فلسفة ابن رشد

يعد ابن رشد في المقام الأول الشارح الأكبر لأرسطو. ومن المؤكد أنه لم يكن يعرف اليونانية، وأنه في شروحه انما اعتمد على الترجمات العربية لمؤلفات أرسطو وشراحه اليونانيين، وهي ترجمات متفاوتة القيمة بحسب المرجمين.

وتفاسير ابن رشد تدل على قدرة عظيمة على فهم فلسفة أرسطو، فضلاً عن أنه اتخذ منهجاً دقيقاً في عمله هذا:

  1. فكان يرجع الى ترجمات متعددة، ان وجدت، ويقارن بينها.
  2. وكان يرجع الى بعض الشروح على ارسطو، التي نقلت لى العربية، وخصوصاً ما تيسر له من تفاسير الاسكندر الافروديسي.
  3. وقد أثبت عبد الرحمن بدوي في بحث القاه في مؤتمر ابن رشد المنعقد في باريس في أواخر سبتمبر سنة ١٩٧٦ أن ما أخذه لويس فيفس Luis Vives، من أغلاط تاريخية وغيرها في نفسيره لكتب أرسطو، إنما يرجع إلى أخطاء الترجمات اللاتينية لشروح ابن رشد، لا الى ابن رشد نفسه.

لكن اذا كان فضل ابن رشد شارحاً وملخصاً لمؤلفات ارسطو فضلاً عظيما جداً، فإن لمؤلفاته الأصيلة مع ذلك قيمة كبيرة.

فلنأخذ في عرض فلسفته وفقاً لهذه المؤلفات المبتكرة.

مشكلة العقل والنقل

ومن المشاكل الأساسية التي اهتم بها ابن رشد مشكلة العقل والنقل، أو الفلسفة والشريعة، وما بينهما من اتصال. وقد كرس ابن رشد لهذه المسألة كتابين رئيسيين:

  1. «افصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الا تصال»
  2. «الكشف عن مناهج الأدلة - في عقائد الملة».

والكتاب الأول هوالأساسي في موضوعنا ها هنا.

وقد حدد موضوعه ابن رشد فقال ان غرضه في هذا الكتاب أن يفحص «على جهة النظر الشرعي - هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع، أم محظور، أم مأمور به: «إما على لندب واما على جهة الوجوب».

ومن اجل هذا يبدأ بتعريف الفلسفة فيقول انها «ليست شيئاً أكثر من النظر في الموجودات، واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، أعفي من جهة ما هي مصنوعات، فإن الموجودات إنما تدل على الصانع لمعرفة صنعتها».

وواضح ما في هذ التعريف من حد وتضييق شديد لموضوع الفلسفة، وكأن غرضها ليس البحث في الموجودات لعرفة حفائق الأشياء ، وهو بحث ينبغي أن يطلب لذاته كما قال أرسطو في أول مقالة «ألفا» الصغرى في كتاب «ما بعد الطبيعة». بل جعل ابن رشد النظر في الموجودات وسيلة لاعتبار صانعها. وبهذا جعل الفلسفة في خدمة علم التوحيد، وواضح أيضاً أن الذي ألجأه الى ذلك، هو الهدف الذي قصد اليه في هذا الكتاب، وهوتبريردراسة الفلسفة تجاه الطاعنين عليها من رجال الدين. وإا فإنه لم يقل بمثل هذا الرأي عند شرحه لذلك الموضع من مقالة «ألفا» الصغرى.

ويمضي ابن رشد فيقول: «انه كلما كات المعرفة بصنعتها أتم، كانت المعرفة بالصانع أتم» وفي هذا رد على الفقهاء الذين يقولون انه يكفي ما نعرفه من النصوص النقلية.

تبرير النظر العقلي بالشرع

ويؤكد ان الشرع دعا الى اعتبار الموجودات بالعقل ودعانا الى معرفتها بالنظر العقلي، كما هو بين في غير ما آية من كتاب الله، مثل قوله تعالى: «فاعتبروا يا أولي الأبصار» (سورة الحشر: ٢) وقوله تعالى: «أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق لته من شيء» (سورة الأعراف: ١٨٤) وهذا نص بالحث على النظر في جميع الموجودات بواسطة العقل واعتبارها به.

والاعتبار هو استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه . وهذا هو القياس، أو التفكير بالقياس. «فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي»

وأتم أنواع النظر هو المسمى بالبرهان. فالشرع اذن قد حث على معرفة الته تعالى وسائر موجوداته بالبرهان. ولهذا «كان من الأفضل، أو الأمر الضروري، لمن أراد أن يعلم الله - تبارك وتعالى - وسائر الموجودات بالبرهان، ان يتقدم اولاً فيعلم أنواع البراهين وشروطها، وبماذا يخالف القياس البرهاني القياس الجدلي والقياس الخطابي والقياس المغالطي» ولا بد قبل هذا أن يعرف ما هو القياس عامة، وكم أنواعه، وما منه قياس، وما منه ليس بقياس، وهذا بدوره يحتاج إلى معرفة اجزاء القياس اعني المقدمات وانواعها. وإذن عليه بالجملة أن يدرس المنطق.

وكما ان الفقيه مضطر الى معرفة المقاييس الفقهية وأنواعها وشروطها حتى يستطيع استنباط الأحكام، كذلك على من يريد معرفة اللةه أن يعرف القياس العقلي، أي المنطق.

اعتراضات وردود

فإن اعترض معترض وقال: «ان هذا النوع من النظر في القياس العقلي بدعة، اذ لم يكن في الصدر الأول» فإننا نرد عليه ونقول ان النظر في القياس الفقهي وأنواعه هو شيء استنبط بعد الصدر الأول، فهل هو الآخر بدعة؟ ان هؤلاء المعترضين من الفقهاء لا يعدون القياس الفقهي بدعة، واذن فعليهم الا يعتبروا النظر في القياس العقلي بدعة. ذلك أن «أكثر اصحاب هذه الملة مثبتون للقياس العقلي، إلا طائفة من الحشوية قليلة، وهم محجوجون بالنصوص» ويقصد بالحشوية ها هنا اصحاب المذهب الظاهري، وعلى رأسهم ابن حزم، ممن أنكروا القياس.

وان اعترض معترض آخر فقال ان القياس العقلي من وضع قوم غير مسلمين، قلنا ان علينا ان نستعين بمن تقدمنا من الأمم ممن درسوا القياس العقلي «سواء كان ذلك الغير مثاركاً لنا، أوغير مشارك، في الملة فإن الآلة التي تصح بها التذكية (= الذبح الشرعي) ليس يعتبر في صحة ألتذكية بها كوها آلة لمشارك لنا في الملة أو غير مشارك، اذا كانت فيها شروط الصحة. واعني ب "غير مشارك" من نظر في هذه الاشياء من القدماء قبل ملة الاسلام».

وما دام الأمر كذلك، وكان القدماء قد نظروا وفحصوا عن المقاييس العقلية - أي المنطق - أتم فحص، فينبغي ان نرجع الي كتبهم «فننظر فيما قالوه من ذلك: فإن كان كله صواباً، قبلناه منهم، وإن كان فيه ما ليس بصواب، نبهنا عليه».

فمن الواجب علينا اذن أن نستعين بما قاله المتقدمون في شان المقاييس العقلية، كما نفعل ذلك في العلوم الرياضية. «فإنه لو فرضنا صناعة الهندسة في وقتنا هذا معدومة، وكذلك صناعة علم الهيئة، ورام انسان واحد من تلقاء نفسه أن يدرك مقادير الأجرام السماوية واشكالها وأبعاد بعضها عن بعض، لما أمكنه ذلك».

