فلسفة هيجل

أول ما يخطر بالبال فيما يتصل بهيجل أن يقال إنه من المشايعين المتابعين للمثالية الكنتية، وإن ثمة سلسلة متصلة من كنت ففشته، فشلنج فهيجل. ولكن هذا التصور لمكانة هيجل بين هؤلاء تصور زائف، إذ الواقع أن هيجل ليس حلقة أخيرة في السلسلة، بل يقوم مذهبه مستقلاً عن المذاهب الأخرى، لا يشترك معها إلا في قليل من الصفات، وفيما عدا هذا فمذهبه أصيل لا يكاد يندرج تحت أي اسم يمكن أن يطلق على مذاهب كنت أو فشته أو شلنج. ثم إنه تأثر خصوصاً بالنزعة الطبيعية اليونانية، وبنزعة التنوير التي سادت في القرن الثامن عشر، واتصل بكلتا الحركتين عبر كنت والمثالية الألمانية المتمثلة في فشته وشلنجز فإذا اردنا أن نحدد الصلة بينه وبين كنت وجدناها تتعلق بأمرين:

الأول: هو في التصوير المثالي للحقيقة الواقعية المباشرة. فإن كنت قال بأن الحقيقة الواقعية هي من تصميم العقل أولاً على أساس أن كل المعطيات الحسية لا بد أن تدخل في إطارات من صنع العقل، فالمبادىء الثلاثة الرئيسية للحساسية وهي الزمان والمكان والعلية هي إطارات عقلية قائمة في صميم العقل وليست موجودة في الواقع نفسه. وبالتالي لا توجد في معطيات الحس وإنما تترتب معطيات التجربة وفقاً لهذه الإطارات العقلية التي هي من نسج العقل نفسه. فإذا كان كنت قد هاجم ديكارت وباركلي فما ذلك إلا لأن مثاليتهما وهمية لأنهما لا يستطيعان أن يميزا بين الواقع والظاهر لأن كلا منهما في نظرهما امتثال. أما ابتداء من كنت فبقوله بهذه المبادىء المتعالية أي التي لا توجد في التجربة، ولكنها لا تتجاوز نطاق العقل بل توجد في طبيعته نقول إن كنت بهذه التفرقة وبهذه المثالية المتعالية استطاع أن يضع المعيار للتفرقة بين الحقيقة الواقعية وبين الوهم. وأصبح ينظر إلى معطيات الحس على أنه قد شارك في صنعها العقل بإطاراته الأصيلة، وأصبح ينظر إلى الحقيقة الواقعية على أنها امتثال للوعي الأساسي الشامل، وتبعاً لهذا لها قيمة موضوعية أما المظهر أو الظاهر فهو الامتثال الذاتي الخالص الذي يتناقض مع القوانين العقلية التي تؤلف التركيب المنطقي للواقع. ومن هنا جاءت المثالية المنبعثة عن كنت خصوصاً عند فشته فقالت بهذا المبدأ: العالم من خلق العقل، على أساس أن معطيات الحس لا يمكن بنفسها أن تكون معرفة إلا من خلال إطارات العقل هذه.

تلك هي النقطة الأولى. أما الثانية فتتصل بالتنظيم العقلي للتجربة، وهو ما يكون مبدأ المثالية المتعالية، فالتجربة ليست مجرد تجربة بمعنى الانعكاس السلبي مثل الحلم أو الأوهام، بل التجربة نفسها من خلق العقل بالمعنى الذي أوضحناه من قبل وهو أن معطيات الحس لا يمكن ان تدرك إلا بإدخالها في إطارات العقل، ذلك أن التجربة تركيب منطقي مخلوق من الوعي فيه تتفق كل الأرواح الفردية. وكنت هو الذي استطاع أن يكشف عن مبادىء هذا التركيب المنطقي؛ وبحث عن أصله فوجده في الأنا الخالص، في الإدراك المتعالي، في ذلك النشاط الذي يقوم فينا بتوحيد كثرة المعطيات الحسية وتعددها، وهو بالتالي يصنع ويشارك في صنع الامتثال آلذي لديا عن الحقيقة الموضوعية ؛ وقد بين كنت أنه بغير هذه المبادىء العقلية الخالصة لا يمكن أن يكون ثمة تجربة , ثم أوضح نطاق هذا التنظيم الذي يقوم به العقل لمعطيات الحس، وذلك المقولات الكنتية المشهورة، وأن يربط هذه المقولات بالحكم أكثر من أن يربطها بالواقع الميتافيزيقي.

تأثر هيجل كنت في هذه المسالة الثانية أيضاً فرأى أن العالم كله من خلق العقل، والعمل الأول لهذا العقل هو تأليف تلك القوانين العليا التي تخضع لها الحقيقة الطبيعية المادية كما تخضع لها الحقيقة العملية، ويمكن أيضاً أن نجد في الصورة في مذهب هيجل كما يتمثل في "دائرة المعارف الفلسفية" بعض قسمات من مذهب كنت في المقولات وإن لم يأخذ به هيجل صراحة.

وفييا عدا هاتين المسـلتين لا نكاد نجد لكنت شيئاً أثر به في هيجل، لأن كنت وإن كان قد وصل إلى هاتين النتيجتين اللتين عرضناهما فإنه قد ترك عديداً من المسائل دون حل أو في غموض. فمثلاً لماذا وضع هذا التمييز بين المعطي التجريبي وبين الشكل؟ ومن أين يأتي المعطي التجريبي؟ كما أن كنت من ناحية أخرى لم يحدد تحديداً واضحاً طبيعة النشاط الذي يقوم به الأنا الخالص، بل هو بالأحرى كاد يوقع في أذهاننا أن نشاط الأنا نشاط مفتت وليس نشاطاً توجيهياً يتجه إلى توحيد معطيات التجربة في وحدة تامة. ثم لم يجب كنت عن هذه الأسئلة: لماذا يكون الأنا المعطيات الحسية بصور الحس؟ وكيف تتحول هذه الصور إلى صور عقلية؟ وعلى أي ترتيب يتم ذلك؟ ثم إذا ما تكونت التجربة فماذا يفيدنا من هذه التجربة؟ وما هي العلاقة بين الأنا النظري والعملي؟ وما هو ترتيب أنواع النشاط العملي؟.

لقد ترك كنت هذه الأسئلة دون حل فجاء أول تلامذته وهو رينهولد Reinhold فأولى هذه المسائل عناية خاصة إذ اتجه إلى بيان أن كل هذه العملية ذات طابع تركيبي، وإلى بيان أن جوهر الروح الإنسانية نشاط تشكيلي يقوم بعمليات متوالية بها يشكل معطيات الحس في صور عقلية هي التجربة بالمعنى الحقيقي، وعن طريق القيام بهذه العمليات يرتفع الأنا إلى بلوغ الغايات المثالية التي يتجه إليها.

إن كنت بحسب شرح رينهولد قد حلل التجربة الإنسانية عل أساس أنها معطى واقعي، وبين بالتحليل قيمة هذه التجربة ابتغاء أن يستعين بنتائج هذا التحليل ليكشف للإنسان عن أسس ما عليه من واجبات وعن الغايات الحقيقية من حياته. غير أن هذا البحث الذي قام به كنت لم يكن شاملاً، لان كنت لم يرتفع إلى العوامل الأساسية للامتثال. فلو أن كنت قد حلل الواقعة الأولى للامتثال لوجد أن الامتثال يفترض مقدماً بعض الشروط الأساسية؛ وهذه الشروط هي التي تكفل إمكان استنباط كل نتائج النقد الكنتي، وسرعان ما تبين سالميون ميمون وفشته ما في عمل كنت هذا من نقائص ذلك لأنه جعل الامتثال هو العامل الأول، ومعناه وضع ثنائية منذ البداية بين الذات والموضوع، بين العقل وبين الشيء في ذاته، ومثل هذا الثناثية لو حللت تحليلاً دقيقاً لوجدنا أنها تناقض روح النقد الكنتي، ثم إنها تناقض خصوصاً النزعة الواحدية الاسبينوزية التي بدأت تغزو الفكر الألماني بقوة في أخريات القرن الثامن عشر ومستهل التاسع عشر، فقد أخذت الاسبينوزية تغزو بقوة الفكر الألماني خصوصاً فيما يتصل بالواحدية. فالواحدية الاسبينوزية كانت العنصر المؤثر الأساسي لدى أولئك الذين تأثروا باسبينوزا.

وفشته كما رأينا من قبل عنى بدراسة اسبينوزا دراسة خاصة فتركت هذه الدراسة التي قام بها فشته في مستهل حياته أثراً بالغاً في تطوره الفلسفي. رأى فشته أن مشكلة النقد الكنتي هي في جوهره مشكلة نظرية المعرفة، وراى أن حلها هو في النزعة الواحدية التي وجد لوناً منها عند اسبينوزا، فارتفع فشته فوق هذه الثنائية بين الذات والموضوع حتى بلغ الوحدة الأصلية الموجودة في الأنا الخالص، وهذا هو مبدأ وحدة الشعور ومن هنا رأى فشته أن الأنا الخالص هو الحقيقة الأولية الأصلية التى ينبغى ألا نتجاوزها، ولا يقصد طبعاً بالأنا هنا الأنا المفرد بل الأنا خالصاً من كل فردية؛ فإن الفرديات المختلفة ليست إلا لحظات متأخرة لهذا الأنا الخالص، إن هذا الأنا جنس عام يشمل الجنس البشري كله، إنه الأنا الإنساني في وحدته الأصلية الكبرى، ومن هذا الأنا يستنبط فشته سلسلة متصلة من الانفعال والحركات المتواصلة، كما يستنبط نظام المقولات والقوانين الصورية للحقيقة الواقعية. إن كنت حين تصور المقولات تصورها على ـنها سلسلة من التوفيقات بين الوحدة والكثرة، أما فشته فقد رأى أن المقولات هي أفعال باطنة للأنا ذاته، وهي قوانين تأليف هذا الأنا الخالص. إنها قوانين تنطبق على التجربة بوصفها تجربة الوجود، كذلك يستنبط فشته من هذا الأنا مادة التجربة نفسها، أي الموضوع، بحيث يصبح الموضوع - أي المادة وبالتالي العالم الخارجي - يصبح في نظر فشته لحظة باطنة من لحظات الذات أو الأنا. والنتيجة الطبيعية لهذا الموقف هي أن يقوم فشته بإلغاء كل مادة وكل موضوع، وبالجملة كل أثر بل كل إطار لقيام العالم المادي.

فكل شيء من الذات وإلى الذات ينتسب؛ لا شيء خارج، وما نسميه حقيقة خارجية وموضوعات لا يوجد في ذاته بهذا الوصف بل يوجد بوصفه لحظة من لحظات الأنا. إن الموضوع ما هو إلا الأنا حينما يضع بنفسه في مقابل ذاته جزءاً من طاقته ابتغاء أن يتغلب على ذاته وان يستولي من خلال الكفاح والانتصار على امتلاء حياته، أي أن يكتسب الحياة الجديدة هذا الغزو المستمر الذي هو في الواقع غزو من الذات إلى الذات، فهو يفصل في نشاطه شيئاً يسميه الموضوع ويحاول أن ينتصر عليه، ويتمثله كيما تتحقق حياته المليئة وواضح من هذا أن العالم الخارجي بالمعنى القديم قد اختفى وزال وأصبح الإنسان أمام عالم كله ذات خالصة، لا محل فيه لأي موضوع، وبالتالي سقطت الثنائية بين الروح والمادة، بين الذات والموضوع. ولكن ليس الأنا المفرد الذي يخلق هذا التعارض، فإن هذا الأنا المفرد لا يمكن أن يدرك دون هذا العالم، عالم الموضوعات، بل المقصود من الأنا أنه هو الأنا المطلق الذي يعمل بقوانينه الخاصة الذاتية في كل الموضوعات التجريبية، بحيث أنه في كل منها يقوم التقابل بين الأنا التجريبي مع عالمه، ثم يرفع هذا التقابل في الوحدة المطلقة للأنا الخالص الذاتي المطلق. فالعالم الخارجي هو مجرد مجال نشاط للأنا الفردي المفرد، أما بالنسبة إلى الأنا الخالص فليس ثمة خارج ولا وراء، بل كل شيء يندرج في داخل هذا الأنا الخالص المطلق. وعلى هذا فالطبيعة ليس لها وجود حقيقي بذاته بالنسبة لفشته، وهو بهذا أقرب الشبه بباركلي.

غير أن فشته لم يكن قريب الصلة بكنت على النحو الذي يقال عادة، فإن « كنت 8 وإن كان قد قال إن المادة من خلق الروح فإنه مع ذلك لم يقل إن هذه المادة تأقي إلينا من الموضوعات الخارجية عن طريق الحواس، لأن العقل هو وحده الذي يؤلف بين الموضوعات. وعند كنت أن كثرة المحسوسات هي لون وضيع من الوان الشعور والمعرفة، هي روحية من النوع السافل يتميز بعدم الإحكام، وبااختلاط ؛ ومضمونه هو نوع من الحقيقة يبدو لنا على أنه معطى من المعطيات.

وعلى كل حال فإن مذهب كنت ينطوي في هذا العرض كله على نوع من الثنائية الميتافيزيقية، ذلك أن الانسان بنوع من الخطيئة لأصيلة منغمس في المحسوس. وكثرة المحسوس هي في عملية المعرفة عنصر من عناصر الظاهر، ومن الواقع غير الحقيقي ٠ بيد ان هذه الثنانية عند كنت لم تتخذ طابعا مطلقا لأنه يرى أن هذه الكثرة هي مرحلة دنيا، وليست مرحلة عالية من مراحل الوجود. أما عند فشته فان الثنائية لا تقوم إا في التعارض الأولى فيما بين الأنا واللا أنا. فأما جميع العمليات واللحظات التالية فعملية ضرورية باللا - أنا يعود إلى الأنا.علىأنفشته م ينظر في هذه المسألة في المرحلة الأولى من تفكيرم، ولم يخصص لها بحثا لأنه اهتم خصوصا بمشكلة المعرفة كما وضعها كنت وخلفاؤم وعنى قبل كل شيء باستبعاد فكرة الشيء في ذاته الني تركها كنت صخرة غير مفهومة يصطدم بها كل مذهب مثالي لاحق عليه.

