على العالم. وعن هاتين القوتين، او بالإضافة إليها تكون القوة الثالثة ، قوة اللوغوس . أما الصلة بين اللوغوس وبين هاتين القوتين فهي مضطربة أيضاً : فنحن نجد فيلون يذكر تارة ان اللوغوس بين قوقي الخير والقدرة ، كما نجد ه تارة اخرى يقول إن اللوغوس يتضمن كل القوى الإلهية .

وهذا اهم ما أق به فيلون في فلسفته الجديدة . ففكرة اللوغوس قد بحثها لأول مرة بحثاً دقيقاً مفصلا ، وبحثها عل اساس جديد يختلف عن الأساس الذي درست عليه من قبل عند الفلاسفة اليونانيين المتقدمين.

وننتقل من فكرة اللوغوس ومن الله إلى بيان طبيعة العالم فنجد اولاً انه لما كانت الغاية الرئيسية والدافع الأكبر

لفيلون في نظريته عن الله وعن اللوغوس، ان يثبت وجود هذا الفارق الكبير بين المتناهي واللامتناهي، ويقول عن اللامتناهي إنه خير ولا يفعل إلا الخير وإنه أزلي ابدي ، فلا بد من أجل أن يفسر فيلون وجود هذا الموجود الفافي ان يقول بوجود عنصرآخر هو الذي يحدث به هذا الفناء في الوجود ، وهذا العنصر الآخر قد اخذه فيلون عن افلاطون وعن الرواقية . والصفات التي يمتاز بها هذا العنصر الآخر مضادة تماما للصفات التي يتصف بها اللامتناهي . فاللامتناهي هو الأزلي الأبدي ، وهو الخير، وهو الفاعل باستمرار وهو الحي ، اما العنصر الجديد - وهو المادة - فهو الميت المتغير القابل ، ومبداً الثر . فلكي نستطيع أن نفسر وجود الشر في العالم أو الكون ، لا بد ان نقول بوجود المادة في كل ما يفعل الشر. اما اله فيستحيل عليه الثر، وكذلك الفناء يتثاً عن المادة ، أي أننا نستطيع أن نفسر جميع المفات السلبية عن طريق المادة .

ولا يعنينا كثيراً ان نتحدث عن نشأة الكون عند فيلون ، لأن كلامم هنا كلام غامض جداً ، ويقدم لنا صورة بداثية ناقصة لما سيكون عليه هذا المذهب من بعد عند أفلوطين، وإنما ننتقل مباشرة الى الكلام عن نظرية فيلون في الأخلاق.

فنجد أن الغاية من الفلسفة عند فيلون هي ان تكون مؤدية إلى الخلاص . والخلاص هنا يجب أن يفهم بالمعفى الديفي، اعفي تخلص المتناهي من حالة التناهي للوصول إلى حالة اللاتناهي ، وهو ما سيعبر عنه في المسيحية فيما بعد بفكرة الخلاص من الخطيئة . وإذا كانت تلك غاية الفلسفة ، فعليها أن تبين لنا الطريق المؤدي إلى هذا الخلاص . وهذا الطريق هو إمكان عودة الفافي إلى حالة اللامتناهي ، ويمكن أن يسلك في مرحلتين : مرحلة الشك ، ثم مرحلة التصوف ؛ وكل تصوف من هذا النوع إنما تسبقه دائاً حالة شك، ويكاد يكون كل تصوف ظهر حتى الآن ان يقوم على هذا الأساس، اي على اساس فكرة الشك. وذلك ان الإنسان في نظرية المعرفة، إنا عليه ان ينظر في نفم، فإدراك المرء لذاته ، هذا القول الذي قاله سقراط، يجب ان بكون نقطة البدء في كل تفسير فلفي . وحينما يبحث الإنسان في ذاته، يجد أنه قابل لكثير جداً من الأغلاط، فالحواس تخدع الإنسان ، والمعرفة اليقينية لا سبيل الى ال وصول إليها ، وبإيجاز المعرفة غيرممكنة، وكل ما نصل إليه