وهذه صناعة اصول الفقه والفقه نفسه لم يكمل النظر فيهما إلا في زمان طويل. «ولو رام انسان اليوم من تلقاء نفسه أن يقف على جميع الحجج التي استنبطها النظار من اهل المذاهب في مسائل الخلاف التي وقعت المناظرة فيها بينهم في معظم بلاد الاسلام - ما عدا المغرب - لكان أهلا أن يضحك منه، لكون ذلك ممتنعاً. . . وهذا أمر بين بنفسه ليس في الصنائع العملية فقط، بل والعلمية: فإنه ليس منها صناعة يقدر أن ينشئها واحد بعينه. فكيف بصناعة الصنائع، وهي الحكمة؟!.

واذا كان هذا هكذا، فقد يجب علينا - إن ألفينا، لمن تقدمنا من الأمم السالفة، نظراً في الموجودات واعتباراً لها بحسب ما اقتضته شرائط البرهان - أن ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم : فما كان منها موافقاً للحق قبلناه منهم وسررنا به، وشكرناهم عليه، وما كان منها غيرموافق للحق، نبهنا عليه وحذرنا منه، وعذرناهم».

وهذه نظرة واسعة الأفق، متحررة، منفتحة للأخذ بالعلوم اياً كان مصدرها، دون اعتبار لجنية أودين هذا المصدر، كل ما علينا هو أن نفحص عما جاؤوا به فإن كان موافقاً للحق، أي لا يقضي بم العقل والنظر العقلي والبرهان العقلي، قبلناه وفرحنا بم وشكرنا لهم صنيعهم عرفانا منا بجميلهم، وان وجدناه غير موافق للحق، نبهنا على ذلك، وحذرنا منه، والتمسنا العذر لهم فيما اجتهدوا فيه ولم يصيبوا الحق.

وينتهي ابن رشد من هذا كله إلى تقرير أن النظر في كتب القدماء واجب بالشرع، اذ كان مغزاهم في كتبهم ومقصدهم هو المقصد الذي حثنا الشرع عليه، وان من غىعن النظرفيها منكان اهلا للنظر فيها - وهو لذي جمع أمرين: أحدهما ذكاء الفطرة، والثافي العدالة الشرعية والفضيلة الخلقية - فقد صد الناس عن الباب الذي دعا الشرع منه الناس الى معرفة الله، وهو باب النظر المؤدي الى معرفته حق المعرفة، وذلك غاية الجهل والبعد عن الله تعالى»

الاعتراف بالتتائج العارضة

فإن اعترض معترض على ذلك بأن بعض الناس قد زل وغوى من اطلاعه على كتب القدماء في الفلسفة، فلي هذا بحجة وإنما ذلك حدث «اما من قبل نقص فطرته، واما منقبل سوء ترتيب نظره فيها، أومن قبل غلبة شهواته عليه، أو انه لم يجد معلا يرشده الى فهم ما فيها، أو من قبل اجتماع هذه الأسباب فيه، أو أكثر من واحد منها» . ولا ينهض ذلك مبرراً أن نمنعها عن الذي هو أض للنظر فيها. فإن هذا النحومن الضرر الداخل من قبلها هوشيء لحقها بالعرض، لا بالذات، وليس يجب، فيما كان نافعاً بطباعه وذاته، أن يترك، لكان ( = سبب) مضرة موجودة فيه بالعرض. .. ان مثل من منع النظر في كتب الحكمة من هو أهل لها - من أجل أن قوماً من أراذل الناس قد يظن بهم أنهم ضلوا من قبل نظرهم فيها - مثل من منع العطشان من شرب الماء البارد العذب حتى مات (من العطش) لأن قوماً شرقوا به فماتوا. فإن الموت عن الماء بالشرق أمر عارض، وعن العطش (أمر) ذاتي وضروري».

وليست الفلسفة وحدها التي يقع لها هذا، بل يحدث مثله للفقه والفقهاء . «فكم من فقيه كان الفقم سبباً لقلة تورعه وخوضه في الدنيا! بل أكثر الفقهاء كذلك نجدهم، وصناعتهم انما تقتضي بالذات «الفضيلة العملية» .

طرق التصديق متفاوتة

فإن قيل: وما الداعي إلى طريق الفلسفة، ما دام يغنينا طريق الشرع؟

فالجواب: «إن طباع الناس متفاضلة في التصديق: فمنهم من يصدق بالبرهان، ومنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية تصديق صاحب البرهان، اذ ليس في طباعه أكثر من ذلك، ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطاية، كتصديق صاحب البرهان بالأقاويل البرهانية».

فإن قيل ان هذه الطرق قد لا تؤدي الى نف الرأي، كان الجواب أن والحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له».

فإن وقع تعارض بين ما أدى إليه النظر البرهاني العقلي، وبين ما نطقت به الشريعة، قلنا ان الأمر لا يخلو عن خصلتين :

  1. فاما أن يكون الشرع قد سكت عنه، واذن فلا تعارض هناك،
  2. واما أن يكون ظاهر ما نطق به الشرع مخالفاً لما أدى اليه النظر البرهافي العقلي. وفي هذه الحالة علينا أن نزول ما ورد به ظاهر الشرع «ومعفى التأويل هو اخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية الى الدلالة المجازية، من غير أن يخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز، من تسمية الشيء بشبيهه، أو بسببه، أو لاحقه، أو مقارنه، أو غير ذلك من الأشياء التي تحددت في تعريف أصناف الكلام المجازي.

واذا كان الفقيه يفعلهذا فيكثير من الأحكام الشرعية، فكم بالحري أن يفعل ذلك صاحب علم البرهان! فإن الفقيه إنما عنده قياس ظني، والعارف عنده قياس يقيني-

ونحن نقطع قطعاً أنكل ما أدى اليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع، أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي. وهذه القضية لا يشك فيها مسلم، ولا يرتاب بها مؤمن، وما أعظم ازدياد اليقين بها عند من زاول هذا المعفى وجربه، وقصد هذا المقصد من الجمع بين المعقول والمنقول!

بل نقول انه : ما من منطوق به في الشرع مخالف بظاهره لما أدى اليه البرهان إلآ اذا اعتبر الشرع وتصفحت سائر اجزائه وجد في ألفاظ الشرع ما يشهد بظاهره لذلك التأويل، أو يقارب أن يشهد. ولهذا المعى أجمع المسلمون على أنه ليس يجب أن تحمل الفاظ الشرع كلها على ظاهرها، ولا أنتخرج كلها عن ظاهرها بالتأويل».

وهكذا يقرر ابن رشد بكل توكيد ما يلي.

  1. أن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد عب.
  2. فاذا اختلف ما نطق به الشرع مع ما ادى اليه البرهان العقلي، فيجب تأويل ظاهر الشرع ليتفق مع ما أدى اليه البرهان العقلي.
  3. والتأويل مباح، يدليل الجوء اليه في الأحكام الشرعية، طالما كان ذلك لا يخل بعادة لسان العرب في استخدام المجازات.
  4. ويقطع ابن رشد بأن كل ما نطق به الشارع وبدا في الظاهر غالفاً لا أدى اليه البرهان العقلي فمن الممكن تأويله بما يجعلم متفقاً مع ما أدى اب البرهان العقلي، أي أنه يقطع مقدماً بإمكان تاويل ظاهر ما نطق به الشرع ليتفق مع ما أدى اليه البرهان العقلي. والسبب في هذا التوكيد القاطع من جانبه هو ما ورد في رقم (١) من أن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد عليه. فما دام الشرع حقاً وما أدى اليه البرهان هو حق، فإنهما لا بد ن يتفقا

فإن سأل سائل : ولماذا لم يرد نطق الشرع صريحاً لا يحتاج لى تأويل فينحسم كل اختلاف؟ أجاب ابن رشد بأن «السبب في ورود الشرع فيه الظاهر والباطن: هو اختلاف فطر الناس وتباين قرائحهم في التصديق. والسبب في ورود الظواهر المتعارضة فيه هو تنبيه الراسخين في العلم على التأويل الجامع بينهما. والى هذا المعنى وردت الاشارة بقوله تعالى : «وهو الذي أنزل عليك الكتاب، منه آيات محكمات... » إلى قوله: «والراسخون في العلم» ويريد ابن رشد أن يقف على «والراسخون في العلم» ليعطفها على «الله» ويجعل الله والراسخين في العلم معا عالمين وحدهم بتأويل الآيات المتشابهات في القرآن.

