شر
مصطلح الشر هو مصطلح يُقصد به في الدين وفي الأخلاقيات الجوانب السلبية في تفكير بني البشر وسلوكهم، وهو يتطرق إلى أولئك الذين يكفرون عمدا بضميرهم ويُظهرون رغبة في التدمير. تستخدم الكلمة في كثير من الثقافات لوصف الأعمال والأفكار التي تتطلع (بشكل مباشر أو غير مباشر) إلى التسبب بالمعاناة أو بالموت. يختلف تعريف الشر من ثقافة إلى أخرى.
التفرع بين «الخير» و«الشر» المناوئ له موجود في العديد من الثقافات. وهو يشتمل على تدرج هرمي مؤلف من قيم ومعايير أخلاقية تحدد سلوك بني البشر.
الشر في الدين
تنظر بعض الديانات إلى الإنسان باعتباره شريرا في طبعه، وأهم صفاته وخصاله الطبيعية عزة النفس والأنانية (وهما تعتبران ميلا سلبيا) مع ان بمقدوره التحكم بهما. وفي تقاليد أخرى يعتبر بنو البشر أخيارا بطبعهم غير أن الشر يغويهم فيبعدهم عن الوضع الطبيعي. قد يتجسد الشر على شكل الشخصية التي تجسده، كالشيطان مثلا.
في اليهودية والمسيحية
يرتبط الشر في التوراة بمصطلح الخطيئة، ويرتبط مصطلح «الخطيئة» بـ«إخطاء الهدف». يعتبر الإنسان ذا غريزة طبيعية تدفعه به إلى فعل الشر («غريزة الشر») وهي غريزة عليه التغلب عليها وكبحها. يُعزى الشر في اليهودية والمسيحية إلى جوانب السلوك البشري المخالفة للوصايا العشر(الحرية التي منحها الله للإنسان). وهكذا فإن الشر شبيه بعدم الانصياع: الفرائض تبين ما هو المسموح وما هو الممنوع. الشر هو خرق أوامر الرب بسبب قلة الإيمان والانقطاع عنه. وهو من الناحية الاجتماعية يمثل الضعف والسلوك الهدام الذي يقود مباشرة إلى حياة الفوضى.
يوصف الشيطان في اللغات العبرية والآرامية واليونانية بتعابير مثل: الشيطان، الخصم، المتهم الكاذب، المسيء، المزور، الكاذب، القاتل، الأفعى، المغوي والأسد الذي يكمن للفريسة. وقد يكون الشر شبحا أو جنا يسيطر على بني البشر أو على الحيوانات.
هناك فرق دينية مسيحية لا تشخص الشر بواسطة الشيطان بل تنظر إلى القلب البشري على أنه يميل بطبيعته إلى الخداع غير أنها تلقي بالمسئولية عن خياراته على الإنسان.
على خلاف اليهودية والمسيحية هناك عقائد ونظريات فلسفية لا يوجد فيها سبب أو معنى للشر. قصة أيوب الواردة في الكتاب المقدس هي مثال للشر الذي يمكن اعتباره عشوائيا. يرى التفسير المسيحي في الشر نتيجة للخطيئة أو لعدم الوفاء بمطالب الرب، وجزاؤه هو الهدم.
في الغنوصية (العارفية) وزارداشت
كان لدى الفرق الغنوصية في مطلع الديانة المسيحية تقسيم بين الإله الخيّر والإله الشرير، وكان في مفهومهم إله التوراة والفرائض. ويمكن إيجاد هذا التقسيم ذاته في الديانة الفارسية («زارداشت») العالم هو معركة بين الله الخيّر (أهورا- مازدا)، والله الشرير (أهريمان).
تعريف الشر- عالمي أم هو متعلق بالثقافة؟
يستخدم المجتمع الغربي مصطلح الشر باعتباره نوعا من مؤشرات الجريمة والقسوة أو التعفن الأخلاقي.
هناك من يرى في السلوك الجنسي المثلي أو في الإجهاض نوعا من الشر. وجهة النظر هذه تميز (مع انها ليست خاصة) المفاهيم الدينية أو المحافظة. ففي إسرائيل والولايات المتحدة مثلا يوجد خلاف اجتماعي حول أخلاقية هذه الظواهر.