وهنا يحسن بنا أن نحدد معنى فكرة المثالية حينما تقال على مذاهب هؤلاء الثلاثة : كنت، فثته، هيجل.

ذلك لأن هيجل يمي نفسه باسم لمثالي، ومؤرخو القلسفة يضعون فلفته تحت هذا الاسم. غير أن هذا اللفظ غامض ومعانيه مشتبهة ولهذا ينبغي أن نحدد مقدما المعافي التي ينبغي أن تفهم ب المثالية حين تطلق على مذهبه. وفي سبيل ذلك ينبغي أن نفهم المعنى الذي يعطي احيانا للمثالي وهو أن المثالي هو المقابل للواقعي، أو أن المثالي هوما يجب أن يكون في مقابل ما هو كائن. إن هيجل يرفض هذا التفسير للفلسفة بأنها ما يجب أن يكون كما نجده عند فثته ؛ ذلك لأنه مثل هذا التفسير ينطوي عل عدم الرضا أمام الواقع، والدعوة إلى تجاوز الواقع إلى آفاق غامضة تتلفع بالغموض. فهيجل يرى أن هذا التفسير لذي نجده عند الرومتيك عامة كما نجده عند فشته ينبغي عدم الأخذ به، لانه يرى أنه من الصحيح ان الانسان يشعر بنفه في البداية وقد قذف به في عالم غريب عنه معاد له يشعر بأنه ضائع فيه، لكن مهمة لفلسفة ليست صرف الإنسان عن العالم الواقعي بل على العكس مهمتها أن تصلح ذات البين بين لإنسان والعالم الغريب الذي يشعر في البداية حين يقذف به فيه أنه غريب عنه. وإصلاح ذات البين هذا يتم بأن تبين الفلسفة للإنسان ما هنالك من تجان بين ذاته وبين هذا العالم 1 هنالك يدرك العقل ذاته وسط هذا العالم، ويرى نفسه أنه فيه كما فيه غيره، فلا يشعر بأنه غريب عنه بل يفهمه ويتعقله، وبتعقله إيام يصبح أليفا لديه.

ومن ها فغاية الفلسفة الرئيسية هي فهم الواقع وجعله معقولا، وبالتالي جعل الواقع والذات من جنس واحد -ومعنى هذا تعقيل الواقع، وإذا عقلنا الواقع، فقد أصبح كل شيء من الذات ومن الواقع معقولا؛ ومن هنا فإن كلمة المثالية بالمعفى الذي يقصدم هيجل هي ا تعقيل الواقع ا أي جعل كل ما هو واقعي معقولا وكل ما هو معفول واقعيا، أي الوصول إلى توحيد فيما بين الراقع والمعقول بالانتهاء إلى أن كل شيء معقول. وتلك هي المثالية بالمعنى الحقيقي - هذ من ناحية. كذلك ينبغى أن نحدد المثالية كما نطلق عند هيجل لكي نستبعد منها المعف الذي يطلق علبه أحياناً وذلك بالغول بأن الكنتية مثالية متعالية أي أنها تتجاوز معطيات الحس عن طريق إطارات العقل من أجل تعقل معطيات الحس في إطارات عقلية منظمة. والمثالية بهذا المعنى حينما تطلق على المثالية الكنتية فمعناها أنا لا نعرف غير لأفراد والظراهر الخاضعة لتركيبنا العقلي وهذا يتعالى، أي يتجاوز،

هيجل

مواد العيان الحسي، اما الحقيقة العميقة للأشياء فتنئ عنا ولا نقدر على الوصول إليها -

ومن هنا انتهت النقدية الكنتية إلى وضع الشيء في ذاته في مقابل الظاهر، أما هيجل ( وكذلك فشته وشلنج ) فيرى أنه لا يوجد شيء في ذاته، ولا توجد حقيقة مستقلة عن العقل، وإن كان هذا لا يدل عل أنه لا يوجد كإ يقول بركلي إلا كائنات مفكرة، لأن هذه الصررة من المثالية ساذجة في نظر هيجل، وهى المثالية القى تدعى أن الأشياء الحسية ليست إا عالما ذاتياً هو عالم الشعور، لان هيجل ينكر هذم الدعوى، دعوى أن المحسوسات لا وجود لها إلا في عالم الشعور والإحساس والوعي، وقد قال هيجل في كتاب ,ا علم الجمال، :

« إن ريش الطيور المتعدد الالوان يرف حتى لو لم يره احد، وغناء الطير يتردد حتى لو لم يسمعه احد، وشجيرة كاراثوس التي لا تزهر إلا ليلة واحدة، والغابات الاستوائية التي تشتبك فيها النباتات الجميلة الغنية، تنبعث منها عطور فاغمة، وكل هذا يفنى ويسقط دون أن يستمتع به أحد » ,

وكل هذا يدل على أن هيجل يرى أن لهذه المحسوسات وجوداً مستقلا قائيا براسه لا يتوقف عل الامتثال الاساسي له. أما المثالية الهيجلية فتقول إن ٠ الفكرة , هي المطلق ؛ وا الفكرة I) هاهناIdee تشابه أالصورة اعندأفلاطون وهي التي بالمشاركة فيها تتكون جميع المحسوسات. بيد أن ثمة تفرقة كبيرة بين ا الفكرة » عند هيجل وبين B الصورة ٠ عند أفلاطون، لأن « الصورة الأفلاطونية عالية ومذهب أفلاطون ثنائي يقول باثنائية بين العقل والمادة، بين العالم المعقول والمحسوس. أما ا الفكرة ه الهيجلية فهي محايثة Immanente، وفلفة هيجل فلسفة محايثة. وعنده أن المطلق هو الذات الكلية التي تنتظم كلشيء. وكل الأشياء ليست إلا تطورا ونموا ديالكتيكيا عن الفكرة الأصلية. وهذه الذات الكلية هي عينها « الفكرة» أو « التصور» عند هيجل (٤٣1%٤ع8)وكلمة ٠ البيجرف» في الألمانية تعني الشمول او الإدراك الشامل. ومن هنا فان كلمة (ا التصور» معناها الشمول والكلية. وعلى هذا فان التصور الهيجلي هو الكلي الذي ينتظم كل تعيناته ويشملها في تطور ديالكتيكي

وبهذا المعنى التصور هو العيني عينية مطلقة. ويميز هيجل بين الفكرة وبين التصور، مع ذلك، على اساس أن

الفكرة هي التحقيق الكامل للتصور إن الفكرة هي الوحدة المطلقة للتصور وللموضوعية، وهي الحق في ذاته ولذاته. الفكرة هي الحياة. وهي الخير في المعارف والأفعال. وهي المعرفة الكلية المطلقة التي يصل إليها فكر الفيلسوف. إنها الحق حين يعرف نفسه. ومن وجهة نظرالفكره I التصور، يبدو مجرد لحظة تابعة، ومع ذلك فالتصور يظل دائا مبداً الفكرة.

ويقول في (I علم المنطق ٠ محدداً الفكرة Idee بما يلي :

(ا الفكرة» هي التصور الموافق ؛ وهي الحق الموضوعى، أوهى الحق بوصفه الحق - فحينما يكون الشى ء حقاً يكون كذلك بمافيه من فكرة. والشىء يكون فيه من الحق بقدر ما يكون فكره، واللفظ Idee كثيراً ما استخدم في الفلسفة بمعنى التصور واحيانا بمعنى الرأي، فيقال مثلا : لي لدي أية فكرة عن هذه المسألة. وفي هذه الحالة تدل الفكرة على الامتثال. ولكن كنت استعمل الكلمة عع14 بمعنى التصور العقلى. وهذا عند كنت ينبغى أن يكون تصوراً ليس مصحوباً بشرط ؛ وفيما يتعلق بالظواهر ينبغي ان يكون التصور العقلي عالياً، وبعباره اخرى لا نستطيع ان نصنع من هذا التصور العقلي شيئاً غريباً موافقاً له وعلى هذا فكنت يرى أن التصورات العقلية تفيد في التصور، وتصورات الذهن تفيد في الإدراكات. أما نحن فنحتفظ بكلمة , فكرة ٠ Idee للتصور الموضوعي الواقعي ونميزها من التصور نفسه. وأكثر من هذا نميزها من مجرد الامتثال ونحن ننبذ المعنى الذي تفهم به الفكرة على أنها شيء غير واقعي كعا يقال عن التفكير الصحيح إن هذه ليست إلا مجرد أفكار.

والوجود يبلغ معنى الحق حينما تكون الفكرة هي الوحدة بين التصور والواقع، فيصبح الوجود هو الفكرة، ومع ذلك فإن الفكرة ليس لها فقط المعنى العام للوجود الحقيقي وللوحدة بين التصور وبين الحقيقة الواقعية، بل ها معنى أدق هو وحدة التصور الذاتي والموضوعية، ذلك أن التصور، بوصفه تصوراً، هو الهوية بين الذات والواقع الحقيقي لأن العبارة غير المحددة : ٠ الحقيقة الواقعية» معناها فقط (I الموجود المحدد» وهذا المعنى يوجد في التصور من حيث أنه مفرد جزئي ٠

وبالجملة فإن الفكرة هي أولا الحياة، هي التصور الذي إذا ميز بينه وبين موضوعيته نفذ في موضوعيته نفسها. -

هيجل

والعقل يدرك ٠ الفكرة , على أنها حقيقته المطلقة، وعلى أنها الحقيقة بذاتها ولذاتها. والفكرة المطلقة هي لهوية بين الفكرة النظرية والعملية. والفكرة المنطقية عحتواها هوذاتها. وهكذا نجد هيجل في الكتاب الثالث من اعلم المنطق ٠ يخصص فصولا طويلة لتحديد معنى الفكرة، والفكرة المطلقة، وكيف تتطور الحقيقة الواقعية إبتدام من الفكرة، ذلك أن الفكرة هي في نظر هيجل الكلى، وهي علمية موضوعية. هي الكلى كما يدركم الذهن، وهي الكل ثانياً بمعنى التصور، أي بمعنى الإدراك المحدد العيني للمضمون.

إن الفكرة هي التصور من حيث يتحقق، التصور حينيا يمتلى ء بذاته، فمثلا : النف تصور، وهذا التصور يمتلىء بحقيقة في داخل الجسم، ومن هنا تنشأ الحياة، وإذا انفصل التصور عن ا لوا قع نشا عنه الموت.

والفكر عند هيجل هو أولا جوهر الأشياء الخارجية، وهذا الجوهر يكون في الطبيعة على صورة عقل متحجر كما قال شلنج، يتبدى على هيئة قوانين الجواهر والأجناس والأنواع. وثانيا: الفكرة هي الجوهر الكلي للعقل. فغي كل عيان إنسافي يوجد الفكر، كذلك الفكر هو العنصر الكلي فيكل امتثال، وفي كل تذكر، وبالجملة فيكلنشاطعقليوكل إرادة وكل رغبة. ولهذا ينبغي أن ننظر إلى الفكر على أنه المبدأ الكلي الحقيقي، لكل وجود طبيعي وروحي، إن الفكر يسيطر وينتظم كل الأشياء، وهو الأساس في كل الأشياء ٠

مذهب هيجل

مذهب هيجل يتالف من ثلاثة معان رئيسية :

(أ) الفكرة (ب) الطبيعة ( ج ) الروح

وهذه المعافي الثلاثة ترجع إلى معنى واحد هو(ل الفكرة » Begriff فالفكرة هي المطلق، وله ثلاث مراحل في ثلاث لحظات هي :

الوضع thèse؛ النفي antithèse؛ التوحيد والتأليف أو المركب synthèse ويمكن التعبير عن هذه اللحظات الثلاث بقولنا الموضوع، ونقيض الموضوع، ومركب الموضوع ونقيضه

الفكرة هي أولا الفكرة الخالصة، او الفكرة المحض، وهي الأساس في كل وجود طبيعي وروحي • وتناظر في المذاهب القديمة الروحية : الفكر الإلهي قبل خلق العالم.

وهي ثانياً الفكرة المتخارجة، أي التي تخرج عن ذاتها لتتبدى على هيئة الطبيعة في المكان والزمان ,

وهي ثالثاً الفكرة حين تنطوي على نفسها وتدخل في ذاتها بعد هذا الخروج عن ذاتها، وهذا الخروج عن ذاتها يسمى باسم aliénation، أي ان يكون الشيء غير نفسه لكي يصبح روحاً او عفلا حقيقياً وفكراً شاعراً بذاته، وتبعاً لهذه اللحظات الثلاث ينقسم المذهب في الفلسفة الهيجلية إلى:

المنطق وفلسفة الطبيعة وفلسفة الروح أو العقل وقد وحد هيجل فيما بين الفكر والعقل حقى ليمكن أن نقول إن العقل في المذهب الفلسفي يدرس من نواح ثلاث :

فهو يدرس في حالة كونه مجرداً وذلك في لمنطق ويدرس من حيث تحققه في الكون وذلك في فلسفة الطبيعة

ويدرس من حيث أنه يتحقق عن طريق الفكر والنشاط الإنساني وذلك في فلسفة الروح.