ويؤيد ابن رشد رده هذا بأن يقول أن «كثيراً من الصدر الأول قد نقل عنهم اهم كانوا يرون ان للشرع ظاهرأ وباطا، وأنه ليس يجب أن يعلم بالباطن من ليس من أهل العلم به ولا يقدر على فهمه- مثلما روى البخاري عن علي - رضي الته عنه! - أنه قال: «حدثوا الناس بما يعرفون. أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟». ومثلما روى من ذلك عن جماعة من السلف».

لا تكفير في الاجماع

فإن اعترض معترض بأنه لا يجوز التأويل في ما أجمع عليه لمسلمون - رد بن رشد بقوله انه لا يوجد اجماع يقيني لا في الأمور العملية - ولا - وبالأحرى - في الأمور النظرية. وأبو حامد الغزالي نفسه وأبو المعالي عبد الملك الجويني (إمام الحرمين) لم يقطعا بكفر من خرق الاجماع في التأويل.

فإن رد عليه بأن الغزالي قد قطع بتكفير أبي نصر الفارابي وابن سينا وفلاسفة الاسلام في كتابه "التهافت" في ثلاث مسائل: (١) في القول بقدم العالم ، (٢) وبأنه تعالى لا يعلم الجزئيات، (٣) وفي تأويل ما جاء في حشر الاجساد وأحوال المعاد - أجاب ابن رشد: «الظاهر من قوله في ذلك أنه ليس تكفيره إياها في ذلك قطعاً، اذ قد صرح في كتاب«التفرقة» ان التكفير بخرق الاجماع فيه احتمال».

حق الراسخين في العلم: في التأويل

ويعود ابن رشد الى ما قرره من الوقوف بعد: «والراسخون في العلم» في الآية(١) المشهورة (سورة ال عمران آية ٧) ، ويبرر ذلك بأنه «اذا لم يكن أهل العلم يعلمون التأويل، لم تكن عندهم مزية تصديق توجب لهم من الايمان به ما لا يوجد عند غير أهل العلم. وقد وصفهم الله بأنهم المؤمنون به، وهذا إنما يحمل على الايمان لذي يكون من قبل البرهان، وهذا لا يكون إلا مع العلم بالتأويل فإن غير أهل العلم من المؤمنين هم أهل الايمان به لامنقبل البرهان. فإن كان هذا الايمان الذي وصف اللة بم العلماء خاصاً بهم، فيجب ان يكون بالبرهان».

هل كان ابن رشد فيلسوفاً عقلياً صرفاً؟

وبعد أن حللنا هذا القسم الأول من كتاب «فصل المقال،، وهو الذي وضع فيه القواعد العامة للعلاقة بين الفلسفة والشريعة، علينا أن نتساءل: هل كان ابن رشد فيلسوفاً عقلياً صرفاً؟ .

سؤال آثاره الباحثون المحدثون ابتداء من رينان وتعاقب على الجواب عنه من عنوا بابن رشد.

١ - أما رينان فيرى أن موقف ابن رشد يتلخص في انه يقرر مستويين: مستوى العامة، وهو الذي يكتفي بظاهر النصوص الثرعية، ومستوى العلماء الراسخين، وهو الذي يعتمد على البرهان العقلي، وحين إلتعارض يؤول ظاهر النصوص الشرعية كيما تتفق مع ما يتأدى اليه البرهان العقلي. «والحكيم لا يسمح لنفسه بابداء أي رأي ضد لدين القائم , لكنه مع ذلك يتحاشى أن يصف الله بما يصفه به العامة» (رينان: «ابن رشد والرشدية» ص 139، مجموع مؤلفات رينان ج3، باريس سنة 1949)

٢- وبعكس رينان، جاء ميرن Mehren وأسين بلاثيوس Asin y Palacios فحاولا بيان أن ابن رشد كان ذا نزعة دينية قوية وأنه سعى باخلاص للتوفيق بين الدين والفلسفة. فقال ميرن ان موقف ابن رشد في هذه المسألة لا يختلف عن موقف ابن سينا، وان الفلسفة عنده تستند الى الوحي الإلهي والى العقل معاً. واستند في ذلك الى «تهافت التهافت» وحده.

أما أسين بلاثيوس فاستند الى كل النصوص الأساسية في هذا الباب عند ابن رشد، وترجم فقرات رئيسية منها الى الاسبانية، وقارنها بنصوص مناظرة لها عند توما الأكويني. وانتهى من ذلك الى توكيد أن ابن رشد لم يكن فيلسوفاً عقلياً، بل على العكس: اعتمد على الوحي، وقرر ان الوحى والعقل لا يتعارضان، وتبعاً لذلك يرى اسين أن ابن رشد بقي صحيح لايمان تماماً، ولم يتعد حدود المذهب السني .

٣ - ثم جاء ليون جوتييه في رسالة للدكتوراه بعنوان : «نظرية ابن رشد في العلاقة بين الدين والفلسفة» (باريس سنة ١٩٠٩) فدرس الموضوع تفصيلاً، واننهى الى ان السؤل المطروح وهو: هل كان ابن رشد عقليا؟ سؤال اسىء طرحه. اذ لا ينبغى أن نضع السؤال في هذه الصورة، بل أن نسأل: بالنسبة لمن كان عقلياً؟ وبالنسبة لمن لم يكن كذلك؟ والجواب أنه «كان عقلياً مطلقاً حين كان يتوجه الى الفلاسفة، أي الى اصحاب البرهان لعقلي والبينة العقلية، وعلى هؤلاء أن يؤولوا كل لنصوص المتشابهة، ولا يوجد بالنسبة لهم سر ولا معجزات بالمعنى الحقيقي. ولكنه كان ذا نزعة ايمانية حين يتعلق الأمر بالعامة، أي بأصحاب الحجج الخطابية، أو أهل الموعظة، العاجزين عن متابعة البرهان العقلي وهزلاء ينبغي عليهم أن يؤمنوا حرفياً بكل الرموز وكل النصوص المتشابهة، دون استثناء. أما الفريق الثالث من النفوس، وهم وسط بين الفريقين الآخرين، وأعني بهم أهل الجدل، أي المتكلمين، القادرين على ادراك صعوبات النصوص والبحث في هذه الصعوبات، ولكنهم عاجزون عن فهم تفسيرها الحقيقي، فعلى الفلاسفة أن يقدموا اليهم، وهم نفوس مريضة، الدواء الوحيد الناجع لمرضهم الجدلي وطريقتهم الشاذة المختلطة - ونعني به تأويلات شبه عقلية وشبه ايمانية».

ويدافع جوتييه عن هذا التفسير مرة أخرى في مقدمة ترجمته الفرنسية ل «فصل المقال» (الجزائر، سنة ١٩٤٢)(ليون جوتيه: «نظرية ابن رشد في العلاقة بين الدين والفلسفة» ص180، باريس سنة 1909).

٤ - ويرد عليه مانويل ألونو منكراً هذا التفسير العقلي انزعة لاتجاه ابن رشد.