فيلون

٢٢٧

هو اقتناعنا بأن اللذات الإنسانية فانية متناهية ، كلها نقص ، وكلها شر. وكذلك سنصل إلى هذا عينه بالنسبة إلى بقية الأشياء . وحينثذ ندرك أن هذا العالم وهم ، وأنه لا قيمة إطلاقاً لاي شيء موجود به ، أو بعبارة موجزة ، ندرك أن العالم زائل وفان ومتناه ، فيدفعنا هذا الى البحث عن وسيلة , للخلاص »، لأننا لم نفعل هذا في الواقع ، ولم نقل به ، إلا لكي يكون وسيلة إلى تحصيل االخلاص ا، وتحصيل ٠ الخلاص»إنما يتم بأن يتجه الإنسان الى التشبه بالله : ذلك أنه يجب على الإنسان من أجل أن يتخلص من الحال التي هو عليها ان يففي بنفه في لله، فلا يمكنه ان يجد الخلاص إلأ بالفناء في حضن الألوهية. وهذا الفناء يتم عن طريق التصوف. ولا سبيل إلى معرفة الله إلا بإدراكه إدراكا مباشراً، لأن ال يظهر أمام الإنسان مباشرة، ودون حاجة إلى وسائط. ولهذا نجد فيلون لا يعطي ادنى قيمة للمعرفة ذات الوسائط. وإنما يريد ان يدرك اش مباشرة، وهذا الإدراك لله مباشرة إنما يتم عن طريق التجربة الصوفية، ففي حالة الوجد الصوفي يستطيع المرء ان يعاين الله.

والسبيل إلى السلوك في هذا ثلائى . فهو يكون أولاً عن طريق المجاهدة، وثانياً عن طريق العلم، وثالثاً عن طريق اللطف الواهب للقداسة ، كما سيعبر عن ذلك فيما بعد في امسيحية . والدرجة الأولى هي أدق الدرجات ، ولذا لا تليق في الواقع إلا بالمريدين، فهي ادفى من التعليم او العلم،لأننافيحالةالعلم نصل إلى إدراك الخلاص بطريقة واعية ، فنستطيع ان نعرف بالضبط الطريق المؤدية إليه ؛ وهي في مرتبة أدفى من ا اللطف ال واهب للقداسة»، لأن هذا النوع الأخير يأقي إلى الإنسان مباشرة عن الله ، دون أدف حاجة إلى المجاهدة ، كما أنه مرتبة عليا من المعرفة ، ولهذا يقول فيلون : إن الدرجتين الأولى والثانية من شأن المريدين والسالكين ، اما الدرجة الأخيرة فمن شأن « الكمل 1 . ويرى انه لكي يصل الإنسان الى هذه الدرجة الأخيرة،لا بد له ان يكون بطبيعته موهوباً من العناية الإلهية . ويصف لنا فيلون التجربة التي يقوم بها الإنسان في هذه الحالة الأخيرة؛ ولكنه يقول لنا إن المهم في هذه الحالة هو ان يجرب الإنسان ويتذوق ، لا أن يعرف ويجدد . ولهذا فإن تحديد هذه الحالة من العسير جداً ، وإنما يجب ان يتذوق الإنسان ويعاين بنفسه ، أي يجب ان يجيا هذه التجربة بنفسه وفي هذه الحالة الأخيرة يكون الإنسان في حالة طمانينة مطلقة ، وفيها

ينقطع الكلام كما ينقطع الفعل . وهذه هي الدرجة العليا التي ينشدها الإنسان من أجل ٠ الخلاص»، إذ يكون الإنسان بلا كيفيات وبلا أفعال . وهذا المثل الأعلى من الطمانينة المطلقة ، هو ما يسعى إلى تحقيقه ، او ما يجب أن يسعى الى تحقيقه الفيلسوف أو الحكيم عند فيلون .

وإذا نظرنا نظرة إجمالية إلى مذهب فيلون ، وجدنا أن هذا المذهب قد أتى بأشياء تختلف كل الاختلاف عما الفناه من قبل في الفلسفة اليونانية . فنحن نجد أن المعرفة والفلسفة لا تقصد هنا لذاتها ، ومن اجل إقامة مذهب فلسفي ، وإنما من اجل تفسير نزعة دينية خاصة . فالأصل هو الديانة اليهودية ، وليت الفلسفة اليونانية والتفكير العقلي غير وسيلة من اجل تفسير الديانة اليهودية وتفصيلها ، بينما كانت الحال على العكس من هذا تماماً عند جميع الفلاسفة اليونانيين السابقين، فالأصل في الفلسفة اليونانية وفي كل فلسفة ان تبدا من التفكير العقلي المجرد.