والمنطق هوحجر الزاوية في فلسفة ( مذهب ) هيجل، ويجب أن ننظر إلى المنطق نظرة مخالفة للنظرة التي اعتدناها ونحن ندرس المنطق الصوري، فكما يقول هيجل : « المنطق هووما بعد الطبيعة شيء واحد » : إنه هونفسه العلم الذي يدرك الأشياء في الفكرة، وهذه الأشياء تعبر عن ماهيات الأشياء، وبعبارة أخرى المنطق هو العلم الباحث في الماهيات العقلية. وحين نقول إن الفكر موضوعى وإنه يؤلف المبدأ الباطن للكون، فيبدو أننا نعزو إلى الأمور الطبيعية وعياً وشعوراً، ولكننا نشعر بفور لتصور النشاط الباطن للأشياء على أنه فكر، لأننا نقول عن الإنسان إنه يتميز عن الأشياء الوضيعة بالفكر، فكيف نعزو إلى الأمور الطبيعية فكراً، وهو الفاصل المميز للانسان عن سائر الكائنات في الطبيعة ؟ ووفقاً لهذا يجب أن ننظر إلى الطبيعة على أنها افكار غير مشعور ما، وكأنها عقل متحجر على حد تعبير D شكج ». لكن تجنباً لكل سوء فهم ينبغي أن نستخدم الكلمة D تحديد الفكر٠ بدلا من H الفكر fl. وهذا المعنى للفكر وتحديداته تجده معبرا عنم تعبيراً دقيقاً في الصيغة القديمة وهي العقل او النوس nous الذي يحكم العالم، ونحن نعبر عن هذه الصيغة حينما نقول إن العقل يسكنه ويتقوم به أو هو محايث فيه يؤلف طبيعته الخاصة الباطنة، ويكون الطبيعة الكلية.

هيجل

فإذا حق لنا بعد هذا الذي تقدم، أن ننظر إلى المنطق على أنه نظام التعينات الخالصة للفكر فان سائر العلوم الفلسفية من فلسفة الطبيعة وفلسفة العفل تبدو لنا على أغها منطق، لأن المنطق هو الروح التي تشيع فيها، ومعنى هذا إذن أن موضوع لمنطق هو بعينم موضوع الطبيعة وفلسفة العقل، ولكنه العقل محضاً في المنطق، والعقل مطبقا في حالة تخارج في فلسفة الطبيعة، والعقل في حالة استبطان في فلسفة الروح أو العقل. والتعينات المنطقية للفكر عقول محضة، إن هذه التعينات هي أعمق عماثق الأشياء وهي في نفس الوقت الأمور التى تردد في أفواهنا باستمرار، ولهذا البب تبدو لنا شيئاً مالوفاً معروفا، والواقع أب ابعد لأشياء عن لمعرفة، فمثلا الوجود هو تعين خالص للفكر، ومع ذلك فلا يخطر ببالنا أن نجعل اللفظ الدال على الوجود موضوعاً للبحث.

ونذكر عاده أن المطلق ينبغي أن يكون موجوداً في عالم آخر، مع أنه هو في الواقع ارسخ الأشياء حضوراً فينا لأننا بوصفنا كاثنات عاقلة مفكرة نحمله في داخل نفوسنا، ونستعين به وإن كنا لا نشعر بذلك ٠ ويقال عادة إن المنطق لا يعنى إلا بالأشكال والصور، بينما هويستمد محتواه من غيره، لكن الأفكار المنطقية ليست شيناً جزئياً بالنسبة للمحتوى، بل المحتوى هو الجزثي بالنسبة للأفكار لأنها هي الأساس الموجود في ذاته ولذاته بالنسبة لكل الأشياء , وهكذا يتحدد لنا المنطق عند هيجل على أنه في نفس الوقت علم الوجود، فما دام الوجود مجرد صفة من صفات الفكر، لا العكس، فإن البحث في المنطق بحث في الوجود ٠

إن الواقع عقلي خالص، وعلى ذلك فإن البحث في الوجود هو البحث في الفكر وقوانينه، وما يبحثه العقل من قوانين هر في الواقع قوانين الحقيقة الواقعية، وعلى ذلك فإن مقولات الفكر هي بعينها مقولات الوجود , فإذا كان الفكر ديالكتيكي الطابع فما ذلك إلا لأن الوجود نفسه ديالكتيكي. فالديالكتيك الفكري ليس غير انعكاس للديالكتيك الواقعي، والمنطق لا يتبع الوافع بل العكس. صحيح إن المنطق يبدو وكانه ملكوت الظلال، لكن هذه الظلال ما هي إلا الماهيات المجردة المعراة عن كل ما هو محسوس ٠ وبهذه الماهيات يتألف الكون كله.

وهيجل يحدد في مواضع عديدة ما يقصده بالمنهج الديالكتيكي وخلاصته أن نمو أو تطور الفكر يجري من الوضع إلى السلب، إلى التاليف بينهما، اي على أساس هذا

الثلاث من موضوع، إلى نقيضه، ثم إلى المؤلف من كليهما أي مركب الموضوع. وفي هذا يقول : إن السير الديالكتيكي كما نفهمه هوإدراك التعارض في الوحدة ؛ أوإدراك الموجب في السالب وهذا السلوك هو سلوك الفكر النظري، ويقول في موضع آخر : اطلق كلمة ديالكتيك على المبدأ المحرك للتصور من حيث انم لي فقط يحل تجزيئات الكل بل وايضاً هو الذي يحدثها. واللفظ ديالكتيك لا يعني أن موضوعا أوقضية أو شيثاً معطى للشعور أو العاطفة او الوعي المباشر ينحل ويختلط من أجل أن نشتق منه مضاداته فهذا هو الديالكتيك السلبي كعا نجده عند أفلاطون، لأن النتيجة الأخيرة لهذا الديالكتيك السلبي هي أن نقدم المضاد في امتثال ما، وهو امر يمكن أن يدرك على نحوما أدركه الشكاك القدماء على أنه تناقض، او يدرك على النحو الفاسد الذي أدركه عليه المحدثون، أي على أنه اقتراب من الحقيقة، بينا الديالكتيك العالي للتصور فحواه إدراك التحدد ليس فقط على أنهحد ومضاد، بل وأيضاً على انه يزرج من ذاته محتوى ونتيجة إيجابيبن. وعلى هذا فالديالكتيك مكن أن يكون نمواً وتقدماً باطنيا عايثا، وعل هذا فالديالكتيك لي نشاطاً ذاتيا لفكرم خارجية، بل هو عينه روح المحتوى الذي يتتج عضويا فروعه وثماره , إنه الفكرة التي تنمو بفضل نشاط عقلها الخالص. والفكر الذاتي لا يفعل أكثر من أن يشاهد هذا التطور دون أن يساهم بشيء من جانبه، والتعينات في تطور التصور هي من ناحية تصورات، ومن ناحية أخرى ما دام التصور هو في جوهره الفكرة، فإن هذه التعينات لها أيضا شكل الوجود العيني في الحقيقة الواقعية. وسلسلة التصورات التي نحصل عليها هكذا هي في الوقت نفسه سلسلة من الأشياء الواتعية الحقيقية العينية، والفكرة ينبغي أن تتحدد في ذاتها لأنها في البدء يست إلا فكرة مجردة، ومع ذلك فإن هذا التصور المجرد في البداية لا يترك أبدا، بل يري في داخل ذاته دائياً.

والتعين الأخير يكون اغغى التعينات. والتعينات التي كانت سابقاً موجودة في الداخل فحسب تصل بهذا إلى استقلال ها الحر، ولكن التصور يظل هو الروح التي تمك بالمجموع وتستعيد امتلاكه لتفاضلها الخاص عن طريق عملية باطنية. وعلى هذا لا يمكن أن نقول إن التصور يصل إلى شيء جديد، والتعين الأخير يصل إلى الأول في وحدته، فاذا ابتدأ التصور وقد انشق على نفسه مدة وجوده فلي هذا إلا

٥٨٢

هيجل

مجرد مظهر فحسب ينكشف عل هذا النحو في التقدم، لأن كل الخصائص الجزئية تعود في النهاية إلى حضن الكل، وفي العلوم التجريبية يحلل عادة ما هوموجود في الامتثال، فاذا ما أرجعنا الجزثي إلى المشترك كان هذا يسمى تصوراً ٠

ومن هذا النص يتبين أن الديالكتيك هو نمو التصور لكي يغني وينمي ما يتضمنه، وذلك بالسير وفقاً لهذه المراحل الثلاث من وضع، إلى رفع، إلى تأليف جامع بين الوضع والرفع.

نظرية الوجود

منطق هيجل يتضمن ثلاثة أقسام رثيية :

نظرية الوجود ونظرية الماهية ونظرية التصور

أما الأولى فتدرس المقولات الأبسط والأقل تحديداً وهي مقولات المباشرة ٠ وتبدأ هذه النظرية بفكرة الموجود أو الوجود Sein, Etre والوجود هو الفكرة الأكثر تجريداً والأكبر كلية، وتبعاً لهذا هي الأكثر فراغاً من المحتوى، والموجود الذي ليس هذا ولا ذاك ليس بشيء : إنه واللا موجود سواء. وهذا التناقض بين الوجود واللاوجود والصيرورة أو التغير هو الفكرة العينية الأولى ٠ ويهذا هو التصور الأول، بينما الوجود والعدم مجردات خاوية.

وفي هذا يتشابه هيجل مع هيرقليطس : يعني أن كل شيء في تغير ولا شيء في ثبات، وليس المطلق إلا هذم العملية المستمرة للتغير. ومن هنا يقول هيجل إن المطلق عملية، ويقول مرة أخرى بعد ذلك : D حينما نتحدث عن فكرة الموجود فاننا نريد بهذا أن نقول إن هذه الفكرة تقوم في التغير والصيرورة لأنها بوصفها الوجود هي اللاوجود الخاوي وبالمثل اللاوجود بوصفه لا وجود هو الوجود الخاوي، وهكذا نجد أن لدينا في الوجود اللاوجود وبالعكس I).

وهذا الوجود الذي يبقى في ذاته في اللاوجود هو التغير أو الصيرورة وينبغي ألا نرفع الخلاف في وحدة الصيرورة لأنه بغير الخلاف نرجع إلى الوجود المجرد • فالصيرورة أو التغير هي وضع ما هو الوجود في لحق، وبتعبير اوضح : التغير هو حال الوجود على وجه الصواب ونسمع كثيرا ما يقال إن الوجود مقابل الفكر، ومن هذه الناحية ينبغي أن نتساءل أولا : ماذا يقصد بالوجود ؟ إذا أخذنا الوجود كما يحدده التأمل فسنقول عنه إنه العنصر الذي في هوية مطلقة وتوكيد

وإيجاب، وإذا نظرنا الآن إلى الفكر فسنرى أنه هو ايضاً في حالة هوية مطلقة مع ذاته. وهكذا نرى أن نفس التحديد يطلق عل الوجود والفكر معاً. ومع ذلك ينبغي ألا تنظر إلى هذه الهوية للوجود والفكر على أنها هوية عينية، وبالتالي ينبغي الا نقول عن الحجر بوصفه كذلك إنه في حال هوية مع الإنسان المزود بالفكر، واللحظة العينية شيء يختلف عن اليقين المجرد بوصفه كذلك ٠ لكن حين التحدث عن الوجود ليس ثمة مجال للتحدث عن شى ء عينى لأن الوجود تجريد مطلق ومن هنا نرى ايضاً ان المسألة المتعلقة بوجود الله وهو أكثر الأمور عينية لا تقدم إلا فائدة قليلة من حيث التساؤل عن جدوى واقع المسألة. ولما كان التغير هو أول لحظة عينية فإنه هو أول تعين حقيقي للفكر. وفي تاريخ الفلسفة مذهب هيرقليطس هو الذي يناظر هذه الدرجة من الفكرة المنطقية فحين قال هيرقليطس ٠ كل شيء يسيل ٠ فإنه وضع بذلك التغير تحديداً اساسياً لكل ما هو موجود. وينبغي ان نقول إن التغير في ذاته ولذاته هو تحديد فقير جداً وينبغي ن ينمى من اجل أن يكمل وأن يدخل في الطبيعة على نحو اعمق، وهذا التحديد الأعمق للتغير نجده مثلا في الحياة، فالحياة تغير ولكنه لا يستنفد معغى الحياة، ونجد التغير على نحو أعل في الروح او العقل لأن الروح تغير أيضاً، لكنم تغير أشد واغنى من مجرد التغير المنطقي، واللحظات التي يؤلف العقل وحدتها ليت لحظات بسيطة مجردة للوجود واللاوجود، بل نظام الفكرة المنطقية ونظام الطبيعة.

ويزيد هيجل في تحديد معافي الوجود فيقول إن الوجود هو الوجود مع إمكان تحديده تحديدا مباشرا ليس فيه ثم غير الوجود، وهذا ما يكون الكيفية، والوجود في هذا التحديد للكيفية ينعكس على نفسه فيصبح الكائن الموجود. وفي كل شيء مزيج من اللاوجود والوجود. فالزهرة لو كانت زهرة فحسب لظلت إلى الأبد ولكنها تنكر ذاتها وتدحض نفسها، وذلك بان تذبل كي تصبح ثمرة وحبا، رهكذ كل موجود يحوي في داخله اللاوجود الذي بفضله يتطور وينمو، فلو لم يوجد نفي وسلب في الوجود لما حدث تطور ونمو ٠ وهذا طبع يخضع للمبدأ الأساسي عند هيجل وهو أن 1« الوجود يحتوي في داخلم على الوجود واللاوجود في وقت واحد معاً أي أن التناقض طبع الوجود، وكل مقولات الوجود تنمو ابتداء من الصيرورة ولتبسيط الديالكتيك الهيجلى يمكن القول بأن التغير هو الانتقال من كيف الى كيف آخر، وكل الصفة تعين وجوداً

هيجل

تجريبياً أو انية Dasein والكائن الذي يتعين من حيث أنه يعارض كائنا آخر، هو كائن لذاته Fur sich Sein فالحركة الديالكتيكية تقود من الكيف إلى الكم، وبهذا نصل إلى المقياس، والمقياس مقدار يتوقف عليه الكيف : فمثلا الماء وفقاً لدرجة الحرارة يظل سائلا أويستحيل ثلجاً، أو بخاراً ,

ولقد أشرنا إلى أن هيجل يرى أن كل وجود ينطوي على لا وجود، وأن هذا هو الأساس في كل وجود وقلنا إن معنى التناقض هو في أصل الوجود، وعلى حد تعبيرنا « الوجود نسيج الاضداد» وهيجل يتوسع في هذه الفكرة في فصل طويل في كتاب ه المنطق » ( القسم الثاني ص٥٨: ٦٢ ) فيقول إذا كانت التعينات الأولى العقلية،وهي الهوية والاختلاف والتقابل تقرر بوصفها مبادى، فبالاحرى والأولى ينبغي أن ننظر وان نقيم مبدأ التحدد الذي فيه تصبح هذه الامور في وضعها الصائب أعني أن التناقض ينبغي أن نصوغ مبدأه على النحو التالي : كل الاشياء متناقضة في ذاتها.