وقد تناول عبد الرحمن بدوي هذه الآراء تفصيلاً وبينا ما لها وما عليه في كتابه «تاريخ الفلسفة في الإسلام» (بالفرنسية، ج ١ ص ٧٦٦ - ٧٨٩). وانتهى إلى رفض مواقف هؤلا ء من تفسير نزعة ابن رشد، وإلى بيان أن ابن رشد كان حر الفكر، ولكنه لم يسع إلى الاصطدام بالشريعة.

الإلهيات

ليس لابن رشد كتاب قائم برأسه في الإلهيات، وانما نلتمس اراءه في هذا الباب من شرحه على «ما بعد الطبيعة» لأرسطو وتلخيصه من ناحية، ومن ردوده على الغزالي في كتاب «تهافت التهافت» ولهذا يعسر على الباحث أن يقدم عرضاً متصلاً لذهب ان رشد، اذ يصعب التمييز بين ما هو مجرد شرح لأرسطو، وبين ما يعتقده بن رشد رأياً خاصاً به . وتلك هي دائيما حال الشارح والمؤرخ: يتوارى دائما خلف ما يشرح أو يعرض من نصوص وآراء . ولربما كان عمله هذا أعظم فائدة وأدل على تفوق عقلي أكثر مما يصنعه من يعرض الآراء كأنها من عنده، وهي في حقيقة الأمر خلاصة باهتة لما قاله الآخرون قبله، لكنه عرضها وكأنها باسمه هو ومن عنده. لكن البحث التاريخي كفيل بعد ذلك بفضح زيف دعوى هذا الأخير، رغم أن دعواه الأصالة قد خالت على السطحيين من الناس، أعني كافتهم إلا النادرين.

وهذه ملاحظة ينبغي أن تكون نصب أعيننا حين نقارن بين ابن رشد من ناحية، وابن سينا أوالفارابي أو الكندي أو القديس توما من ناحية أخرى . فقناعة ابن رشد بموقف الشارح لا تقل من قدره تجاه هؤلاء الآخرين الذين تظاهروا أمام الناس في كتبهم أنهم أصحاب الآراء التي يعرضونها، مع أنهم في معظمها، ان لم يكن فيها جميعها، اقتصر عملهم على التلخيص والعرض المبسط.

وبعد هذا لتمهيد الضروري لانصاف ابن رشد وبيان مكانته إزاء سائر فلاسفة الاسلام، لنأخذ في عرض أهم أقواله في غير المواضع التي قتصر فيها على شرح ارسطو. ولنبدأ بالمسائل التيكفر بها الغزالي الفلاسفة.

قدم العالم

يرى ابن رشد كما رأى أرسطو أن العالم قديم، أي ليس له بداية، «وأنه ل يزل موجوداً مع الله تعالى، ومعلولاً له، ومساوقا له غير متأخر عنه بالزمان مساوقة المعلول للعلة، ومساوقة النور للشمس، وأن تقدم الباري عليه كتقدم العلة على المعلول، وهو تقدم بالذات والرتبة، لا بالزمان «كما شرح الغزالي في «التهافت» - ودليلهم على ذلك:

  1. استحالة صدور حادث عن قدبم مطلقاً،
  2. لوكان الباري متقدماً بالزمان على العالم، لكان قبل الزمان زمان، وهذا خلف.
  3. إمكان العالم كان موجوداً، فالعالم ل يزل ممكن الدوث.
  4. كل حادث تسبقه مادة، اذا يستغني الحادث عن مادة، فالمادة اذن قديمة، فالعالم قديم.

ويرد الغزالي على هذه الحجج، فينبري ابن رشد للدفاع عنها وابطال ردود الغزالي، مبيناً أنه إنما يقابل اشكالات بأشكالات، وهذ انما يقتضى حيرة وشكوكاً، لا إبطالاً للأشكال الذي يقابله. وهذه معاندة غير تامة، بينما «المعاندة التامة انما هي التي تقتضي ابطال مذهبهم بحسب الأمر في نفه، لا بحسب قول القائل به» (ص ٢٠٨ من «تهافت التهافت»، القاهرة سنة ١٩٦٤).

وخلاصة الرأي عند ابن رشد أنه «ان كانت حركات الأجرام السماوية وما يلزم عنها أفعالاً لموجود أزلي، غير داخل وجوده في الزمان الماضي، فواجب أن تكون فعاله غير داخلة في الزمان الماضي» (الكتاب نفسه، ص ٢١٦)

ويتفرع على ذلك أن العالم كما أنه «أزلي لا بداية لوجوده، فهو أبدي لا نهاية لآخره، ولا يتصور فساده وفناؤ٥، بل لم يزل كذلك، ولا يزال أيضاً كذلك. وأدلتهم الأربعة التي ذكرناها في الأزلية جارية في الأبدية، فانهم يقولون ن العالم معلول علته ازلية أبدية، فكان المعلول مع العلة. ويقولون: اذا لم تتغير العلة، لم يتغير المعلول» (الغزالي: «تهافت الفلاسفة» ص ٨١ بيروت سنة ١٩٦٢ ).

ويؤيد ابن رشد رأي الفلاسفة هذا بقوله انه «يمتنع عندهم أن ينعدم الشيء الى لا موجوداً اصلا، لانه لو كان كذلك، لكان الفاعل يتعلق فعلم بالعدم أولاً بالذات»(ابن رشد: «تهافت التهافت» ص 148-149، القاهرة سنة 1964 ).

ويؤول ابن رشد الآيات الواردة في الأنباء عن ايجاد العالم فيقول في «فصل المقال» (ص ٤٢-٤٣): «إن ظاهر الشرع إذا تصفح، ظهر من الآيات الواردة في الانباء عن ايجاد العالم أن صورته محدثة بالحقيقة، وأن نفس الوجود والزمان مستمر من لطرفين، أعني غير منقطع. وذلك أن قوله تعالى: "وهو الذي خلق الموات والأرض في ستة أيام، وكان عرشه على الماء" (سور: هود آية ٧) يقتضي بظاهره أن وجوداً قبل هذا الوجود، وهو العرش والماء، وزماناً قبل هذا الزمان، اعني المقترن بصورة هذا الوجود الذي هو عدد حركة الفلك . - وقوله تعالى: "يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات" (سورة ابراهيم، آية ٤٨) يقتضي أيضاً بظاهره أن وجوداً ثانياً بعد هذا الوجود وقوله تعالى: "ثم استوى الى الماء وهي دخان" (سورة فصلت، آية ١١) يقتضى بظاهره أن السموات خلقت من شي، فالمتكلمون ليسوا في أقوالهم أيضاً في العالم على ظاهر الشرع، بل متأولون: فإنه ليس في الشرع أن الله كان موجوداً مع العدم المحض، ولا يوجد هذا فيه نصا ابداً»(ابن رشد: «فصل المقال» ص 42-43، بيروت، سنة 1973).

وبهذا يبين ابن رشد أن القول بقدم العالم لا يخالفه نص من القرآن، ولا تعارض اذن في هذه المسألة بين ما يقول به الفلاسفة من أن العالم قديم وبين ما ورد في الشرع.

علم الله بالجزئيات

والمسألة الثانية التي كفر الغزالي بها الفلاسفة المسلمين هي : علم الله بالجزثيات.

ويرى ابن رشد أن الغزالي غلط في ذلك، لأهم لا يقولون ان الله لا يعلم الجزئيات أصلا «بل يرون أنه -تعالى - يعلمها بعلم غير مجانس لعلمنا بها، وذلك أن علمنا بها معلول للمعلوم، فهو عحدث بحدوثه ومتغير بتغيره. وعلم اس - سبحانه - بالوجود على مقابل هذا : فإنه عله للمعلوم الذي هو الموجود ومن شبه العلمين أحدهما بالآخر، فقد جعل ذوات المتقابلات وخراضها واحداً ، وذلك غاية الجهل»(ابن رشد: «فصل المقال» ص 39).