كثيرون في المجتمع الغربي منقسمون في وجهات نظرهم حول الأخلاقية بين الطريقتين. فنظرية «الأخلاق المطلقة» من جهة ترى أن الخير والشر هما كيانان ثابتان نابعان من الرب، ومن الكون، أو من مرجعية معينة أخرى، ومن جهة أخرى هناك الأخلاقي النسبي، وهو مفهوم يرى أن الخير والشر هما نتاج ثقافي. الأخلاقية العالمية هي مصطلح إنساني وليد العصر الحديث، الحل الوسط بين الأخلاقية المطلقة غير القابلة للتحقيق وبين وجهة النظر النسبية.
هناك تعريف آخر للشر يرى فيه موت أو معاناة نابعة من أسباب إنسانية أو من أسباب طبيعية أخرى (كالهزات الأرضية والمجاعة مثلا). أي أن الشر ليس غاية فقط بل هو النتيجة النهائية أيضا.
رأى أفلاطون أن هناك طرقا قليلة لعمل الخير غير أن هناك طرقا لا تحصى لعمل الشر، ومن هنا فإن الشر قد يكون له تأثير أكبر على حياتنا. ولذلك هناك فلاسفة (مثل برنارد غارث) يرون أن منع الشر أهم من دفع الخير بواسطة صياغة قوانين أخلاقية وقواعد سلوكية.
يعرّف البعض الشر على أنه ليس مجرد معاناة أو عذاب يتسبب به شخص ما بل هو القيام بعمل ما لأسباب أنانية فقط (أي تحقيق القوة أو السعادة) أو السادية. يؤمن أصحاب هذا التعريف للشر أن الإنسان الذي يقوم بعمل شرير من الناحية الأخلاقية ولكنه لا يؤمن حقا بأن «الغاية تبرر الوسيلة» لا يعتبر إنسانا شريرا.
موقف «الغاية تبرر الوسيلة» يبرر للوهلة الأولى التسبب بالمعاناة بغية دفع غاية تعتبر مبررة.
توجد في العديد من الثقافات عقائد ثابتة بالنسبة لأمور وأعمال وأفكار غير مرغوب فيها. وفي بعض الثقافات تندرج الظروف غير المرغوب فيها ضمن فئة الشر. الموت غير الطبيعي، المرض، والكوارث الأخرى قد تعتبر شرا. ويُنظر إلى هذه الحالات في ثقافات أخرى على أنها جزء سليم من النظام الطبيعي.
العنف والغش، أو السلوكيات الهدامة الأخرى تجاه الغير، تعتبر كلها شريرة أو جيدة بموجب الظروف. الحرب هي مثال على ذلك، وهكذا يُعنى بمقولة «الله يقف إلى جانب المنتصرين».
أهم السلوكيات غير الأخلاقية مصنفة من الجرائم الصغيرة إلى الجرائم الكبيرة. يتجسد مفهوم تصنيف مجتمع ما لهذه الجرائم من خلال قوانينه وأنظمة القضاء والعقوبات فيه.
هل الشر هو مصطلح عملي؟
يثير تعريف الشر انقساما، وهكذا هو الحال بالنسبة لمصطلح الإرهاب أيضا. هناك رأي يقول إن هذه مصطلحات ذاتية لأن من يُعرّف على أنه إرهابي قد يكون مقاتلا في سبيل الحرية. يستغل بعض الناس أو الجماعات هذه الطريقة في كثير من الأحيان في مقارعتهم لأعدائهم، وبخاصة لإثارة ردود فعل عاطفية قوية ضد الأشخاص أو الجماعات. على سبيل المثال، فقد طرح هذا الرأي منتقدو رئيس الولايات المتحدة الأميركية جورج بوش بشأن وصم بعض الدول، مثل كوريا الشمالية والعراق وإيران بأنها جزء من «محور الشر».