ولكنا نجد هنا - لأول مرة - أن الفلسفة تبداً بأن يكون الإنسان مؤمناً بعدة حقاثق ، ثم يجاول بعد هذا أن يفسرها : فالأصل هنا هو الإيمان ، والتعقل تال لم . والحال هنا هي الحال التي توجد دائما بالنسبة إلى كل فلسفة لاهوتية، وهي الحال التي تعبر عنها العبارة المشهورة credo ut intelligam : اأومن لأتعقل» .كماأنه يلاحظ من ناحية اخرى ان الناحية الذاتية قد طغت إلى حد كبير جداً على الفلسفة ، فاصبح المثل الأعلى للفيلوف أن ينطوي على نفسه ، وأن يحيا حياة طمأنينة مطلقة ، وهو المثل الأعلى الذي يختلف عما رسمه الفلاسفة اليونانيون السابقون ، وخصوصاً فيها قبل أرسطو. ولهذا يميل بعض المؤرخين إلى إخراج فيلون من هذا التيار اليوناني خصوصاً وانه يجد فيلون قد تأثر العناصر الشرقية اكثر من تأثره بالعناصر اليونانية الخالصة وخصوصاً ايضاً ان فيلون قد عفي بوجه خاص بأن يفسر العقائد التي اتت بها الديانة اليهودية ، ولم تكن تعنيه الفلسفة اليونانية في ذاتها بقدر ما يعنيه تفسير المعتقدات الدينية اليهودية . كما أن من الممكن ان نرجع اكثر أقوال فيلون إلى الديانات الشرقية بوجه عام ، ومن هنا يقول اصحاب هذا الراي إن فيلون أحرى بأن يوضع في نطاق فلسفة شرقية منه في نطاق فلسفة يونانية .

ولكننا نجد فريقا اخر يقول إن فيلون لم يفعل في الواقع اكثر من أنه لخص وجمع في نفسه بين جميع التيارات السابقة عليه ، وكانت فلفته نتيجة منطقية لتطور الفلفة اليونانية ، خصوصاً في القرنين الثاني والأول قبل الميلاد ، وعلى هذا نستطيع ان نعد فيلون نهاية لتطورمنطقي مستمر ، كما يقولون أيضاً إن مسالة تأثر فيلون بالديانة اليهودية يجب الا يغالى فيها كثيراً ، لأنه لم يستخدم في الواقع من الديانة اليهودية اكثر من هذه التعبيرات المختلفة التي صيغت فيها ، فقد يكون الشكل أقرب ما يكون إلى اليهودية ، ولكن المضمون والمادة يوناني صرف ، فلايجب ان ننخدع إذن بهذا الشكل كي ننكرطبيعة الموضوع عنده ، ومع هذا فإنا نميل إلى القول بالرأي الأول لأننا نجد عند فيلون في الواقع خروجا على التقاليد الأساسية والخصائص الرئيسية المكونة للروح اليونانية ، فهذه النزعة إلى التفرقة المطلقة بين اللامتناهي وبين المتناهي ، وهذا التفسير لفكرة المتناهي واللامتناهي من حيث مرتبة الوجود بالنسبة لكل منهما، ثم الاتجاه الصوفي الصرف في الحياة العملية والاتجاه الذوقي في نظرية المعرفة، كل هذا بالإضافة إلى هذه الحقيقة، وهي أن الجزء الأكبر جداً من ابحاث فيلون إنما دار حول تفبر النصوص الدينية، وأن اليهودية قد وجدت نفسها إبان ذلك العصر فيحاجة إلى الدفاع عن نفسها بإزاء الأفكار اليونانية التي غزتها - كل هذا يجعلنا نرجح او نؤكد أن فيلون يجب أن يضاف إلى حضارة اخرى غير الحضارة اليونانية، وأن لا يعد كحلقة من هذا التيار وإنما يجب أن نضيفه إلى حضارة اخرى جديدة خلفت الحضارة اليونانية، ونعفي بها الحضارة السحرية أو الغربية.