وهذه الجملة تعبير عن حقيقة الأشياء وماهيتها، والتناقض الذي يبدو في التقابل ليس إلا العدم المتضمن في الهوية، والذي يصبح ظاهرا في القضية القي تقول أن مبدأ الهوية لا يقول شيئاً وهذا النفى حين يستمر في تحديد ذاته يصبح اختلافاً اي يصبح تناقضاً موضوعاً ومن المعاني السابقة لموجودة في لمنطق التقليدي والتصور العام أن يقال إن التناقض ليس تعيناً محايثا جوهرياً مثل الهوية. لكن إذا كان الأمر هاهنا ترتيباً تصاعدياً ؛ وإذا كان من الممكن النظر إلى هذين التحديدين ( التناقض والهوية ) على أنهما مستقلان الواحد عن الآخر، فبالأحرى التناقض ينبغي أن ننظر إليه عل أنه التحديد الأعمق والأحفل بالجوهرية. فالهوية بإرائم ليت إلا تعينا للمباشر البيط للكائن الميت، بينما التناقض هو جذب كل حركة وكل حيوية. فالشيء يكون قادراً عل الحركة والوثبة والنشاط بالقدر الذي به يتضمن تناقضا والتناقض هوعادة ما ينبذ من الأشياء أولا، ومن الوجود ومن الحق بوجه عام. ويقال خصوصاً لا شيء متناقض ومن ناحية أخرى يلقي بالتناقض في التأمل الذاتي بان يقال إن التأمل هو الذي يضع التناقض بروا بطه ومقارناته ٠ ولكننا لا نستطيع أن نقول إن هذا التناقض موجود في هذا التأمل لأن لمتناقض لا يمكن التفكير فيه ولا امتثاله، سواء كان التأمل متعلقاً بالحقيقة الواقعية أو بتأمل المفكر، لأنه بالنسبة لتفكير المعتاد، التناقض يعد مجرد عرض أو حالة مرضية طارئة،

ولكن ليس لنا أن نهتم بهذا الزعم القائل بعدم وجود تناقض، ذلك أن التعبير المطلق للماهية ينبغي أن نجده في كل تجربة وفي كل حقيقة واقعية وفي كل تصور -

«وحينما تحدثنا (مشيرا إلى قول سابق) عن اللامتناهي، وهذا هو التناقض كما يبدو في نطاق الوجود، فإنا قلنا نفس الشى ء,, ويرد هيجل على كل الاعتراضات قائلا : إن التجربة تدلنا على ان ثمة كثيراً من الأشياء المتناقضة وكثيراً من النظم والمؤسسات المتناقضة وتناقضها لا يوجد فقط في التأمل الخارجي، بل يوجد ايضاً في نفس الأشياء. وكذلك ينبغي الا ننظر إلى التناقض عل أنه مجرد شذوذ لا يبدو كذلك إلا هاهنا وهاهناك، بل التناقض هو السلب في تعينه الجوهري، هو مبدأ كل حركة تلقائية، فما الحركة إلا مظهر من مظاهر التناقض، فالحركة الحية الخارجية بذاتها هي وجود التناقض المباشر نفسه ؛ فإن الشيء يتحرك ليس فقط بوصفه يوجد في لحظة ما هاهنا وفي الأخرى هاهناك، ولكن أيضاً بوصفه في نفس اللحظة هنا ولا هناك وبوصفه هو في نفس الوقت ليس في نفس المكان. وينبغي أن نعترف مع القدماء الديالكتيكيين بالمتناقضات التي كشفوا عنها في الحركة. لكن لا ينتج عن هذا أن الحركة لا توجد، بل إن الحركة هي التناقض الموجود فعلا في التجربة ٠ كذلك الحركة الذاتية، وهي الميل أو الاندفاع عامة، معناها فقط أنه من ناحية واحدة الشيء يوجد في ذاته وفي نفس الوقت هو عدمه وإنكاره، فالهوية المجردة مع الذات ليس لها أية حيوية، لكن بحكم أنه الايجابي هو في نفس الوقت سلب، فانه مخرج من ذاته وينخرط في التغير. وعل هذا فإن الشيء لا يكون حيا إلا بمقدارما يتضمنه من تناقض، فيملك قوة الامساك تهذا التناقض في نفس الوقت، وحينا يصبح الموجود عاجزاً في تحدده الوضعى عن الانتقال إلى التحدد السلبى وعن الاحتفاظ بالايجاب والسلب معاً، أو حيننا يصبح عاجزاً عن أن يحتمل في داخل ذاته التناقض، فإنه لا يكون وحدة حية، رلا يصبح اساساً بل يتداعى وينهار امام التناقض. والتفكير النظري فحواه أنه يتبنى التناقض وحتفظ بنفه فيه بينيا التفكير العادي يستسلم للتناقض، ويجعله يغيرأو يقضي على تعيناته.

وإذا كان التناقض يتقنع في الحركة بقناع البساطة فانه في التعين الإضافي يتبين بكل جلاء الأمور المتضادة وهي الأعلى والأسفل، واليسار واليمين، والوالد والابن....

٥٨٤

هيجل

وهكذا يتضمن كلا الطرفين المتقابلين في طرف واحد ٠ هذه تحددات في حالة تضايف. فيا هوفوق هوما ليس تحت، وما هو فوق معناه فقط الا يكون تحت، والفوق لا يوجد إلا بوجود تحت والعكس، وعلى هذا فكل تعين يتضمن بالضرورة مقابله • والوالد هو غير الابن وبالعكس فكل منهما هوغيرغيره. وفي الوقت نفسه كل تعين من هذه التعينات لا يوجد إلا بالنسبة للآخر، ووجوده هو مجرد وضع، ولكن الاب هو في نفس الوقت أيضاً شيء خارج علاقة أو إضافة إلى ابنه لكن لن يكون الإنسان بوجه عام وليس أبا والمتقابلان يتضمنان إذن التناقض بقدر ما يترابط بعضهما بالنسبة لبعض في نقطة معينة، أو بقدر ما يحايد كل منها الآخر، أو بقدر ما يكون كل منها سوياً أوغيرمكترث بالنسبة للآ--ر. والامتثال حين ينتقل في لحظة السوية لتعينات ينسى وحدتها السلبية، ولا ينظر إليها إلا كخلافات، وهي تعينات فيها اليمين ليس هو اليمين واليسار ليس هو اليسار.. الخ. كنه حين يجد فعلا اليمين أمامه واليسار فإنه يجد نفسه بإزاء تعينات ينفى بعضها بعضاً وتظل سواء بعضها بالنسبة لبعض في نفس الوقت الذي ينفي فيه بعضها بعضا.

ديالكتيك اللامتناهي :

حينما يتحدث هيجل عن المقولات يعرض نظريته المشهورة في ديالكتيك اللامتناهي، وتصوره لللامتناهي الحقيقي. يرى هيجل أنه ينبغي ألا ننظر إلى اللامتناهي على أنه تقدم المتناهي الذي بتقدمه يدنع حدوده باستمرار، ولكنه بهذا إنما يعطي نفسه حدوداً جديدة فإن هذا التقدم اللامحدود هو اللامتناهي الفاسد أو الزائف، بينما ينبغي أن ننظر إلى اللامتناهى الحقيقى نظرة ديالكتيكية على أنه ما يتحقق في المتناهي وبالمتناهي حيث يتبدى فارضاً على نفسه حدوداً ينفيها فيما بعد، ونفي نفسه هذا هو إيجابه، و بعبارة أخرى اللامتناهي لحقيقي عند هيجل هو ه مجموع لحظات الوجود التي تحدد ذاتها بذاتها في كل حد يضعه التغير الكلي ٠.

ويمكن تصوير اللامتناهي الفاسد بأنه مستقيم يمتد إلى غير نهاية، وتصوير اللامتناهي الحقيقي بأنه دائرة. فالمطلق يدور بمعنى أن اللامتناهي يتبدى ويعطي نفسه الوجود بأن يحدد نفسه ويصيرواحدا، ذلك أن الوجود غيرمحدد فيعطي نفسه حدا، وكل حد هو نفي، وعليه بعد هذا أن ينفي هذا الحد فكأنه إنما يؤكد وجوده بنفى النفى، وهكذا يستمر أبداً.

قال هيجل : 1( اللامتناهي مأخوذ بمعناه العام حينا يدرك على شكل تقدم لا متناه، هو عملية تجاوز الحد الكيفي أو الكمي بحيث يصير هذا الحد إيجابياً، ويظهر دانا بعد نفيه ». ولكن اللامتناهي الحقيقي هو نفي النفي بالقدر الذي به يتضمن الحد في النفي الحقيقي، وفيه لا يضع التفدم عبر المتناهي حدا جديدا، ولكن لتجاوز الحد يستعيد الوجود هويته مع ذاته».

ويعقب على هذا في موضع آخرفيقول : ا إن الموجود المحدد له حد لا في اللا وجود المعين ولكن في وجود آخر معين، فالأشياء التي تتحدد بذاتها لها علاقة تبادلية إيجابية، والواحد منها له نفس تحدد الآخر، وعلى هذا فكل موجود معين هو محدد ومتناه،أي ان كل موجود ينبغي أن يتجاوز بالتحديد، وبهذا نضع التقدم إلى غير ضهاية، والحل الوحيد لهذه النقيضة كما يلي : لا الحد ولا اللامتناهي المذكوران في هذه النقيضة صحيح في ذاته، لأن الحد من نوع ينبغي أن يتجاوز، واللامتناهي هو ما يقترب منه الحد باستمرار، واللامتناهي الحقيقي هنا هو التأمل في الذات، والعقل لا يتأمل المعافي في زمانه بل في ماهيته وفكرته. ووجوب الوجود بذاته يتضمن الحد، والحد يتضمن وجوب الوجود، وعلاقتهما المتبادلة هى المحدود نفسه الذي يتضمن كليهما في وجوده الباطن , ولحظات تعينه تتقابل كيفياً، فالحد يتحدد على أنه سلب لوجوب الوجود كما أن وجوب الوجود يتحدد على انه سلب للحد. وهكذا نجد أن اللامتناهي هوتناقض ذاته الباطنة، فهو يتجاوز ذاته ويختفى... واللامتناهى في تصوره البسيط مكن أن يعد تحديداً جديداً للمطلق. إنه يوضع على أنه رابطة اللاتعين مع الذات بوصفه وجوداً وصيرورة. وأشكال الوجود المتعين تستبعد من سلسلة التعينات التي يمكن ان ينظر إليها على أنها تحديدات للمطلق، لأن أشكال هذا النطاق لا توضع لنفسها مباشرة إلا بوصفها تعينات أي اموراً هائية » ,

وهكذا نجد أن اللامتناهى هو المطلق لأنه يعين الوجود بوصفه نفياً للمتناهي. والخلاصة أن اللامتناهي هو :

( ا ) في تعينه البسيط يكون هو الموجب بوصفه سالباً للمتناهي ,

( ب ) لكنه بهذا في تعين متبادل مع المتناهي، إنه اللامتناهي من طرف واحد مجرد.

(ج) اللامتناهي تجاوز الذات لهذا المتناهي،

هيجل

٥٨٥

والمتناهي بوصفه كذلك عملية واحدة وحين ذلك يكون هو اللامتناهي حقيقة.

وجهذا نصل إلى تحديد متبادل للاثنين، فالمتناهي متناه فقط في العلاقة مع وجوب الوجود، واللامتناهي غي متناه فقط في علاقته مع المتناهي، والواحد منهما غير منفصل عن الآخر، وهما غيران، وإن كان كل منهما يتضمن الآخر في ذاته. وعلى هذا فكل منهما هو وحدة ذاته مع غيره، وفي تعينه يكون وجوداً متعينا، أي لا يكون وجوداً على ما هو عليه غيره، وهذا التعين المتبادل الذي ينفي ذاته وينفي سلبه هو ما يبدو أنه يتقدم إلى غير نهاية وهو الذي في كثير من الأشكال والتطبيقات يظهر أنه نهائي لا يستفاد منه. والفكر العادي يعتقد أنه بلغ الغاية حينا يصل إلى هذه العبارة : ٠ وهكذا إلى غير ضهاية ٠.

وهذا التقدم يبدو أينا دفعنا التعينات النسبية إلى مقابلاتها بحيث تصبح هي وهذه المقابلات وحدة لا تقبل الانفصال ؛ وفي الوقت نفسه تنسب إلى كل منها بالنسبة للآخروجوداً مستقلا، فهذا التقدم هوإذن التناقض الذي لم يحل، بل هو تناقض يعلم دائباً أنم حاضر. ومعنى هذا أن التناقض حاضر باستمرار، واللامتناهي كذلك في جميع عمليات الوجود

على أن هيجل يتناول بعد هذا جملة مباحث متصلة بالموجود لذاته والواحد والكثير فيقول إن الموجود بذاته بوصفه ذا علاقة مع ذاته يسمي المباشرة -111؛ ااً؛€،ا3٢ةجاًاً؛11111رآ غاًغأ3؛لج01 وأما بوصفه يؤلف علاقة سلب مع ذاته فإنه هو الوجود لذاته المعين أو الواحد , والواحد هولحظة تستبعد كل اختلاف يختفي فيه الغير، لكن العلاقة بين حد سلبي وبين نفسه هي علاقة سلبية، وبالتالي الواحد يتفاضل ويطرد ذاته، وتهذا يضع وحدات كثيرة، وهذه الوحدات في حالات مباشرة تكون موجودات متمايزة يرفض بعضها بعضاً ويستبعد بعضها البعض ,

غيرأن هيجل يتابع تحليل فكرة الواحد والكثيرتحليلا ينتهي منه إلى أن الواحد هو الكثير، وبالعكس. ويؤكد هذه الحقيقة على أنها نوع من التغير أو العملية لا على أنها الوجود كها يوضع في وحدة ساكنة في قضية ٠ و٣ذه المناسبة يتحدث كذلك عن بعض المقولات الكبرى، وخصوصاً مقولتي الكم والكيف.