يرفض كثيرون من النقاد الاستخدام الشامل لمصطلح الشر بدعوى أن استخدامه يتجاهل الدوافع التي أدت إلى انتهاج السلوكيات التي يصفها. وبموجب وجهة النظر هذه ليس من المناسب تطبيق هذا المصطلح على كل عمل تقريبا يكون ذا معنى كبير يتجسد بالعنف كالأعمال الإرهابية والإبادة الجماعية. وبناء عليها يجب أن يقتصر تعريف الأشرار على الأشخاص الذين تدفعهم السادية والرغبة في القوة أو الجشع (بصيغ كثيرة). هذا لا يعني طبعا أن أعمال العنف، كالإرهاب والقتل هي مقبولة، بل أنه يجب عدم تصنيف منفذهاً بشكل مباشر كشرير
هناك رأي يقول إن من المفضل الامتناع كليا عن استخدام مصطلح «الشر» في النقاشات السياسية لأن هناك ميلا إلى اعتباره نابعا من الدين، وهذا يعني انتهاج طريقة تعامل متطرفة بعيدة عن التسامح تجاه الطرف المضاد.
التعريف العلمي
جرى بحث الشر في العلوم الاجتماعية في إطار نظريات مختلفة كعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم النفس الطبي والعلوم المعرفية.
يتجسد الشر في نوع شخصية غير اجتماعية أو المريضة نفسيا. يمتاز المريض نفسيا بالسلوك المتطرف، وبعدم الضمير، أو عدم القدرة على إبداء التعاطف، وكبح جماح النفس، أو الإحساس بالندم، بسبب ضرر تسبب به للآخرين.
الشر في مجال الأعمال
ينسب الشر في مجال الأعمال إلى السلوك غير النزيه. ومن الأمثلة المعروفة لذلك مكان العمل الاستغلالي والاحتكاري، غير أن مصطلح «الشر» بات أكثر انتشارا في الآونة الأخيرة، ولا سيما في الصناعات التكنولوجية والملكية الفكرية. وكرد فعل على ذلك هناك مجتمعات تؤكد معارضتها للشر في مجال الأعمال. شعار «غوغل» هو «لا تكونوا أشرارا» ("Don't Be Evil")، كرد فعل على الانتقادات الكثيرة على الشركات التكنولوجية مثل مايكروسوفت وأمريكا أون لاين. أما شعار ماغنا تيوان، شركة تسجيلات مستقلة، فهو «نحن لسنا أشراراً»، بالنسبة للأشرار كما تزعم رابطة صناعة التسجيلات الأمريكية.
اقرأ أيضًا
الشر
«الشر» من المعاني المشتركة، أعني المتعددة المدلولات، والصعبة التحديد. ولهذا نبدأ بإيراد بعض التعريفات:
أ - معجم لالاند يعرفه كما يلي: «بالمعنى العام: الشر هو كل ما هو موضوع للاستهجان أو اللوم، وكل ما هو بحيث يكون للإرادة الحق في معارضته شرعيا، وتعيره كلما كان ذلك ممكنا».
ب - ومعجم بولدون ربطه بنقيضه وهو الخير فيقول إن الشر «هو ما يضاد الخير أو حسن الحال. وتصنيف الشرور يتبع تصنيف الخيرات إلى ما هو عقلي (أو نفسي)، وما هو جسماني، وما هو خارجي؛ أو على نحو أكثر تأصيلاً في أنه: ما هو طبيعي وما هو أخلاقي، أي إلى ماهو مستقل عن الإرادة، وما هو متوقف على لإرادة. والأخلاق تعنى بهذا القسم الثاني، أعني التمييز بين الشز الأخلاقي والخير الأخلاقي، وبالأساس النهائي والأحوال التي فيها يمكن التغلب على الشر وتحصيل الخير. وثم مسائل أخرى خاصة بالشر تتناول طبيعته النفسية: هل هو الألم أو الميل إلى الألم؛ وما هي حقيقته النهائية: هل هو إيجابي، أو هو مجرد سلب الواقع الذي هو خير، أو هو أمر ظاهري فحسب أو شانه شأن الخير، امر غائص في المطلق»
وكلاهما يورد تقسيم ليبنتس Leibniz في قوله: «يمكن أن تفهم الشر بثلاثة معان: الشز الميتافيزيقي،