ويشرح هذا القول بأن يقول في « الضميمة» الملحقة عادة بكتاب «فصل المقال«، وفيها يوضح مسألة علم القديم سبحانه، فيقول: «ان الحال في العلم القديم (أي علم الته الأزلي) مع الموجود خلاف الحال في العلم المحدث (أي علم الانان المتوقف على الموجودات) مع الموجود وذلك ان وجود الموجود هو علة وسبب لعلمنا، والعلم القديم هو علة وسبب للموجود. فلو كان، اذا وجد الموجود بعد ان لم بوجد ، حدث في العلم القديم علم زاند كا يحدث ذلك في العلم المحدث، للزم أن يكون لعلم القديم معلولا للموجود، لا علة له فإذن واجب أن لا يحدث هنالك تغير كما يحدث في العلم المحدث .

وإنما أق هذا الغلط من قياس العلم القديم على لعلم المحدث، وهو قياس الغاثب على الشاهد وقد عرف فساد هذا القياس. وكما أنه لا يحدث في الفاعل تغير عند وجود مفعوله، اعني تغيراً ل يكن قبل دك.، كذلك لا يحدث في علم القديم بحانه تغير عند حذوث معلوم عنه»(ابن رشد: «ضميمة» في «فصل المقال» ص 64).

واذن ليس يعلم الله الموجود حين حدوثه، وانما يعلمه بعلم قديم.

«فاذن العلم القديم انما يتعلو بالموجودات على صفة غير الصفة التى يتعلق ها العلم المحدث، لاأنهغير متعلق اصلح، كما حكي عن الفلاسفة انهم بفولون، لمرضوع هذا الثك، انه سبحانه لا يعلم الجزئيات. وليس الأمر على ما توهم عليهم، بل يرون أنه لا يعلم الجزثيات بالعلم المحدث الذي من شرطه الحدوث بحدونها، اذ كانعلة لها، ا معلولا عنها كالحال في العلم المحدث . وهذا هو غاية التنزيه الذي يجب أن يعترف به»(الكتاب نفسه ص62).

والغزالي حين يعرض رأي فلاسفة الاسلام في هذه المسألة يقول إن منهم من ذهب إلى انه (أي الله) لا يعلم إلا نفسه، ومنهم من ذهب إلى أنه يعلم غيره «وهو الذي اختاره ابن سينا: فقد زعم أنه يعلم الأشياء علما كلياً لا يدخل تحت الزمان، ولا يختلف بالماضي والمستقبل والآن ومع ذلك زعم أنه لا يغرب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، إلا أنه يعلم الجزئيات بنوع كلي»(الغزالي: «تهافت الفلاسفة» ص 164 ).

وابن رشد «في تهافت التهافت» يرد على اعتراضات الغزالي على الفلاسفة في هذه المسألة بأن يقول ان الأصل في مثاغبة الغزالي على الفلاسفة ها هنا راجع الى تثبيهه علم الخالق سبحانه بعلم الانسان، وقباس أحد لعلمين على الآخر. وهذا خطأ في التشبيه، لاختلاف علم الخالق عن علم الانسان. هذا أولاً.

وثانياً من قال من الفلاسفة ان الله إنما يعلم الكليات دون الجزئيات، فالسبب في ذلك أن العلم بالكليات عقا ، أما العلم بالجزئيات أي بالاشخاص - فهو حس أو خيال وتجدد الأشخاص يوجب شيئين: تغير لادراك، وتعدده أما علم لأنواع والأجناس - أي علم الكليات - فليس يوجب تغيرا، اذ علمها ثابت.

لكن ابن رشد يسلم بأن تعدد الأنواع والأجناس يوجب التعدد في العلم، ولهذا فإن «المتحققين من الفلاسفة لا يضعون علمه - سبحانه وتعالى -بالموجودات : لا بكلي ، ولا بجزئي . وذلك أن العلم الذي هذه لأمور لازمة له هو: عقل منفعل ومعلول، والعقل الأول هو فعل محض، وعلة، فلا يقاس علمه على العلم الانساني. فمن جهة ما لا يعقل غيره، من حيث هو غير، هو علم منفعل، ومن جهة ما يعقل الغير، من حيث هو ذاته،هولم ل.

وتلخيص مذهبهم أنهم لما وقفوا بالبراهين على أنه ا يعفل إلا ذاته، فذاته عقل ضرورة. ولما كان العقل، بما هو عقل، انما يتعلق بالموجود، لا بالمعدوم، قام البرهان على أنه لا موجود إلا هذه الموجودات التي نعقلها نحن، فلا بد أن يتعلق عقله بها. واذا وجب أن يتعلق بهذه الموجودات : فاما أن يتعلق بها على نحو تعلق علمنا بها ، - واما أن يتعلق بها على وجه أشرف مر جهة تعلق علمنا بها. وتعلق علمه بها على نحو تعلق علمنا بها: مستحيل. فوجب أن يكون تعلق علمه بها على نحو أشرف ووجود أتم لها من الوجود الذي تعلق علمنا بها، لأن العلم لصادق هو الذي يطابق الموجود.

فإن كان علمه أشرف من علمنا، فعلم الله يتعلت من الموجود بجهة أشرف من الجهة التي يتعلق علمنا به. فللموجود اذن وجودان: وجود أشرف، ووجودأخس. والوجودالأشرف هو علة الأخس. وهذا هو معنى قول القدماء ان الباري سبحانه وتعالى هو الموجودات كلها، وهو المنعم بها. والفاعل لها، ولذلك قال رؤساء الصوفية: لاهو إلا هو. ولكن هذا كله من علم الراسخين في العلم، ولا يجب أن يكتب هذا ولا أن يكلف الناس اعتفاد هذا ولذلك لير هو من التعليم الشرعي. ومن أثبته في غير موضعه ففد ظلم، كما أن من كتمه عن أهله فقد ظلم»(ابن رشد: «تهافت التهافت» ص 703-705 ).

وبالجملة فإن علم اله غير علمنا نحن، اذ علمنا معلول للموجودات، أما علم اله فهو علة لها. «ولا يصح ان يكون العلم القديم على صورة العلم الحادث. ومن اعتقد هذا، فقد جعل الإله انساناً أزلياً، والانسان إلهاً كاتناً فاسداً»(الكتاب نفسه ص 711 ).

إنكار بعث الأجساد

والمسألة الثالثة هي انكار الفلاسفة لبعث الأجساد وسائر أمور المعاد «وقولهم ان كل ذلك امثلة ضربت لعوام الخلق لتفهيم ثواب وعقاب روحانيين هما أعلى رتبة من الجمانية». ذلك أنهم «قالوا ان النف تبقى بعد الموت بقاء سرمدياً: اما في لذة لا يحيط الوصف بها لعظمها، واما في ألم لا يحيط الوصف به لعظمه. ثم قد يكون ذلك لألم خلداً، وقد ينمى على طول الزمان. ثم تتفاوت طبقات الناس في درجات الألم واللذة تفاوتاً غير محصور، كما يتفاوتون في المراتب الدنيوية ولذاتها تفاوتاً غبر محصور واللذة السرمدية للنفوس الكاملة الذكية، والألم السرمدي للنفوس الناقصة الملطخة. والألم المنقضي للنفوس الكاملة الملطخة، فلا تنال السعادة المطلقة إلا بالكمال والتزكية والطهارة، والكمال بالعلم، والذكاء بالعمل»(الغزالي: «تهافت الفلاسفة» ص 235).