الماهية

الماهية عند هيجل هي ما يستتر تحت المظاهر المتغيرة للوجود التجريبي. فمثلا مظهر الثلج والماء السائل وبحار الماء، كلها مظاهر تجريبية خارجية تستتر تحتها ماهية الماء بوصفه في هوية دائاً مع ذاتم. وعل هذا فالماهية هي في مقابل ما يقع تحت الحس أي الظاهر , ومن هنا يبدو الموجود مزدوجاً، اي يبدو على وجهين ينعكس كل منهم في الآخر. وفي هذه الحالة نجد أن الحدود تتقابل هاهنا مثنى مثنى، مثل الهوية والاختلاف، الأساس والنتيجة، الشيء والخواص، القوة ومظاهر تحققها، الداخل والخارج. ومع أن كل مثنى يستبعد طرفاه كلاهما الآخر فان كلا منهما يدعو الآخر في نفس الوقت، فالشي، مثلا لا يكون شينا إذا جردنام عن خواصه التي هي بمثابة انعكاس له في ذاته، والقوة ليست إلا مقدارا خاويا إذا قصلناها عن مظاهر تحققها ومن هنا فان تفسير الظاهرة بالقوة المحدثة لها هو مجرد تحصيل حاصل. ومعنى هذا أن كل مثنى رغم أنهما متضادان فانهما يؤلفان وحدة. فالتقابل بين طرفي كل مثنى تقابل وهمي فحسب، وأشد هذه التقابلات وهما التقابل بين الظاهر والباطن، والداخل والخارج. فالتأمل العادي ينظر إلى الماهية عل أنها ليست شيئاً آخر غير ياطن الأشياء، والوانع أن الداخل والخارج مضمونهم واحد. فالإنسان في خارجه هو تماماً الإنسان في داخله، أي أن الإنسان في أفعاله هو هو الإنسان في باطنه، ولو قلنا إنم كذا باطناً فحسب، اي من حيث النوايا والعواطف، وليس باطنه في هوية مع خارجه، فان كليه، يكون خاويا، إذ لا معنى لفصل الباطن عن الخارج، بل يجب ن نقول إن لانسان ليس شيناً آخر غير سلسلة أفعاله، ولهذا فان ما هو باطن محض هو في الوقت نفسه وبهذا عينه خارج محض، فعقل الطفل مثلا ليس في البداية إلا إمكانية باطنية ولا يتحقق حقاً إلا بالتربية باتخاذ صورة سلطة خارجية هي إرادة أبويه وتعليم معلميه، فكأن الطفل أولا في ذاته وبالتالي بالنسبة إلى غيره غير كذا فأصبح بالتعليم كذا لذاته.

ومن هنا ينبغي أا نثق بالعبارات التي تتحدث عن النوايا الطيبة التي لا تترجم عنها الافعال الطيبة. وبعبارة اوضح يرى هيجل ان الداخل والظاهر كلاهما شيء واحد، فلا يجوز أن نقول إنه في الداخل كذا والظاهر كذا،بلهوي الظاهر كماهو في الباطن،لأنه ا معنى للظاهرإلا بالباطن، ولا معنى للباطن إلا بالظاهر. على أن هذه الحدود المتقابلة

٥٨٦

هيجل

مثنى مثنى في نطاق الماهية تجد تركيبها في مقولة الحقيقة الواقعية، فالحقيقة الوافعية فيها ينظر إلى الظاهرة على أنها تحقيق كامل مطابق للماهية، والحقيقة الواقعية في مقابل الإمكان هي الوجود الضروري أو الواجب أو الضرورة العقلية ومن هنا قال هيجل « إن كل ما هوعقلي هوحقيقي فعلا، وأن ما هو حقيقي فعلا هو عقلي ». فالضروري أولا هو الجوهر، وبمعنى آخر هو العلة التي تظهر بآثارها ■ ولكن هيجل يقول بتبادل في الفعل بين العلل والمعلولات، فالعلل تؤثر في المعلولات وبالعكس ٠ ومن هنا قال هيجل بما يسمى باسم العلية الدائرية، وتظهر بابلغ معانيها في الكاثنات العضوية ويسميها باسم الفعل المتبادل Wechselwirkung ولو نظرنا قليلا في توضيح معنى الماهية عند هيجل لوجدناه يقول

إن التصور Begriff يوضع في الماهية وضعاً محضاً. وتعينات التصور لها في الماهية طابع نسبي خالص ولا تنعكس بعد تماما على نفسها، وبالتالي فان التصور لي له في الماهية شكل الموجود لذاته والماهية بوصفها ناتجة عن التعينات السلبية للوجود ليست في علاقة مع ذاتها إا لأنها في علاقة مع حد اخر غير ذاتها، وهذا الحد ليس هو الموجود المباشر بل الموجود الموضوع وضعاً سابقاً عن طريق التوسط. والموجود لا يلغي في الماهية، والماهية بوصفها لا تكون غير علاقة بسيطة مع ذاتها هي الوجود، لكن من ناحية أخرى نجد أن التعينات الناقصة للكائن المباشر قد جعلت هذا الأخير ينزل إلى حالة النفي أو السلب، وبعبارة أخرى أصبح ظاهرة ٠ فالماهية ليست شيئاً آخر غبر الموجود الذي يظهر دون أن يخرج عن ذاته، وفي الماهية العلاقة مع الذات تتخذ شكل الهوية والانعكاس على الذات، وهذا الشكل يحدث هنا مكان الحالة المباشرة للوجود، وحقيقة الموجود هي الماهية، فالموجود هو المباشر - والمعرفة، وهي تسعى لمعرفة لحق ومعرفة ما هو الوجود في ذاته ولذاته، لا تتوقف عند المباشر وتعيناته بل تتجاوز هذا المباشر مفنرضة أنه وراء هذا الموجود يوجد شيء آخر غير الموجود ذاته ,I وأن هذا الأساس هو حقيقة الوجود، بيد أن هذه المعرفة معرفة متوسطة، لأنها لا توجد مباشرة فيها وعندها ولكنها تبدأ بالموجود، وينبغى أن تخترق طريقا أولياً هو الطريق الذي يمضي متجاوزا لموجود أو بالأحرى الطريق الذي يذهب في أعماقه. وفقط عن طريق عملية استبطان هي عملية توسط ايضاً ابتداء من لموجود

المباشر تجري المعرفة بالماهية، وهذه لحركة التي تصور على أنها طريق المعرفة تبدو على أنها نشاط للمعرفة يبدأ بالموجود ويستمر متجاوزاً إياه كيعا يبلغ الماهية، ويبدو هذا النشاط خارجاً عن الوجود وبغير علاقة معه. غير أن هذا التقدم في المعرفة هو حركة الموجود ذاته، وفي الموجود تكشف، وأصبح ماهية بهذه الحركة المتجهة إلى باطن ذاته.

والماهية وجود متجاوز، إنها هوية بسيطة مع الذات بالقدر الذي هى به نفى لميدان الوجود. وهكذا نجد أنه في مقابل وبإزاء الماهية يوجد الموجود المباشر بوصفه عنصراً يصدر عنها. والوجود مظهر '، ووجود المظهر يتألف فقط من الوجود الذي تجاوزه الوجود في عدمه. والوجود له صفة العدمية في الماهية وفي خارج هذه العدمية أي في خارج الماهية لا وجود للظاهر، فالظاهر هو السلب للموضوع بوصفه سالبا، والظاهر هو كل ما يبقى بعد من ميدان الوجود غير أنه يبدو وأن له مظهراً مستقلا عن الماهية، ويبدوأنه هوغير لماهية. والغير يتضمن عامة كلا وحدتي الوجود المحدد واللاوجود المحدد، والجوهري، لأنه ليس له بعد وجود لا يحتفظ بعد من الوجود إلا بمجرد لحظة اللاوجود فالظاهر هو هذا اللاوجود المعين المباشر. ومن ناحية الوجود الظاهر يوجد بحيث يكون له وجود صريح على هيئة الآنية فقط بالنسبة إلى شيء آخر في عدميته المحددة، وعل هذا فإنكل ما يبقى للظاهر ليس شيئاً آخر غير المظهر الخالص للمباشرة -Im mediatete فالظاهر يوجد على أنه مباشرة منعكسة بمعنى أنه لا يوجد إلا بتوسط السلب وفي مواجهة المباشرة ليس شيثاً آخر غير التعين الفارغ لمباشرة اللاوجود المتعين ٠ وهكذا نجد أن الظاهر هو وجود مباشر لي شيئاً ما، أو ليس وجوداً سوياً يوجد خارج تعينه في علاقته مع الذات ٠ فاذا ما خرجنا عن مقولة الماهية التي فيها نقسم الوجود على نحوين ( ظاهر وباطن ) من أجل أن ندخل في نطاق التصور، أي الكل المعقول الذي يضع تفاضلاته الخاصة منتظا إياها وشاملا عليها بوصفها لحظات ما، وهو بهذا يظهر حريته في مقابل الضرورة التي كانت تسود في ميدان الماهية.

نظرية التصور Begriff

يدرس هيجل التصور من ثلاث نواح :

أ - التصور الذاتي الذي يشمل ثلاث لحظات : الكلي، والجزئي، والفردي. فالتصورهو الكلي منظورا إليه

هيجل

٥٨٧

لاعلى أنه هوية مجردة وشكل خالص، ولكن على أنه فكرة تصبح عينية وتعطي لنفسها محتوى، وهي تعين ذاتها بأن تصبح جزئية. فالتصور بهذا المعنى هو الأساس في الحكم الذي لي مجرد ربط بين موضوع ومحمول، بل كما يدل عليه اشتقاق اللفظ في الألمانية Urteil. فالحكم بهذا المعنى من Ur الأصلي، teil الجزء، يدلعل الانقسام الأساسي للتصور، والانقسام الذي يفصل الجزئي. والكلمة العربية » فصل» بمعنى حكم ( فصل في قضية ) تناظر الكلمة الألمانية Urteil من حيث فكرة الإنقسام. فالحكم يربط وجود لأشياء بماهيتها الكلية، فإذا قلنا t سقراط فان» فإننا نربط وجود سقراط بالمعنى الكلي الذي هو الماهية، والبرهان يوجد بين هذين الطرفين عن طريق حد أوسط، فالبرهان إذن يقوم بتوسط بين الكلي الفردي عن طريق الجزئي، فهو يمثل الكلي كما يتحقق في الفردي حينيا يتجزأ، او الفردي حينما يفهم في الكلي عن طريق الجزئي. والبرهان هو الأساس الجوهري لكل حقيقة، فعند هيجل أن كل شيء برهان، كعا أن كل شيء تصور، وعلى هذا فالتصور ليس شيئا ذاتيا محضا، بل هو يتحقق في الكلية العينية التي يشملها، وبهذا يصبح تصورا موضوعيا.

ب — التصور يتموضع ( يصبح موضوعاً ) على ثلاثة أشكال :

١ - الآلية التي توضع فيها الأشياء بعضها إلى جوار بعض

٢ — الكيميائية التي فيها تتجاذب الأشياء وتتداخل.

٣ - الغائية أي الغائية العضوية التي فيها تسود الغاية وتوجه نشاط الأجزاء، والغائية تمهد السبيل لمجيء الصورة بالمعنى الكامل، التي فيها التصور يعود إلى ذاته باتحاد الذاتية والموضوعية والصورة الكاملة Idee هي أعلى تحديد للمطلق. ويمكن أن تدرك على أنها العقل أو الذات والموضوع، ووحدة ما هوتصوري وما هوواقعي وما هومتناه وماهو لا متناه، النفى والجم، وعلى أنها الإمكان الذي يجد في داخله تحققه الفعلى. والصورة المطلقة هى الديالكتيك

identisch, identiqe الذي يفعل دائماً ويفاضل ويميز الهوي

من المختلف والذاتي من الموضوعي، والنفسي من الجسمي، والمتناهي من اللامتناهي.

الصورة الكلية ينبوع دائم للحياة وروح سرمدي، وإذا بدت الصورة الكلية مناقضة للذهن فما ذلك إلا لأنها

٠ عملية ٠ في جوهرها ولا توجد إلا بذلك الديالكتيك الباطن الذي يرد كل لحظات تطور الموجود إلى الذات المطلقة التي تتجاوزها. ويقول هيجل : « إن ثمة صورا مطلقة ثلاثا : ١ - صورة الحياة. ٢ - صورة المعرفة والخير. ٣ -

صورة العلم والحقيقة نفها. فالصورة المطلقة في شكلها المباشر هي الحياة التي فيها النفى تحقق التصور في الكاثن العضوي، وفي فكرة المعرفة يبحث عن التصور الذي ينبغي أن يكون مطابقا لموضوعه، وفي صورة الخير يأتي التصور أولا، وينبغي أن يحقق بوصفه غاية للفعل. والتصور الأعلى هو الفكرة المطلقة، هوحدة الحياة والشعور، هو الكلي الذي يفكر فيذاته، وفي تفكيره في ذاته يتحقق بنفسه فعلا.