الشر الفزيائي، الشر الأخلاقي. فالشر الميتافيزيقي يقوم في مجرد النقص، والشر الفزيائي في الألم، والشر الأخلاقي في الخطيئةة (ليبنتس: «قول في العدالة الإلهية» Théodicée، القسم لأول، بند ٢١)
ولنأخذ في استعراض تصورات بني الإنسان للشر:
أ- إما في الأديان، فإننا نجد أن الأديان التشبيهية قد قسمت الآلهة إلى آلهة خير، وآلهة شر. فعند المصريين القدماء كان إله الشر هو سخمت، وفي المجوسية الفارسية كان إله الشر هو آهورمن؛ وعند الجرمان القدماء كان إله الشر يسمى لوكي Loki ٠ وكل واحد منهم كان ينظر إليه على أنه كائن موجود بذاته في مضادة إله الخير؛ وأنه يفعل الشر تلقائياً. ولهذا كان على الإنسان أن يسترضيه حتى لا يصيبه بالشر، وذلك بتقديم القرابين والأضاحي التي لم تقتصر على الحيوان، بل امتدت أيضاً إلى الأطفال والكبار من بني الإنسان والأديان التي تقتصر على هذين المبدأين: إله الخير وإله الشر - تسمى أدياناً مثنوية، ومن أبرز أمثلتها : الزرادشتية، وخليفتها المانوية . والمئنويه تختلف إذن عن أديان الشرك المتعددة، كما هي الحال في الديانة اليونانية، كما تختلف عن الأديان القائلة بأن الوجود - بما هو وجود -شر مطلق، ومثالها : البوذية التي ترى أن الوجود - أو الحيام - بما هو وجود (أو حياة) شر في ذاته.
ب - مشكلة الشر في الفلسفة اليونانية:
أما في الفلسفة، فتتوالى لآراء في الشر ابتداء من بداية الفلسفة اليونانية فنجد فيثاغورس يقسم العدد إلى آحاد وثناء (مثنى) : فالآحاد هو مبدأ النظام الروحاني،
الشر
والثناء (المثنى) هو مبدأ الانقسام، واللامعقول والشر: -وعند هرقليطس أن الخير والشر أمران نسبيان، لا يوجد أحدهما إلاً بوجود الآخر ولا يفهم إلا بالنسبة إليه: فكما أن العالي والسفلي معنيان نسبيان، فكذلك الخير والشر أمران نسبيان. ومنيدس يرى أن الوجود هو الخير؛ أما الشر فأمر ظاهري صرف ٠ وعند امبازقليس أن الخير والشر يتصارعان فيما بينهما، وهما يصدران عن مبدأين متعارضين هما: المحبة والكراهية لكن الصراع بينهما سينتهي بانتصار الخير. وعند ديمقريطس أن الخير والشر كليهما ناتج عن صدفة اللقاء بين الذرات وعند السوفسطائية أن الخير هو النافع والشر هو الضار؛ والمعيار الوحيد في التمييز بينهما هو اللذة : فما يحقق اللذة هو الخير، وما يجلب لألم هو الشر، وكلاهما بالمعنى الحسي الخالص .
أما سقراط فقد رأى أن الشر ينشأ عن الجهل. وا أحد يرتكب الخطيثة أو الشر وهو عالم بأنه شر.
أما أفلاطون فقرر أن الشر يكون قسماً من الوجود الواقعي، هوالمتعدد والمحسوس، والظاهري، واللاوجود. فالشر إذن موجود، ويحاول أفلاطون تبرير وجوده في مواجهة مبدأ الخير فيقول إن الشر يصدر عن المادة وعن طبيعة ما هو جسماني،. وعن عدم التحديد والتعين، وعن الإضطراب في النظام ولا يمكن أن يكون الله هو فاعل الشر. يقول أفلاطون: «إن الله، لأنه هو الخير، لا يمكن أن يكون علة الشر، وليس هو علة كل شيء كما يقول العامة، وفيما يتعلق ببنى الإنسان فإن الله علة لأحداث قليلة، وليس علة لأمور كثيرة، لأن شرورنا أكثر من أفعالن الخيرة» (محاورة «السياسة» ٣٧٩ح).
وليس لأرسطو رأي واضح في معنى الشر. فهو أحياناً يربطه بالهيولي، وأحياناً أخرى يربطه بالإفراط والتفريط في الأعمال الأخلاقية تبعاً لنظريتة في الفضيلة وهي أنها وسط بين شرين ويكاديومىء إلى أن الشرهو عدم وسلب.