والغزالي يرى أن أكثر هذه الأمور ليس مخالفا للشرع. ولكن المخالف للشرع هو انكارهم حشر الأجساد، وانكارهم اللذات الجسمانية في الجنة، والآلام الجسمانية في النار، وانكارهم وجود جنة ونار كما وصفهما القرآن، والسبب في انكارهم لهذه الأمور هو استحالته بالدليل العقلي. ولهم في ذلك ثلاثة مسالك:

المسلك الأول: تقدير العود الى الابدان، لا يعدو ثلاثة أقسام: اما أن يقال: الانسان عبارة عن البدن والحياة التي هي عرض قائم به، ومعى الموت انقطاع الحياة، فتنعدم والبدن ينعدم أيضأ واما أن يقال ان لنفس موجودة، وتبقى بعد الموت، ولكن يرد لبدن لأول بجمع تلك الأجزاء بعينها. واما أن يقال: يرد النفس الى بدن، سواء كان من تلك الأجزاء أو من غيرها، ويكون العائد هو ذلك الانسان من حيث ان النفس هي تلك النفس، فأما المادة فلا التفات لها.

وهذه الأقسام الثلاثة باطلة: لأن الأول ايجاد لمثل ما كان ، لاإعادة لعين ما كان. والثاني، وهو تقرير بقاء النفس ورده الى ذلك البدن بعينه، باطل لأنه لو عاد لكان ذلك عوداً الى تدبير البدن بعد مفارقته، وهذا محال، لأن بدن الميت ينحل تراباً أو تأكله الديدان والطيور ويستحيل دمأ وبخاراً وهواء، ويتزج بهواء العالم وبخاره ومانه امتزاجا يبعد انتزاعه واستخلاصه.

والثالث، وهو رذ النفس الى بدن انسافي من أية مادة كانت وأي تراب اتفق - محال من وجهين : حدهما أن المواد القالة للكون والفساد محصورة في مقعر فلك القمر لا يمكن عليها مزيد، وهي متناهية، والأنفس المفارقة للابدان غير متناهية، فلا تفي بها، والثاني أن التراب لا يقبل تدبير النفس ما بقي تراباً، بل لا بد أن تمتزج لعناصر امتزاجاً يضاهي امتزاج النطفة.

والغزالي بختار هذا القسم الثالث ولا يرى مانعاً من ذلك شرعياً.

المسلك الثاني أنهم قالوا: «ليس في المقدور أن يقلب الحديد ثوباً منسوجاً بحيث يتعمم به، إلا بأن تحلل اجزاء الحدد الى العناصر بأسباب تستولي على الحديد، فتحلله الى بسائط العناصر، ثم تجمع العناصر وندار في أطوار الخلقة، الى أن تكتسب صورة القطن، ثم يكتسب القطن صورة الغزل، ثم الغزل يكتسب الانتظام ا معلوم الذي هو النسج على هيئة معلومة. . . واذا عقل هذا فالانسان المبعوث المحشور لو كان لدنه من حجر أو ياقوت أو در أو تراب محض، لم يكن إنسانا ، بل لا يتصور أن يكون انساناً، إلا أن يكون متشكلأ بالشكل المخصوص، مركباً من العظام والعروق واللحوم والغضاريف والأخلاط . . . فاذن لا يمكن أن يتجدد بدن انسان لترد لنفس اليه بهذه الأمور»(الغزالي: «تهافت الفلاسفة» ص 248).

تلك حجج الفلاسفة في انكار بعث الاجساد ورد لأرواح لى الابدان ووجود النار الجسمانية ووجود الجنة الجمانية وسائر أمور المعاد.

وابن رشد في رده على الغزالي لا يتناول أقوال لغزالي واحداً بعد واحد كما فعا في المسائل التسع عشرة لأخرى، بل يضع تعليقاً عاماً هو أنه لم يتناول واحد من الفلاسفة المتقدمين هذه المسألة بالبحث، وليس لهم فيها قول، إنما وردت هذه الأقوال في الأديان والشرائع. والفلاسفة يرون أن الشرائع ضرورية، لأنها تنحو نحو تبرير الناس ليصل الانسان الى سعادته الخاصة به، ولبث الفضائل الخلقية في الانسان، «والفضائل الخلقية لا تتمكن إلا بمعرفة لله تعالى وتعظيمه بالعبادات المشروعة لهم (أي الناس) في ملة ملة . . . ويرون بالجملة أن الشرائع هي الصنائع الضرورية المدنية التي تأخذ مبادئها من العقل والشرع. . ويرون - معهذا - نه ا ينبغي أن يتعرض، دول مثبت أو مبطل، في مبادئها العامة، مثل: هل يجب أن يعبد الله تعالى؟ أو لا يعبد؟ وأكثر من ذلك: هل هو موجود، أم ليس بموجود؟ وكذلك يرون في سائر مبادئه مثل القول في وجود السعادة الأخيرة وفي كيفيتها ، لأن الشرائع كلها تفقت على وجود أخروي بعد اموت، وان اختلفت في صفة ذلك الوجود»(ابن رشد: «تهافت التهافت» ص 865-866).

ومعنى هذا أن الفلسفة لا تتناول شؤون المعاد والأخرويات، وان على الفيلسوف أن لا يناقض ما جاء به النبي في الملة التي نشأ الفيلسوف عليها. والملل كلها حق عنده، وإن كان عليه مع ذلك « أن يختار أفضلها في زمانه , . . وأن يعتقد أن الأفضل يسنح بما هو أفضل منم . ولذلك أسلم الحكماء الذين كانرا يعلمون الناس بالاسكندرية لما وصلتهم شريعة الاسلام، وتنصر الحكماء الذين كانوا ببلاد الروم، لما وصلتهم شريعة عيسى .. . . ولا يشك أحد أنه كان في بني اسرايل حكماء كثيرون، وذلك ظاهر من الكتب التي تلفى عند بني اسرائيل المنسوبة الى سليمان»(الكتاب نفسه ص 868).

وينتهي ابن رشد الى ان الاعتقادات التي وردت بها الشرائع في أمور الآخرة وان لم يتناولها البرهان العقلي، والفلاسفة لم يتعرضو لها، فإنها «أحث على الأعمال الفاضلة بماقيل في غيرها، ولذلك كان تمثيل المعاد لهم (أي للناس) بالأمور الجسمانية أفضل من تمشيله بالأمور الروحانية...»(الكتاب نفسه ص 87).

براهين وجود الله

وبعد أن فرغنا من تلك المسائل الثلاث التي كفر الغزالي بها فلاسفة الاسلام، ورد ابن رشد على أقواله، فلننظر في بعض المسائل الأخرىوأولها براهين وجود الله.

وابن رشد يرجع هذه البراهين الى اثنين: برهان مأخوذ من العناية الإلهية بالعالم، وبرهان مأخوذ من الخلق وهو يفضل البرهان بالحركة، وينقد سائر البراهين: البرهان الغائى، والبرهان بالتمييز بين الممكن والواجب (وهو الذي تمسك به خصوصاً الفاراي وابن سينا)، والبرهان بالعلية.