فلسفة الطبيعة

الطبيعة عند هيجل هي الصورة Idee على شكل غيرية بمعنى انها الفكرة عندما تخرج عن ذاتها وتتخارج من أجل أن تصل إلى إنتاج الحياة الواعية، ومن ثم إلى أن تدخل في نفها وتستبطن في فكرة الإنسان. ولهذا فإن صيرورة الطبيعة في صعود نحو الروح. والفكرة تتفق في الطبيعة على الأقل من طريق القوانين التي تحكم هذه الطبيعة، ولكنها لا تتحقق فيها أبداً، اي الفكرة إلا على نحو غير مكافىء. وعجز الطبيعة هذا عن البقاء أمينة للتصور يفرض حدودا على الفكرة فلا نستطيع أن نستنبط كل شيء، أي أن تستنبط كل الظواهر الطبيعية من العقل أو الفكر، لأنه يصطدم بالوقائع العرضية، بالإمكان الخالص ؛ وحيث يوجد الإمكان والعرض لا يكون ثم قانون، وبالتالي لا يكون ثم عقل. والعقل إنما تدل عليه القوانين في الطبيعة. وينبغي أن ننظر إلى الطبيعة عل أنها تؤلف نظاما متدرجاً تخرج فيه الدرجات بعضها من بعض، ولكن ديالكتيك التصور الذي يوجه هذا التطور يظل في داخل الفكرة التي تظل في أساس الطبيعة.

ويحاول هيجل أن يستخلص ديالكتيك الفكرة المحايثة immanent في الطبيعة بأن يستبدل بمقولات العقل الاضافات العقلية للفكر النظري. وهو من أجل هذا يميز ثلاثة مستويات للوجود تتحدد في اتجاه العينية وزيادة الفردية : -

اولا : عالم الآليات ثانياً : العالم الفزياني الكيماوي ثالثا : العالم العضوي.

فعام الآليات هو عالم المادة الجامدة، والحركة، وفيه العناصر وهي خارجة بعضها عن بعض، لا تفعل إلا

٥٨٨

هيجل

بالجذب والطرد. والصورة المجردة للتقارب هي المكان، والمكان وجود محسوس لا يدرك بالحواس أو على حد تعبيره « حس لا محسوس ». والصورة المجردة هي الزمان.

والزمان عند هيجل هو غير الموجود بوصفه موجوداً، وهو الموجود بوصفه غير موجود، أي الزمان بوصفه موجوداً هو غير موجود، أو بوصفه غير موجود هو موجود، أي أن الزمان هو السلب في ذاته، هو الميلاد والاختفاء. هو -Khro nos الذي يلد كل شيء ويقتل كلما يلد، لأن الزمان كما يرى أرسطو وأوغسطين لا يمكن إمساكه، فالماضي مضى وزال، والمستقبل ليس بعد، والحاضر لا يمكن الإمساك به، والزمان يقضي على كل لحظاته فإذا كان مؤلفاً من لحظات فهو يقضي على نفسه بنفسه، ومن هنا فإن الميثولوجيا اليونانية تمثل (ا خرونوس» بأنه يأكل أبناءه ٠

اما الجاذبية فهي ميل المادة إلى الاستبطان، إنها النزوع إلى الذاتية، وحركة الأجرام السماوية تبين بكل وضوح رياضيات الطبيعة التي هي المظهر الأوسط للعقلية ,

وا لفزياء عند هيجل موضوعها كل المظاهر الكيفية للعالم المادي كالضوء والصوت والحرارة والكهرباء حيث يتخذ كل شيء شكل الفردية في الأجسام. وفي عالم الفزياء تسود لحظتا التعارض والتصالح التي ٢ا يظهر الديالكتيك الطبيعي ٠ والشكل لأبرز للفزياء هو الاستقطاب. والحد الأخير للعمليات ا لفزيائية هو الكيماوية، والكيماوية هي التى تمهد لمجى ء الحياة. فالفكرة التى كانت مغلولة في الآلة تتحرر شيئاً فشيئاً في العمليات الفزيائية الكيميائية، وتتحرر أكثر فأكثر في العالم العضوي الذي فيه يتعين التصور شيئاً فشيئا في مروره في مراحل المملكة المعدنية والنباتية والحيوانية. والكائن العضوي يجد في العمليات الكيميائية شروط وجوده، ولكنه ينبغي عليه أن يقاومها باستمرار لكي يتيسر له أن يعيش. فالشيء لا يكون حيا إلا من حيث يتضمن في داخله التضاد والتناقض، والشيء الحي هو الذي يملك القدرة على أن يفهم التناقض، وأن يحتمله في داخله والصراع المستمر مع القوى الخارجية المعادية ,) هذا الصراع الذي ينبغي عل الكائن الحي أن يقوم به وينتصر فيه، هو الذي يشيع في الحياة الشعور بعدم الاطمئنان وبالقلق. ومن هنا يسود لقلق كل ما هو حي، نتيجة طبيعية لضرورة الكفاح المستمر الذي يقوم به الكائن العضوي ضد القوى الخارجية المعادية، ولكن ليست قوة هذه القوى الخارجية،

تلك الكلية المحردة، هي التي تسلم الحي للموت، بل السبب الرئيسي في الموت عدم التوافق بين وجوده الفردي وبين الكلية العينية التي يعلنها تصور الموت الذي ينتسب إليه الحي فعدم التوافق هذا هو العلة الأساسية والجرثومة الفطرية في الكائن التي تجعل الموت نتيجة ضرورية.

ولو نظرنا في مذهبه في الطبيعة لوجدنا النقاد يجمعون على أن فلسفته في الطبيعة هي أضعف ما في فلسفة هيجل. وهذا أمر طبيعي بالنسبة لمذهب يرى أن الفكرة هي الكل في الكل، ويفسر كل شيء استنباطا، صحيح إنه قام بدراسات علمية جيدة، ولم يكن يحتقر التجربة بالمعنى العلمي ؛ ولكنه لم يكن يعنيه من التجربة إلا جوانبها الكيفية لا الكمية. وهيجل في رسالة الدكتوراه عن (( أفلاك الكوكب»(سنة ١٨٠١) بين أنه لا يوجد بين المشتري والمريخ كواكب أخرى، ولكن جاء التفنيذ في نفس العام باكتشاف الكوكب ( سيريس ) فكان لهذا الاكتشاف الدامغ ولاستدالاته أثر بالغ فيه، فحاول أن يخفف من هجومه على نيوتن في طبعاته التالية من « موسوعة العلوم الفلسقية ».

ونظراً لهذا التخلف بين الاستنباط الفلسفي والاكتشاف العلمي فقد كان ينصح طلابه بان لا يأخذوا من الموضوعات العلمية الخالصة موضوعات لرسائلهم حتى لا يحدث لهم مثل ما حدث له - ولكن موقفه من الطبيعة هوأن الطبيعة لاقيمة لها إلا بالقدر الذي يجعل من الممكن مجيء الشعور والفكر ٠ فهو لم يكن مثل كنت Kant يعجب بالسماء ونجومها اللامتناهية، بل كان يرى أن النجوم ليست إلا طفحا من البثور المضينة في السماء، وعلى الرغم من ان الأرض ليست إلا كوكبا صغيرا جدا ملحقا بالشمس فإنها في نظره هي المركز الميتافيزيقي للعالم، لأنها موطن الإنسان، والإنسان حامل الروح، فهو يرى المركزية، من الناحية الروحية والعقلية، على أساس أن الأرض وحدها هي التي فيها الانسان ٠ وعند هيجل أن أتفه ثمار الفكر ذات قيمة أكبر بآلاف المرات منأكبر سير منتظم للافلاك أو البراءة اللاشعورية للنبات، أي أن هيجل يضع الفكر فوق أي شيء في الوجود ٠

ومذهب هيجل يتسم بالواحدية، أي وحدة الوجود، وهو لهذا مجد الواحدية أو وحدة الوجود في مواضع عديدة من كتبه وبخاصة في رسالته عن براهين وجود الله، فمجد

هيجل

٥٨٩

الواحد، ومجد النظرة الشرقية لأنها مجدت الواحد وردت إليه كل شيء

فلسفة الروح ( أو العقل )

فلسفة الروح هي التاج الذي يتوج مذهب هيجل، كما هو طيعي، لأن الفكرة تبلغ اوج نموها في الروح، وفي الروح تتعين الفكرة إلى أقصى درجة وتصل حقا إلى واقعها وواقعيتها العقلية، فالفكرة المنطقية والطييعة هما شرطان لتحقق الروح. وقد أخذ هيجل في استخلاص المعنى الأعمق والدلالة الأعم لكل مظاهر الفكر، فأنشأ لذلك فلسفة في الحضارة الإنسانية، ووضع الأسس الفلسفية للعلوم الإنسانية، ولم يقتصر على دراسة تفسير الحياة الباطنة أي الروح الذاتية، بل سعى إلى دراسة الروح في ضروب نتاجها الخارجي، أي في اعمال الجماعات الانسانية من تاريخ وقانون وأخلاق معتادة ( آيين )، وهو ما يكون الروح الموضوعية ؛ ثم في ألوان تحققها العليا التي تشعر الروح فيها بأنها ي مكانها الطبيعي مثل الفن والدين والفلسفة، وهو ما يدخل في نطاق الروح المطلقة، فعلينا إذن أن ندرس هذه الأنواع اي الروح الذاتية والروح الموضوعية والروح المطلقة.

أولا : الروح الذاتية : تتجلى في مختلف المستويات التي هي بمشابة لحظات ضرورية للتطور الديالكتيكي لتصور الروح، وتبعا لهذا يميز هيجل بين النفس وهي موضوع الأنثروبولوجيا، وبين الشعور أو الوعي وهو موضوع الفينومينولوجيا، والروح وهي موضوع علم النفس بالمعنى الدقيق.

أما النفس فهي الروح بوصفها تقوم على أحوال طبيعية فسيولوجية من عنصر أو جنس ومزاج... الخ

واحياناً تتوقف على ظروف وأحوال فزيائية خالصة مثل المناخ - وهيجل يعارض النظرة التجريبية التي تجعل من الحياة الواعية مجموعة من الامتثاات ليس بينها من رابطة غير رابطة خارجية تقوم على أساس ما يسمى باسم قوانين ترابط الأفكار، أو بعبارة اخرى القوانين المزعومة بترابط الأفكار المزعومة. والواقع ان الوعي النفسي كلية عينية مؤلفة من تعينات، يشغل كل جزء منها مكانة، على ارتباط بباقي الأجزاء - ويرى هيجل أنكل ما يرى في الروح أو العقل منشؤه في الإحساس وفي الأحوال الانفعالية الأولية، ويرفض الإهابة بالقلب والعاطفة كمعايير للخير الأخلافي والحقيقة

الدينية، ويقول ه إن الفكر هو الذي يميز الانسان من الدابة، ولا يثترك الإنسان مع الدابة إلا في الإحساس والانفعال الأولى»،

وتتصل هذا مشكلة الحرية. ذلك أن الطابع الجوهري للروح هو هويتها مع نفسها ومثاليتها هي أيضا ما يكون حريتها من الناحية العملية، فشعور الروح بوحدتها هوينبوع حريتها، والحرية هي ماهية الحد، والتقابلات التي لا يمكن قهرها - ومن أجل هذا فإن تقدم الروح في طريق الوحدة هو أيضا تقدم في الطريت إلى الحرية، والحرية بالنبة إلى الروح المتناهية المحدودة ليست إذن أن تتجرد عن الباقي، أي في أن تعزل نفها، بل حريتها في أن تكون على وعي بالمتقابلات من أجل التغلب عليها. إنها هذا الانتصار على المتقابلات الذي يرفع الروح إلى وحدة أعلى، وبالتالي يرفعها إلى حرية أكمل، ولهذا فإن الوحدة شأنها شأن الحرية ليست امتلاكا، بل مثلا اعلى. إن الحرية غزو متواصل. وتطور الروح هو أيضاً تحررها، وحيام الروح، امتداد وامتلاك ؛ هي أن تضع في ذاتها الغير دون أن تفقد نفها فيه. إنها تحقيق لذاتها في الغير بأن تجعل الغير ملكا لها، فالغير اداة لها من أجل أن تكون حياة أكمل، إن الروح بالغير تتعرف نفسها. ومن هنا فإن هذا الامتداد هو في الوقت نفسه رفع للذات نفسها على الرغم من أنه يجري في الغير، ذلك أن الروح لا تكشف إا عن ذاتها في كل هذا الغير. ويشبه هيجل كثف الروح بكشف اسه في المسيح الذي هو إنسان، لكن بالوحي الإلهي صار أيضاً إلهاً في نظر هيجل.

والحد النهائي لهذا الكشف من الروح عن ذاتها بواسطة الغيرهو وحدة الروح، وصدقها هو المطلق ٠ فالاعتراف بأن المطلق هو الروح، تلك هي الغاية التي يهدف إليها العلم كله بل وكل التاريخ. ومن هنا فإن كل درجات الروح المتناهية ليست إلا مجرد تعبيرات غير مكافئة، هي مجرد عمليات تقوم بها الروح من أجل توليد الروح المطلق، هي مجرد حدود تضعها الروح لتقضي عليها من بعد، ابتغاء أن تصل إلى كمال شعورها بذاتها. والغاية التي تستهدفها الروح أن تجعل مظهرها هو بعينه ماهيتها، وأن ترفع وعيها بذاتها إلى مرتبة الحق. ومن هنا فإن هذه الدرجات المتناهية ليست درجات حقيقية بالمعنى الصحيح، بل لا حقيقة لها في ذاتها. ومن هنا يقول هيجل إن المتناهي ليس شيئا، إنه ليس الحق بل مجرد عبور وتجاوز لذاته، والروح إبطال للمتناهي، والمتناهي مجرد

هيجل

رؤية ناقصة للامتناهي. وأمور هذا العالم تبدو لنا متناهية لأننا نحن المتناهين نضعها كذلك، فمعرفة الروح بذاتها في الواقع أمر غير صحيح ومتناقض، والعقل ليس نتيجة ولا حداً نبلغه في النهاية، بل هو الحقيقة الأصلية التي لا تتحدد وتتأكد إلا بالقضاء على الحدود. وهذه الروح اللامتناهية ينبغي إذن أن تكون لها حقيقة في ذاتها إيجابية مقابلة للمتناهي ■ والروح كا يقرل هيجل تتحرر تحرراً مطلقاً من لحد ومن الغير في نهاية الأمر كب تصل إلى الوجود المطلق بذاته وتصبح بهذا لا متناهية حقا.