وعلى عكس ذلك نجد أبيقور ] فهو يقرر صراحة أن الشر إيجابي ويسود عالم الوجود، ووجود الشر في الكون يدل على أن الآلهة لا يعنون بالعالم يقول
أبيقور: «إما أن الله يريد زوال الشر ولكنه لا يقدر على ذلك؛ وإما أنه يقدر على ذلك ولكنه لا يريد ذلك، وإما أنه لا يريد ولا يقدر، وإما أنه يريد ويقدر. فإن كان يريد ولا يقدر فهو عاجز؛ وإن كان يقدر ولا يريد فهو حاسد؛ وإن كان لا يريد ولا يقدر فهو حاسد وعاجز؛ وإن كان يريد ويقدر، فلماذا وجدت الشرور» (شذرات الأبيقوريين«، نشرة أوزنرحعا، الشذرة رقم ٣٧٤). وعلاجاً لهذا يرى أبيقور أن على الحكيم ألا يخشى الآلهة وألا يخاف من الموت، لأن النفس فانية وما بعد الموت لا يعنينا بعد. وما على الحكيم إلا أن ينشد الطمأنينة وأن يتجنب الانفعالات الوجدانية. ذلك لأن السعادة والنعيم لا يكفلهما كمية الثروة، ولا كثرة الأشياء ، وا أي منصب أو سلطة، بل يكفلهما الخلو من الألم، وحلاوة المشاعر، والاستعداد النفسي الذي يبقى في نطاق الحدود التي أرادتها الطبيعة» (الشذرة رقم ٥٤٨، نثرة ععا).
واتخذت الرواقية موقفاً فريداً٠ فهي تقول إن الشر لا يوجد إلا في الجزئيات، أما فى الكل فهو غير موجود، لأن الكل بماهوكل هوخير وعلى الحكيم إذن أن يتبع الكل، ولا يحفل بالجزئيات، ولهذا فإن الألم و«الموت غير موجودين بالنسبة إليه وحتى لو وضع في جوف ثور فالاريس» (وهو جوف تتأجج فيه النيران) فإنه سيشعر كما لو كان راقدا في سريره الوثير! ! (شيشرون : «التسكلانيات) ٢: ١٨) ولهذا ينبغى على الإنسان أن يرضى بكل ما يحدث له بوصفه أمراً معقولاً مقبولاً وفي هذا يقول الأمبراطور الروماني الرواقي النزعة، ماركس أورليوس: «تقبل عن طيب خاطر، مهما يكن قاسياً، كل ما يحدث، معتبراً أنه يؤدي إلى سلامة العالم وإلى نجاح مقاصد (رب الآلهة) جوبيتر، لأنه لم يكن ليحدث لأحد إن لم يكن ملائماً للكل» (ماركس أورليوس: «التأملات» ه: ٨).
وجاء أفلوطين، فربط الشر بالمادة، وهذه المادة عدم ولا وجود («التساعات»، التساع الأول: ٨: ٣>. ورأى أن الشر الأخلاقي راجع إلى تغلب الجزء الناقص في الإنسان على سائر الأجزاء (التساع الأول: ١ : ٩>. ويمضي إلى أبعد من هذا فيقول إن الشر يسهم في إكمال العالم (التساع الثاني: ١٨:٣)، إن الشر هو عدم الصورة، والخلو من الخير؛ فهو سلب محض، بينما الخير هو وحده الإيجابي.
ح - مشكلة الشر في الفكر المسيحي:
وجاءت المسيحية فقررت أن كل شيء يأتي من اله؛ ولا يوجد إذن هيولي أزلية عنها يصدر الشر . ولا مدخل للهيولي إذن فيما في العالم من شرور. بلكل شر إنما يصدر عن إرادة الإنسان فهو الذي يختار الشر، كما يختار الخير. والشر إنما ينتج عن إساءة استعمال الإنسان لحريتهفي الاختيار(لاكتانس: «النظام الإلهي"، ٢: ٩) إن الشر لا يصدر عن الله، بل يصدر عن الإنسان وحده (كليمانس الاسكتلندي: 13 ,Stromata IV) إن الشر هو مجرد انعدام الخير. (أوريجانس: شرج على أنجيل يوحنا ٢: ٧؛ «ضد كلسوس» ٥٣:٦). إن الشر سلب محض، وانعدام للنور، وظلمة (جريجوريوس النوساوي: «قولة في الوعظ» V).