وهو يعرض البرهان بالحركة في شرحه على المقالة الثامنة من كتاب «الطبيعة» لأرسطو، ويشير اليه بإيجاز في «تهافت التهافت» (ص ٦٦، نشرة بويج سنة ١٩٣٠)، ويلخص عرض أرسطو في تلخيصه لكتاب «ما بعد الطبيعة» (ص ١٢٧ - ١٢٨ طبع حيدر أباد سنة ١٣٦٥ ه) هكذا :

«تبين في العلم الطبيعي أن كل متحرك له محرك، وأن المتحرك انما يتحرك من جهة ما هو بالقوة، والمحرك يتحرك من جهة ما هو بالفعل. وأن المحرك اذا حرك تارة ولم يحرك أخرى، فهو محرك بوجه ما، إذ توجد فيه القوةعلى التحريك حينما لا يحرك. ولذلك متى أنزلنا هذا المحرك الأقصى للعالم يحرك تارة ولا يحرك اخرى، لزم ضرورة أن يكون هناك محرك أقدم منه، فلا يكون هو المحرك الأول. فإن فرضنا أيضاً هذ الثاني يحرك تارة، ولا يحرك أخرى، لزم فيه ما لزم في الأول فباضطرار: اما أن يمر ذلك إلى غير نهاية، أو ننزل ان ها هنا محركاً لا يتحرك أصلا، ولا من شأنه أن يتحرك لا بالذات ولا بالعرض واذا كان ذلك كذلك، فهذا المحرك أزلي ضرورة،.

نقد نظرية الصدور

وينقد ابن رشد القائلين بصدور العالم عن اله بطريق الفيض، وعلى رأسهم الفارابي وابن سينا، وهوفي هذا تلميذ مخلص لأستاذه أرسطو.

يقول ابن رشد: «وأما. ما حكاه (أي الغزالي) عن الفلاسفة في ترتيب فيضان المبادىء المفارقة عنه، وفي عدد ما يفيض عن مبدأ من تلك المادى-فشيء لا يقوم برهان على تحصيل ذلك وتحديده. ولذلك لا يلفي التحديد الذي ذكره: في كتب القدماء.

وأما كون جميع المبادىء المفارقة، وغير المفارقة، فائضة عن المبدأ الأول، وأن بفيضان هذه القوة الواحدة صار العالم بأسره واحداً، وبها ارتبطت جميع أجزائه حتى صار الكل يؤم فعلاً واحداً كالحال في بدن الحيوان الواحد المختلف القوى والأعضاء والأفعال، فإنه انما صار عند العلماء واحداً وموجوداً بقوة واحدة فيه، فاضت عن الأول - فأمر أجمعوا عليه، لأن السماء عندهم بأسرها هي بمنزلة حيوان واحد»(ابن رشد: «تهاوت التهافت» ص ٣٧٢ - ٣٧٣ ).. وكما أن في الحيوان الواحد قوى عديدة، ولكن تسري فيه قوة واحدة ، كذلك «كانت نسبة أجزاء الموجودات من العالم كله نبة أجزاء الحيوان الواحد من الحيوان الواحد ٠ فباضطرار أن يكون حالها في أجزائه الحيوانية وفي قواها المح كة النفسانية والعقلية هذه الحال، أعني أن فيها قوة واحدة روحانية - وهي سارية في الكل سريانا واحداً - بها ارتبطت جميع القوى الروحانية والجاة، ولولا ذلكلماكان هاهنا نظام ونرتب. وعلى هذا يصح القول ن الله خالق كل شيء وممسكه وحافظه، كما قال الله سبحانه : و ان الله يمسك السموات والأرض ان تزولا». وليس يلزم من سريان القوة الواحدة في اشياء كثيرة ان يكون في تلك القوة كثرة، كما ظن من قال ان المبدأ الواحد إنما فاض عنه اولاً، واحد، ثم فاض من ذلك الواحد كثرة، فإن هذا إنما يظن به انه لازم إذا شبه الفاعل الذي في غير الهيولى بالفاعل الذي هو هيولى. ولذلك إن قيل اسم: «الفاعل» على الذي في غيرهيولى، والذي في هيولى - فباشتراك الاسم. فهذا يين ك جواز هدور الكثرة عن الواحد»(ابن رشد: «تهافت التهافت» ص 374- 375)

ويحمل ابن رشد بشدة على هذا المبدأ الذي قال به الفاراي وقال به خصوصاً ان سينا وهو أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد. ويلاحظ بوجه عام أن ابن رشد شديد الوطأة على ابن سينا في كثير من المواضع .

وبالجملة يرى ابن رشد في نظرية الصدور، وخصوصاً صدور الواحد عن الواحد، نظرية لا تقوم على مقدمات يقينية، بل هي ظنية. ويحمل بهذه المناسبة على أبي نصر الفارابي وابن سينا «لأنهما أول من قال هذه الخرافات، فقلدهما الناس، ونسبوا هذا القول الى اللاسفة»(الكتاب نفسه ص 397)

وهنا يوجه ابن رشد الى نفه هذا السؤال ليجيب عنه. فيقول:

«فإن قيل: فما تقول أنت في هذه امسألة - وقد أبطلت مذهب ابن سينا في علة الكثرة، فما تفول أنت في ذلك؟ فإنه قد قيل ان فرق الفلاسفة كانوا يجيبون في ذلك بواحد من ثلاثة أجوبة :

احدها: قول من قال إن الكثرة إنما جاءت من قبل الهيولى..

والثاني: قول من قال: إنما جاءت من قبل الآلات.

والثالث: قول من قال: من قبل الوسائط.

وحكي عن ال أرسطو أنهم صححوا القول الذي يجعل السبب في ذلك: التوسط.

قلت: ان هذا لا يمكن الجواب فيه في هذا الكتاب (أي «تهافت التهافت») بجواب برهاني، ولكن لنا نجد لأرسطو، ولا لمن شهر من قدماء المشائين هذا القول الذي نسب اليهم، إلا لفرفريوس الصوري، صاحب مدخل علم المنطق. والرجل لم يكن من حذاقهم.

والذي يجري عندي على أصولهم أن سبب الكثرة هو مجموع الثلاثة الأسباب: أعني: المتوسطات، والاستعدادات والآلات. وهذه كلها قد بينا كيف تستند الى الواحد، وترجع اليه، اذ كان وجود كل واحد منها بوحدة محضة هي سبب الكثرة. وذلك أنه يشبه أن يكون السبب في كثرة العقول المفارقة اختلاف طبائعها القابلة، فيما تعقل من المبدأ الأول، وفيما تستفيد منه من الوحدانية التي هي فعل واحد في نفسه، كثير بكثرة القوابل له، كالحال في الرئيس الذي تحت يده رئاسات كثيرة، والصناعة التي تحتها صائع كثيرة وهذا يفحص عنه في غير هذا الموضع: فإن تبين شيء منه، وإلآ رجع إلى الوحي.(ابن رشد: «تهافت التهافت» ص 416- 418)

ويرجع ابن رشد الاختلاف إلى الأسباب الأربعة: فاختلاف الأفلاك يرجع الى اختلاف محركيها، واختلاف صورها، واختلاف مواردها - ان كان ها موارد، واختلاف أفعالها المخصوصة في العالم. والاختلاف فيما دون فلك القمر يرجع الى اختلاف المادة، مع اختلافها في القرب والبعد من المحركين لها وهي الأجرام السماوية، مثل اختلاف النار، والتراب، وبالجملة : المتضادات. وأما السبب في اختلاف الحركتين واختلاف حركاتهما، فقد تبين ذلك في كتاب «الكون والفساد» لأرسطو.

وما دام الأمر هكذا، فأسباب لكثرة عند أرسطو: من الفاعل الواحد هي الثلاثة الأسباب، ورجوعها الى الواحد هو بالمعفى المتقدم، أي كون الواحد سبب الكثرة.

والاختلاف فيما يقع دون فلك القمر يرجع الى الأسباب الأربعة: اختلاف الفاعلين، واختلاف المواد، واختلاف الآلات، وكون الأفعال تقع من الفاعل لأول بواسطة غيره، وهذا كأنه قريب من الآلات.

وبهذا يطرح ابن رشد المبدأ القائل بأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، ويؤكد أن الواحد يمكن أن تصدر عنه كثرة، ومرجع هذه الكثرة الى اختلاف المواد، أو لصور، أو الآلات أو القرب والبعد من الفاعل الواحد.