وواضح ما في هذه العبارات من وحدة وجود صوفية، وقد أشرنا من قبل إلى أن هيجل مجد النظرة الشرقية في العالم، لأنها تنطوي على فكرة وحدة الوجود، التي ترى كل شيء في الواحد ؛ وهذا الواحد يتخذ مظاهره اللامتناهية في روعة هذا العالم الطبيعي والروحي.

علم النفس الهيجلي

إن تطور الروح يتضمن ثلاث مراحل :

في المرحلة الأولى تخرج الروح بكد à peine من الطبيعة التي تقابلها وتحددها، وفعلها هو أن تغزو- عن طريق الصراع ضد هذا التقابل - الشعور بفرديتها العقلية الحرة وهذا ما يسمى باسم الروح الذاتية.

وفي المرحلة الثانية تبث الروح النشاط العقلي في العالم الطبيعي الانسافي، وذلك بأن تبدا فتطبعه بطابع سيادة العقلية الشخصية في الإنسان، وتنتهي بتكوين الوحدات الجماعية الكبرى للارادات العاقلة (الأسرة- المجتمع-الدولة ) وهذا ما يكون الروح الموضوعية.

وفي هاتين المرحلتين لا تزال الروح تضع الطبيعة في مقابل ذاتها وإن كانت تنقلها في ذاتها وتصورها بصورة مثالية، ومن هنا لا تزال تضع الطبيعة حدا كاملا للروح، ويسبب هذا الحد لا تزال روحها عحدودة ٠

وفي المرحلة الثالثة تتعرف الروح وحدة وجودها الباطن، والحقيقة الروحية الموضوعية، وتصل بذلك إلى حقيقتها الكاملة في الفن والدين والفلسفة، وهذا ما يكون الروح لمطلقة.

فالقسم الأول الذي يؤلف المرحلة الأولى يكون علم

النفس الهيجلي • لكن ينبغي الا نفهم علم النفس هنا بالمعفى المفهوم، الآن، ولا بالمعنى الذي كان جاريا منذ خمسين عاما، بل علم النفس بالمعفى الهيجلي هوالنشوء لميتافيزيقي للروح الانسانية منظورا إليه من الناحية النفسية. ولكننا لا نستطيع التوسع في هذا القسم من فلسفة هيجل نظراً لما فيه من غموض وافتعال في كثير من المواقف • وعلى كل حال فعلم النفس موضوعه دراسة التطور الديالكتيكي المحايث في النشاط العقلي، وينبغي ان تكشف الروح عن حريتها بأن تصل إلى أن تكون عقلية ينشاطها الذاتي الذي فرض عليها على أنه معطى مباشر، فالروح النظرية تتبدى عل أنها معرفة عياتية غامضة متصلة بالعاطفة. والوسط بين العيان وبين الفكر التصوري المنطقي هو الإمتثال الذي يظهر على هيئة الذاكرة والخيال، والذاكرة اللفظية وهذه الصورة للذاكرة هي الأهم لأنها أداة الفكر وهي التي تيسر قيام جميع العمليات العقلية العليا. ومن هنا نجد هيجل يلح في توكيد اهمية اللغة، ذلك أن اللغةهي التي مكن الفكر الفردي من لاتصال مباشرة بالكلي، فأشكال الفكر تتخارج وتختزل في لغة الانسان، وما ينبغي أن يعبر عنه باللغة يتضمن - عل نحو متفاوت في الغموض والوضوح - يتضمن مقولة ما - ومن هنا نجد هيجل كثيرا ما يلجأ إلى الإشتقاق من أجل تبرير ديالكتيكه. وقد رأينا مثالا لذلك فيما يتصل بكلمة Urteil، وهذه الطريقة في الاستعانة بالاشتقاق اللغوي من أجل بيان الأفكار سنراها إلى حد مبالغ فيه عند هيدجر، كا سنجدها على نحو مخفف لدى شلنج ويظهر أنها عادة ألمانية ا.

وهذه الروح الذاتية تمر بثلاث مراحل في تطورها من أجل التكوين الواعي. وهذه المراحل الثلاث هي :

أ- النفس ب- لوعي ج - الروح

فالمرحلة الأولى هي التي فيها لا تزال الحياة مجرد روحانية غامضة منتشرة وكا أشرنا من قبل يسمى هيجل القسم الذي يدرس هذه المرحلة باسم علم الانسان.

والمرحلة الثانية هي التي فيها تتحقق الحياة الروحية في التعارض بين الأنا واللا أنا، ولا يزال فيها الأنا ذاتا فارغة تتلقى محتواها من العالم، والعلم الذي يبحث في هذه المرحلة هو«علم فينو مينولوجيا الروح I) ( أو العقل ).

والمرحلة الثالثة هي التي فيها ارتفعت الحياة الروحية إلى مرحلة العقلية، وعن طريق العقا والإرادة حصلت لنفسها

هيجل

على الحرية ؛ وهذه المرحلة الثالثة هي التي يتولى دراستها علم النفس بالمعنى المشار إليه من قبل

فما يسميه هيجل بالنفس ليس هو الذات أو الأنا، إنها مجرد المثالية الأولى البسيطة التي تضطرب في حضن الطبيعة على انها حقيقتها. ولهذا فإن هيجل يسمي النفس بأنها 1( نعاس الروح »، لأن النفس مرحلة أولية غامضة للروح وبالتالي كأن الروح فيها في حالة نعاس ونوم. وهذه النفس ينبغي ألا ينظر إليها على أنها نفس العالم،بلهيمن نوع الجوهر الغامض الروحي الكلي الذي هو الأساس في كل تفرد وتجزىء للروح فيما بعد، ونحن في حياتنا النفسية لا نزال نشعر بتأثير هذه الروحانية الغامضة، وذلك عن طريق ما ينتابنا من أمزجة تتغير بتغيرالأجواءوالسن والأماكن والأحوال العضوية. فأحوالنا المزاجية المتغيرة تحت تأثير الأحوال الطبيعية الخارجية إنما تتغير بتأثير هذه النفس الغامضة العامة المنتشرة

والنوم هو العود الدوري لوجودنا إلى حضن هذه الروحية الطبيعية المنتشرة ؛ ولعله متأثر بالعود الدوري لليل والنهار. ويتسائل : هل هذه النفس لا مادية ؟ وبهذه المناسبة يتناول مسألة لا مادية النفس، ويحل المسألة بالمعنى والاتجاه المثالين فما دامت المثالية ترى أن الهيولى ليست حقيقية بينما الروح هي وحدها الحقيقية، فلا محل للقول بمادية النفس نظرا إلى أن المادة ليست حقيقية بينماً النفس لها حقيقة. وفي داخل هذم الروحية الغامضة المنتشرة تتطور شيئاً فشيئاً الذاتية أولا على هيثة مركز غامض للفردية التي تبداً، فتضع محتواها في مقابلها ولكن لا يوجد بعد ذات تميز نفسها من العالم المادي الخارجي، بل لا تزال الذات هي ما يحس ٠ والنفس في هذه الحالة هي بمثابة مركز لكل إحساس. وهكذا نرى أن النفس بمثابة الشخصية الدنيا الهيولانية التي لابد أن تخضع فيما بعد للذات العاقلة العليا التي تمنحها الصورة الحقيقية.

الأخلاق عند هيجل

لا تشغل الأخلاق بالمعنى المحدود غير مكان ضئيل في فلسفة هيجل، وترتبط بنظراته في القانون والسياسة وبفلسفته الدينية. ذلك أن هيجل يرى أن الغاية من الفلسفة ليست تحديد مثل أعلى للكمال من غير الممكن الوصول إليه بل فهم الواقع لإعادة بنائه ديالكتيكيا، وتعرف الطابع العقلي منه، ومن هنا فإن الأخلاق مهمتها أن تشاهد لا أن تحكم

والأخلاق عند هيجل يسودها تقابل أساسي هو التقابل بين الأخلاق الذاتية، والأخلاق الموضوعية. فالأولى هي الأخلاق بالمعنى الكنتي أي التي تتحدد بمعيار شكلي صوري، وذلك بالصدق الكلي لمبدأ الفعل. ولكن هيجل يرى أن هذا الميدا مبدأ مجرد، وبالتالي لا يؤدي إلا إلى شكلية جوفاء، ولا يستطيع المرء عن طريق هذه القاعدة الشكلية أن يحدد في الواقع ما هي الواجبات وما هي الحقوق، إنما الأخلاق الحقيقية هي الأخلاق الموضوعية، وهي التي يكتسبها الانسان في المجتمعات التي تقوم على تربية الأسرة والمجتمع المدني وخصوصاً الدولة.

وهنا نجد هيجل يمجد الدولة لأنه يرى أن الدولة هي الكائن الاجتماعي الأكبر، ويرى أن الإنسان لا يصل إلى الحرية الحقيقية إلا عن طريق الدولة، وذلك حينما يعيش الانسان القانون بدلا من ان يخضع له خضوعاً سلبياً، فإنه بهذا لا يصبح قهراً بل شكلا من اشكال التحرير، بان يجعل الانسان يضبط نفسه وفرديته العينية ووجداناته العمياء ومنفعته الأنانية , وفي هذا يقترب هيجل من فكرة ة الأوتونومى » Autonomie أي الاستقلال الذاقي عند كنت، ولكنه يضع معياراً لهذه لمشاركة في الروح الجماعية أي روح المجتمع مثلة في الدولة، لكن مثل هذا الوضع لا يتحقق إلا إذا كانت الدولة جيدة، وأخلاق الناس متينة. وهيجل يرى ان تقدما من هذا النوع ممكن عن طريق فعل الصفوة المختارة من أبناء هذه الدولة، غير أن عمل هؤلاء الصفوة لن ينجح إلا إذا كانت أفكارهم ومشاعرهم ومصالحهم مطابقة للعقل خيراً. من الأنظمة الموجودة، وبالتالي تكون أصدق من هذه المؤسسات الموجودة وأقرب إلى لكلي. والذي يخلق ها هنا قيما جديدة لا يؤثر في المستوى الأخلاقي بالمعنى الحقيقي، وإنما في المستوى التاريخي - ومن هنا ينبغي التحدث عن فلسفة التاريخ عند هيجل.

فلسفة التاريخ

فلسفة التاريخ هي اكثر أجزاء فلسفة هيجل شوعاً ببن الناس. وعند هيجل أن التاريخ الكلي ليس هو التاريخ الساذج الذي يقدمه من رووا الأحداث، ولا التاريخ النظري الذي يريد تفسير الوقائع واستخراج العبر والدروس العملية من الماضي، بل التاريخ الكلي الحقيقي هو التاريخ الفلسفي الذي يهيمن على الوقاثع وينظر إليها من وجهة نظر غير مقيدة بزمان، ذلك لأن العقل جوهر لتاريخ. والعقل يحكم العالم

هيجل

ولهذا يرى هيجل ان كل حدث من احداث التاريخ إنما جرى وفقاً لمقتضيات العقل ا، ومن هنا فالتاريخ تطور ونمو لمنطت باطن لم تكن الشخصيات التاريخية غير أدوات لتحقيقه دون شعورها بذلك، إنهم يخضعون لأهوائهم ويرمون الى تحقيق مصالحهم، ولكن الذي يحدث في نفس الوقت هوأن غاية ما بعيدة المدى قد تحققت لم يكونوا على شعور بها ولم تكن قصدا من مقاصدهم، وهذا هو ما يسميه هيجل , خبث العقل الكلي المسيطر على لتاريخ« فمن خبثه أنه يستعين بهذه الشخصيات في سبيل تحقيق أهدافه وخططه ومقاصده، دون أن يكون هؤلاء على علم بذلك، وإثما الذي مجعل هؤلاء أقوياء هو أن اهدافهم الجزئية الخاصة تحتوي عل المحتوى الجوهري الذي هو إرادة الروح الكلية. وهذا المحتوى قائم في الغريزة الكلية غير المشعور بها لدى الناس، وهم مدفوعون لذلك بقوة باطنة , وفي بعض العصور نجد أن تركيب روح الشعب يتحطم لأنه عفي عليم وخلي من جوهره، ولكن التاربخ رغم من ذلك بستمر في سيرم قدماً لا يتأثر بانهيار حضارة أو انحلال دولة، ولكن في المراحل الكبرى تحدث الاصطدامات العظمى بين الأنظمة القاتمة حتى الآن وبين الإمكانيات المضادة لهذه الأنظمة ما يؤدي إلى زعزعة الأنظمة القاثمة، ولكن هذه الاصطدامات نفسها تتضمن امراً بعيدا بل وضروريا، وحينثذ تصبح هذه الإمكانيات ذاتها ضرورية وتتضمن اساساً مختلفا عن ذلك الأساس الذي كان حتى الآن اساسا للتنظيم الشعبي، وهذ الكلي يتولي عليم عظاء التاريخ ويجعلون منم فصداً من مقاصدهم، وهم حين يحققون أطماعهم يحققون في الوقت نفم الغاية التي تتفق مع التصور الأعلى للروح. وعلى هذا النحو يتبدى منطق التاريخ، فظروف التقدم التي حققتها الإنسانية عن طريق المتناقضات والاصطدامات والحروب والثورات تؤدي إلى وضع للأمور اصدق وافضل ؛ اما فترات الهناء والرخاء والخلر من التناقض والسلام فهي ليست عصورا تاريخية *

وقد توسع هيجل في هذه النظرية وفصلها في معاضراته في فلسفة التاريخ، والفكرة الموجهة في هذه المحاضرات هي أن اكاريخ الكلي هو تقدم لشعور بالحرية، وهذا التقدم نجد دلائله أولا في الانتقال من الطغيان الشرقي القديم الذي كان فيه فرد واحد هو الحر والباقي عبيد ( في مصر القديمة وفارس وبابل ) نقول الانتقال إلى الجمهوريات والأرستقراطيات

الجديدة في اليونان وروما حيث كان بعض الأفراد هم لأحرار •

ويقول هيجل إن الأمم الجرمانية هي وحدها التي ارتفعت لأول مرة إلى الشعور والوعي لهذه الحقيقة، اا وهي ان الإنسان حر بما هو إنسان، وان حرية الروح هي الطبيعة الخاصة الجوهرية بكل إنسان بما هو إنسان، ولكن النظم السياسية لم تخضع لهذا المبدا في اول الأمر وطوال العصور الوسطى الاولى. إنما يدأت الفترات الحاسمة من أجل إيجاد هذا الوعي يالحرية لأول مرة بعد ذلك في عصر الإصلاح الديني، وهذا يعد بمثابة الثورة الجرمانية في مقابل الثورة الفرنسية.

وجاءت هذه فيما بعد، هنالك أصبح الإنسان يتخذ راسه اساسا اي اتخذ الفكر والعقل الاساسي، وحاول أن يصوغ الواقع عل صورة العقل، لقد كان ذلك مشرناً رانعا للثمس، هنالك ساد انفعال نبيل، وشاعت حاسة عقلية عزت الدنيا باسرما، وكان الإنسان لم يبلغ إلا آنذاك مرتبة التوفيق الفعلي بينماهو إلهي وماهودنيوي ■

وفد عني هيجل بالمسائل السياسية لانه عاش في عصر تاريخي المعفى الكامل، عصر الثورات والامبراطوريات وعصر حقوق الإنسان. وهو بطبعه كان حريصا على متابعة الأحداث حتى كان يقول إن تراءة الصحف نوع من الأوراد ترتل في كل صباح عمليا.

وكا أشرنا من قبل كتب هيجل رسائل سياسية ومقالات عديدة، وكتب خصوصا بحثاً عن دستور المانيا سنة ١٨٠٢ وإن لم ينشر إلا سنة ١٨٩٣، فضلا عن أنه قام برئاسة تحرير صحيفة يومية هي , جريدة بامبرج ٠ مدة عام ونصف , ورسائله ومقالاته تدل عل أنه كان كثير العناية بالمشاكل السياسية الوقتية العصرية، فضلا عن أنه كان يدعوإلى عدم الفصل بين النظري والعملي لانه تبعاً لفلسفته يرى ان لارادة ضرب من الفكر، فالارادة هي الفكر معبرا عنه في الواتع، أما أولثك الذين يتظرون إلى الفكر علىأنه ملكة جزئية منفصلة عن الارادة، فيذهبون إلى حد الزعم بأن الفكر يؤدي الارادة وخصوصاً الخيرة، أوكك يدلون بهذا على انهم لا يعرفون شيناً مطلقاً عن طبيعة الارادة ٠ غير ان كتابه عن دستور ألمانيا لم يكن إلا بحثاً من ابحاث الشباب لا يزال يحمل طابع فلسفة شلج والرومتك. وإنما وضع هيجل نظراته

الرتيسية في السياسة في كتاب عمتاز يعد اخر كتبه العظمى وهو , مبادىء فلسفة القانون ٠ الذي نشر سنة ١٨٢١، وقد لخص الأفكار الرنيسية في هذا الكتاب في B دائرة معارف العلوم الفلسفية (ص ٤٨٢- ٥٥٢) وفي عرضه للسياسة في الكتابين ربط ربطاً وثيقاً بين السياسة والاخلاق وعلم نفس الارادة وفلسفة التاريخ. وفي مقدمة ٠ فلسفة القانون » يصرح بكل وضوح بأنه لا يرمي إلى بناء دولة مثلى، لأن مهمة الفلسفة هي أن تفهم ما هو قائم لأن ما هو قاثم هو العقل، والتفسير العقلي الذي يقدمه في هذا الكتاب هو بمثابة توفيق مع الحقيقة الواقعية قال ا ليست مهمة الفلسفة ان تعلم ما ينبغي أن يكون، وحتى لو حاولت ذلك فإنها تأتي في ذلك متأخرة لأنها لا تأتي إلا بعد أن يكون الواقع قد اتم عملية تكوين نفسه، وحينما ترسم الفلسفة بلون رمادي على رمادي فان صورة الحياة تكون قد شاخت من قبل. وهذا اللون الرمادي لا يمكن أن يستعاد شبابه بل يمكن فقط أن نتعرفه ٠. ا إن بومة مينرفا، لا تأخذ في الطيران إلا عندما يرخي الليل سدوله «.

وهذه العبارة الأخيرة من العبارات المشهورة والشعرية الرائعة، ويرمز هيجل ببومة منيرفا إلى الحكمة والفلسفة، أي أن الفلسفة لا تأخذ في عملها إلا بعد أن يكون قد تم حدوث الحدث الذي تريد الفلسفة أن تفلسفه

يرى هيجل أن القانون من ميدان الروح. ونقطة الابتداء هي الإرادة الحرة، وهي حرة بوصفها عدم تعين، يتعين بذاته، وبوصفه الأنا الذي يضع لنفسه محتوى مع بقائه في هوية مع ذاته ومع الكلية، أما إذ لم تكن الإرادة غير الإرادة الطبيعية، فانها لا تفعل اكثر من انها تطيع الرغبات والميول ويكون ميدانها حينئذ ميدان الأهواء، ولا تكون حرة إلا في ذاتها ولكنها تكون حرة لذاتها حينما تتخذ مضمون الكلى لا الجزني، اي حينا تصبح الإرادة فكراً.

وفي القانون تبلغ الإرادة الحرة الوجود ألمباشر. والفرد بوصفه ذا حقوق ويمارس حقوقاً يسمى الشخص Person ولذلك فان الآمر المطلق في القانون هو : كن شخصا واحترم الآخرين بوصفهم اشخاصاً.

وأول تحقق للروح الاجتماعية هوفي الأسرة ٠ ودورها الأساسي هو تربية الأبناء، وهذه أول مظهر من مظاهر الأخلاق ٠

وثاني تحقق هو المجتمع المدفي، وفيه يتجمع الناسري وفقاً لمصالحهم. وهذه التجمعات تدخل في علاقات واحياناً في تصادم.

وهكذا ينشاً في الحياة الاجتماعية نظام خارجي ناجم عن الاتفاق بين الحاجات وعن تحددها المتبادل ما يجعل هذه الحاجات يحدد بعضها بعضاً، وفقا لإمكان إشباعها وتوفيرها •

والتحقق الثالث هو الدولة، وهذه هي التحقق الاجتماعي الأعلى. وهيجل يميز الدولة من المجتمع المدني. فعنده ان المجتمع المدني عالم فردي نفعي فيه تسود الذرية الاجتماعية، أي أنه يتألف من أفراد على هيئة ذرات في هذا المجتمع

والدولة في نظر هيجل ليس غرضها أن تكفل لأعضائها الرخاء المادي والحرية المجردة، بل أن تجعلهم يقومون بتأدية وظيفتهم الرئيسية الحقيقية وهي أن يعيشوا في الكلي، وبالتالي أن يرتفعوا يذلك إلى الحرية العينية.

وفي الدولة يصل الإنسان إلى الأخلاقية العليا والأكثر عينية، فالدولة تربي الفرد وتخضعه لنظام جماعي يحرره من اعراض طبيعته الحيوانية وانظاره العقيمة، فالدولة لا تقلل من الفرد، بل تسمح له بأن يكمل شخصيته، وذلك بإدماجه في نظام اخلاقي أعلى من شأنه أن يتقدم في اتجاه ما هر كل.

وقد اختلف في تفسير نظريات هيجل السياسية : فنجد أولا ان جانص Gans الذي نشر ٠ فلسفة القانون ٠ مضيفاً إليها مذكرات مأخوذة من المحاضرات يقول : ه إن هيجل لم يتنكر للمبادىء العظمى لثورة الفرنية التي أشاعت الحماسة في نفسه ايام الشباب بل ظل داثياً يطالب للفرد في الدولة بالحقوق الأساسية للشخصية الانسانية ٠.

و لكننا نجد شراحاً آخرين يفسرون نظريات هيجل السياسية في اتجاه مضاد، فينعتونه بأنه ذو ميول محافظة لأن هيجل يرى أن الدولة هي تجسد للفردية الجوهرية، ولما هو إلهي على سطح الأرض؛ وينبغي على الفرد أن يعترف بأنه عدم بازاء الدولة، ولهذا يشيرون إلى ان هيجل كان فيلسوف العرش الرجعي، وداعياً إلى الملكية البروسية، وموحياً بالدعوة إلى القوة التي ترى في الحرب وسيلة لا غنى عنها للدولة في نموها.

وهناك موقف وسط يمثله خصوصا فيكتور باش Victor Basch أحد الذين درسوا المذاهب السياسية للفلسفات المثالية لألمانية دراسة عميقة وافية. فباش يرى أن الدولة في نظر هيجل هي في مجموعها توفيق بين فلسفة السلطة والحرية. واتجاه فلسفة هيجل السياسية هو إلى إيجاد وسط بين الملكية لمطلقة والديمقراطية المطلقة، بين الفردية المفرطة وبين السيطرة الكاملة للدولة. والواقع أن السياسة عند هيجل لها وجهان متعارضان فهومن ناحية يريد التوفيق بين ما يقضي به العقل وبين الواقع الخارجي الموجود، ومن هذه الناحية جاء الجانب المحافظ في تفكيره ولكنه من ناحية أخرى كان يرى أن الديالكتيك يقتضي نوعاً من التعارض لمستمر الذي يتطور عليه النظام في الدولة، ولهذا فإنم يبرر قيام التقدم استناداً إلى الوان التعارض التي يمكن أن تكون أسبابا للنزاع سواء بين الطبقات الاجتماعية، وبين الدول، بما يؤدي إلى الثورات في حالة الطبقات الاجتماعية، وإلى الحروب في حالة الدولة , وتبعاً لهذين الوجهين اتجه اتباع هيجل إلى فريقين : فريق اليمين الهيجلي، وهم الذين اتجهوا اتجاه المحافظة. وفريق اليسار هيجلي، وهم الذين اتجهوا اتحاها ثوريا. ومن النصوص الرئيية في هذا الباب ما يلي : - أولا فيما يتصل ينظرية الدولة : ال الدولة هي الجوهر الاجتماعي الذي وصل إلى الشعور بذاته، وهي تجمع في ذاتها بين مبدأ الأسرة، ومبدأ المجتمع المدفي. والوحدة التي توجد في الأسرة على أنها شعور بالمحبة هي جوهرها، لكن الجوهر هاهنا أرتفع خلال المبدأ الثافي، أعني من خلال الارادة الحرة العاقلة، إلى ما هو كلي ويقول في موضع آخر : « الدولة هي تحقيق الفكرة الأخلاقية. والروح الأخلاقية هي الارادة الظاهرة المتميزة الجوهرية التي تعقل ذاتها , والدولة هي تحقق الحرية العينية، والحرية العينية معناها أن الجزئية الشخصية ومصالحها الجزئية لها تطورها الكامل واعترافها بحقها في نظام الأسرة وفي نظام المجتمع المدني.. والقوانين تعبر عن تعينات مفهوم الحرية الموضوعية. والقوانين تبدو أولا بالنسبة إلى الذات المباشرة وبالنسبة إلى إرادتها المستقلة الاعتباطية ومصالحها الجزئية، تبدو وكأنها حواجز وحدود لكنها في المقام الثاني غايات مطلقة. وفي المقام الثالث تؤلف جوهر لارادة الفردية التي تجد في هذه القوانين حريتها، بحيث تصبح هذه القوانين بمثابة عادات أخلاقية اجتماعية لها قيمتها في حقيقة هذه الشخصية ٠ والدولة بوصفها روحاً حية لا يمكن أن تكون إلا بمثابة كل يتفاضل إلى الوان من النشاط الخاصة تصدر عن نفس الفكرة لخاصة بالحقوق، والتشريع هوالتوزيع العضوي لقو؟ الدولة، وهو الذي يتضمن التعينات التي وفقاً لها الإرادة العقلية لا توجد في الأفراد إلاعلى سبيل الإمكان والقوة، لكنها عن طريق التشريع تصل إلى الشعور والوعي بذاتها»■ وهناك نصوص قليلة تمجد الحرب مثل قوله : ٠ في السلام تمتد الحياة المدنية وتستقر كل المجالات، وفي النهاية يضيع الناس في بحران، ذلك أن خصائصهم تتحجر شبئاً فشيئاً وتثبت. لكن الصحة تفتضي وحدة لجسم، فإذا تصلبت الأجزاء حدث الموت. ففي السلام يحدث هذا التحجر الذي يؤذن بموت لمجتمع ا) , ولقد طالما نادى المفكرون بالسلام الدائم بوصفه المثل الأعلى الذي ينبغى على المفكرين أن يصلوا إليه. وكنت قد وضع مشروعاً من هذا النوع ٠ ولكن الفرد والفردية يتضمنان بالضرورة السلب. لكن لو أن عددا من الأسر كون الدولة فإن هذا الاتجاه بوصفه شخصية مركبة فينبغى أن يخلق لنفسه معارضاً وبالتالي أن يولد عدواً له، فالحروب لا مناص منها. والحروب عند هيجل تخرج منها الدول أقوى ما كانت، ثم أن الأمم التي كانت تنقسم على نفسها تستطيع أن تحصل بواسطة الحرب في الخارج على السلام في الداخل. صحيح إن الحرب تؤدي إلى عدم الأمن بالنسبة للممتلكات، لكن عدم الأمن هذا حركة ضرورية، ذلك أن عدم الاستقرار من الوساثل التي تحفز على التطور والتقدم ٠ وهكذا نرى أن هيجل في نظرياته في الدولة قد حاول ان يطبق نظرياته الديالكتيكية، وكان تطبيقه لهذه النظريات هو الذي حدا به أن يرى في الحرب ضرورة لا يمكن التخلص منها وما دام السلب هو أساس التحقق، والحرب سلب، فهي أساس في تحقق التطور. وقد أثر هيجل تأثيراً كبيراً في مفكرين وسياسيين وجهوا مذهبه وجهات تتعارض أشد التعارض، وما ذلك إا لأن مذهبه حافل بالتناقضات، وأنه جمع بين النقيضين كعا يقضي منطق هيجل.