ويتبين من هذا كله أن ابن رشد أدرك أن النظام الذي تصوره الفارابي وفي اثره ابن سينا، نظام الصدور، لم يقل به أرسطو ولا مشاهير المشاثين القدماء واذا كان فورفوريوسقد قال به فهو لأنه لم يكن من حذاق المشائين، ولو كان على علم أوفى بحال فورفوريوس لقال انه ليس من امشائين أصلاً بل هو أفلوطيني.

واذا كان ابن رشد قد قال مع ذلك بنظرية عقول الأفلاك، فهو في هذا إنما يحذو حذو أرسطو نفسه في الفصل الثامن من مقالة «اللام» من كتاب ما بعد الطبيعة.

السياسة

أما آراء ابن رشد في فلسفة السياسة فيمكن ان نتلمسها في كتابين من كتبه: الأول هو تلخيصه لكتاب «السياسة» لأفلاطون، والثاني مواضع متفرقة من تلخيصه لكتاب «الخطابة» لأرسطو.

وللأسف الشديد لم نعثر حتى الآن على الأصل العربي لتلخيص ابن رشد لكتاب «السياسة» (المعروف خطأ باسم «الجمهورية») لأفلاطون، ولكنه كان موجوداً في مكتبة الاسكوريال الى سنة ١٦٧١ حين احترقت وعنوانه بحسب فهرست مكتبة الاسكوريال القديم: « أفلاطون في الثلاثة المنسوبة إليه في السياسة المدنية، تلخيص أبي الوليد ابن رشد» .

ولكن بقيت لنا الترجمة اللاتينية والترجمة العبرية. وهذه الأخيرة نشرها أرفن روزنتال مع ترجمة نجليزية.

وعلى عكس ما زعم روزنتال يتبين من هذا التلخيص أن ابن رشد رجع مباشرة الى نص الترجمة العربية القديمة التي قام جها حنين بن اسحق (راجع ابن النديم: «الفهرست» ص ٢٤٦، نشرة فلوجل) لا الى تلخيص جالينوس، بدليل أنه يتهم جالينوس بسوء فهم أفلاطون.

كذلك استعان ابن رشد بكتاب «النواميس» لأفلاطون. لكننا لا نستطيع أن نقرر بالدقة إذا كان اعتمد على تلخيص الفارابي للنواميس أو على تلخيص جالينوس الذي ترجمه حنين بن اسحق.

ويحاول ابن رشد فيما يسوقه من أمثلة عربية اسلامية ان يقدم الشواهد لتطبيق ما يقوله افلاطون من آراء. فهو يذكر مثلا ما فعله ابن غانية (ص ٢٣٤ - ٢٣٥ من الترجمة اانكليزية).

وفي هذا التلخيص يستوفي ابن رشد ما ذكره أفلاطون من آراء في المقالات من الثانية الى التاسعة من كتاب «السياسة». أما المقالة العاشرة فيقول عنها ابن رشد انها ليست ضرورية لعلم السياسة، كما أنها أسطورية. ويلاحظ من كلامه عن المقالة العاشرة ما يلي :

١- انه لا يقيم وزناً للحجج الخطاية التي يسوقها أفلاطون.

٢- انه يطرح الأساطير الأفلاطونية، ويشير الى أسطورة «أر» Er التي يحكيها أفلاطون في المقالة العاشرة من «السياسة» (ص ٦١٤ أ - ٦٢١ ب) وتتعلق بمصير النفوس في العالم الآخر. ويشير الى اختلاف آراء القدماء في هذا الموضوع.

٣- كذلك لا يقيم ان رشد وزناً للبرهان على خلود النفس الذي ساقه أفلاطون في المقالة العاشرة هذه .

وبالجملة فإن تلخيص ابن رشد لكتاب «السياسة» لأفلاطون يدل على فهم دقيق، وعلى اطلاع واسع على النظم السياسية اليونانية، لا نجد له نظيرا في الدقة ولا حتى عند الفارابي. وقد توطدت هذه المعرفة بالنظم السياسية اليوناتية عن طريق تلخيصه لكتاب «الخطابة» لأرسطو. وفي كلا التلخيصين الدليل القاطع على معرفة الفلاسفة الاسلاميين بالنظم السياسية اليونانية، ويتميز ابن رشد بانه حاول أن يجد شواهد عليها - رغم الفارق العظيم في الأساس - في نظم الحكم القائمة في الدول الاسلامية المعاصرة منها والسابقة.

خاتمة

ظفر ابن رشد في العصر الوسيط وأوائل العصر الحديث بشهرة لم يحظ بمثلها ولا بقريب منها أي فيلسوف اسلامي آخر، حتى عند الممثل الحقيقي للفلسفة الاسلامية بعامة. ومنذ أن ترجم مؤلفاته الى اللاتينية ميخائيل اسكوت ابتداء من سنة ١٢٣٠، وهرمن الالماني، وكلاهما عاش في بلاط آل هوهنشتاوفن في صقلية، وفلاسفة أوروبا اللاتينية في القرن الثالث عشر يقرنون ابن رشد بأرسطو ايجابياً وسلباً، أي اعتناقاً وتفنيداً. وقد كان القديس توما الاكويني (١٢٢٥ - ١٢٧٤ م) أكبر خصم، وفي الوقت نفسه أكبر مستفيد من ابن رشد ومؤلفاته وشروحه. وقد كرس للرد عليه رسالة مشهورة بعنوان: «في وحدة العقل، ضد ابن رشد» . ومن ثم صار أتباع الطريقة الدومينيكانية ألد أعداء ابن رشد. واشتدت الحملة بعد ذلك على ابن رشد بوصفه الممثل الأكبر للفلسفة الاسلامية، وكان أصخب حاملي لوائها ريمون لول (١٢٣٥-١٣١٥ م).

وفي مقابل ذلك نجد روجر بيكون شديد الاعجاب بابن رشد. وعلى الرغم من الادانات المتوالية من السلطات الدينية المشرفة على جامعة باريس في سنة ١٢٧١ وسنة ١٢٧٧ خصوصاً، فقد ظلت مؤلفات وشروح بن رشد تحظى بعناية وافرة لدى المشتغلين بالفلسفة في أوروبا في النصف الثاني من القرن الثالث عشر. وعبثاً صنعت الأساطير والأكاذيب حول حقيقة موقف ابن رشد من الدين، فقد ظلت الرشدية تشق طريقها المظفر في جامعات اوروبا كلها، خصوصاً الجامعات الايطالية، وعلى رأسها جامعة بادوفا (في شمال شرقي ايطاليا بجوار فينيسيا) في القرن الرابع عشر وما تلاه حتى القرن السادس عشر، بفضل جان دي جاندان Jean de Jandun وبولس البندقي Paul de Venise (المتوفى سنة ١٤٢٩) وجايتانو دي تيينا Gaetano de Tiene (١٣٨٧ - ١٤٦٥)؛ ومن ثم أصبح ان رشد يعد «سيد العلماء» في بادوفا، حتى قال عنه ميكائيل سافونا رولا في سنة ١٤٤٠ انه «ملك العبقرية الإلهية التي شرحت كل مؤلفات أرسطو».

ذلك أن فلاسفة العصور الوسطى الأوروبية وجدوا فيه خير شارح لمرلفات أرسطو؛ كما وجدوا في كتابه «تهافت التهافت» أقوى مدافع عن الفلسفة ضد خصومها من رجال الدين.

واذا كان ابن رشد لم يشيد مذهباً فلسفياً قائما برأسه، فقد كان بهاتين المثابتين صاحب فضل على الفلسفة أكبر من كثير ممن تنسب اليهم مذاهب فلسفية مستقلة.