وأكثر المفكرين المسيحيين اهتماماً بمشكلة الشز في عصر الآباء هو أوغسطين. وهو يميز بين نوعين من الشر، الشر الأخلاقي، والشر الفزيائي. وعنده أن الشر الميتافيزيقي، وهو الناجم عن الفارق بين الخالق والمخلوق، هو في رأيه خير أما الشر الأخلاقي، أو ا لخطيئة فليس من صنع ا شه، بل من صنع الإرادة ا لإنسا نية التي تستطيع الاختيار بين الخير والشر، وأما الشر الفزيائي فهو يعكس العدالة الإلهية، من حيث أنه عقاب للإنسان عن خطيئتة الأولى. سوى هذه الأنواع الثلاثة لا يوجد الشر إلا بوصفه الخلو من الخير، إنه مجرد عدم للوجود. (راجع لأوغسطين: «الاعترافات» ٧: ١٢، «مدينة اله» ١١: ٢٢، ١٢: ٤-٦؛ «في النظام» ٢: ١، ٢؛ ٢: ١٢؛ فيحرية الإرادة» ٢م ٥٣؛ ٣: ٤٤). إن الشر الأخلاقي - أو الخطيئة - ليس جوهراً قائماً بذاته، بل هو عرض في الموجود الحر؛ وينبغي ألا ينظر إليه إلا على أنه اضطراب واختلال، وعدم توافق بين الممارسة الشرعية لهذه الإرادة الحرة وبين الإنسان نفسه (»في حرية الإرادة» ١: ١: فصل ١). والإرادة من صنع الله، لأن الإنسان تلقاها مع الحياة. والإرادة الشريرة الأولى - تلك التي، في الإنسان، ستبعث الأعمال السينة ليست عملاً بقدر ما هي ابتعاد عن أعمال الله للاقتراب من أعمال الإنسان. وهذه الأعمال سيثة من حيث أن غايتها ليست
الله، بل الإرادة نفسها. وفي الفصل الثاني عشر من «مدينة الله» نجد عرضاً واضحاً مفصلاً لمسألة : أصل الشر يقول أوغسطين: «ابحث عن العلة الفاعلية في الإرادة السينة، فإنك لا تجدها. إن هذه العلة ليست فاعلية، بل عدمية؛ إنها ليست فاعلة، بل هي عديمة الفعل، لأن الانحطاط مما هو خير إلى ما هو أقل من ذلك (وهذا هو المعنى الحقيقي للخطيئة) هو الابتداء في امتلاك إرادة سيئة«.
ولا بد من الوصول إلى القديس توما الأكويني لتجد لدى المفكرين المسيحيين شيئاً جديداً غير ما قاله أوغسطين. تناول توما الأكويني مسألة الشر في شرحه على كتاب الأقوال لبطرس اللومباردي (التمييز ٣٤ وه ٣)، وفي «الخلاصة اللاهوتية» (القسم الأول، المسألة رقم ٤٨، ٤٩)، وفي الفصول الأولى من الكتاب الثالث من «الخلاصة ضد الكفار» ويطول بنا القول لو تتبعنا أقواله في هذه المواضع، ولهذا نجتزى ء بإيراد قوله: «لا شيء يمكن أن يكون بذاته (في جوهره) شرأ. فقد تبرهن أن كل موجود. بما هو موجود، هو خير، وأن الشز ليس إلا موجوداً في الخير كأنه موجود في كيانه الذاتي. - - ولا يمكن أن يقال عن شيء إنه شرعن طريق المشاركة، وإنما فقط عن طريق عدم المشاركة (في الخير)، ولهذا ينبغي ألا تصعد إلى شيء هو شر في جوهره» (»الخلاصة اللاهوتية» الكتاب الأول، المسألة ٤١،مادة٣)
د - مشكلة الشر في العصر الحديث:
وفي العصر الحديث نلتقى أولاً باسبينوزا فنجده يقرر أن الشر، شأنه شان الخير، ليست له أية حقيقة ذاتية، إنه فقط مجرد تصور عقلي modus cogitandi، صادق بالنسبة إلى الإنسان وحده، لكنه غير موجود في الواقع يقول اسبينوزا: إن الخيروالشر لايدان على شيء إيجابي في الأشياء الواقعية منظوراً إليها في ذاتها، وليسا إلاً حالين من أحوال الفكر أو تصورين نحن نتصورهما حين نقارن بين الأشياء بعضها وبعض. والواقع هو أن الشيء الواحد يمكن أن يكون خيراً أو شراً في نفس الوقت، أو لا هذا ولا ذاك» (الأخلاق، القسم الرابع، المقدمة). ويقول في موضع آخر؟ «نحن نسمي شراً الأمر الذي نكرهه - وذلك بحسب ما يشعر به
الشر
الشخص الذي يحكم على الشيء أنه حسن، أو سيء، أو أحسن، أو أسوأ، أو هو الأحسن أو الأسوأ» («الأخلاق» القسم الثالث) وعلى الحكيم ألا ينجر وراء هذه الوجدانات : بل عليه أن يبقى ناصعاً هادئاً بعيداً عن الفرح أو الشكوى، عليه ألا ينفعل وألآ يكره؛ وعليه فقط أن يتعقل ويتأمل، ويعرف. وإذن الشز لا يوجد في ذاته، بل هو أمر نسبي فقط، ونحن الذين ننعت شيئاً ما بأنه شر.
وهوبز يسير في نفس الاتجاه؛ فهو يقول: «كل إنسان يسمى خيراً ما هو ملائم له هو، ويسمى شزاً ما لا يسره» («الطبيعة الإنسانية» ٨: ٣)
أما الذي توسع في هذا الموضوع من بين الفلاسفة المحدثين فهو ليبنتس، وذلك في كتابه: «في العدالة الإلهية» Theodicea (هذا اللفظ مؤلف من كلمتين يونانيتين؟ Theos = الله ه dike = العدالة).
يميز ليبنتس بين ثلاثة أنواع من الشر؟ الشر الميتافيزيقي، الشر الفزيائي، الشر الأخلاقي. فالشر الميتافيزيقي (وليبنتس هو أول من استعمل هذا التعبير) هوم «المحدودية الأصلية التي فرضت على الخليقة منذ بدء وجودها للأسباب المثالية التي تحذها» («في العدالة الإلهية» الجزء الأول، بند ٣١). ولهذا فإن الشر لا ينفصل عن حال الخليقة، لأن الله لم يكن له أن يعطيها كل شيء، وإلا لكانت هي الله نفسه. فكان لزاماً إذن أن توجد درجات متفاوتة من الكمال في الأشياء، وأن تكون هناك حدود من كل نوع» ٠ إن الشر هو عدم في الوجود، بينما فعل الله إيجابي. والشر الميتافيزيقي هو الأساس في كل أفعال المخلوقات. والكمال في فعل المخلوقات يصدر عن الله، أما التحديدات الموجودة في أفعال المخلوقات فهي ناتجة عن التحديد (القصور) الأصلي والتحديدات اللاحقة في الخليقة.
أما الشر الفزيائي والشر الأخلاقي فيفسرهما ليبنتس بقوله إنهما ظاهريان فقط، ويرجع هذا إلى وجهة نظرنا نحن، التي تحول بيننا وبين رؤية الكل - ويقرر صراحة أن من المستحيل علينا أن نبين بالتفصيل كيف أن الشر يتفق مع النموذج الأحسن الممكن للكون يقول: «في كل مرة نشاهد في موضوعات الكون شيناً بكامله، فإننا نتعجب من النظام الذي يسود فيه. لكن حينما لا نتأمل
إلا القطع المتناثرة، فليس لنا أن نتعجب من عدم وجود النظام فيها إن نظام كواكبنا يؤلف مثل هذا العمل: الكامل حينما ننظر إليه على حدة. وكل نبتة، وكل حيوان، وكل إنسان يقدم مثالاً على هذا أيضاً، إلى درجة معينة من الكمال : ففيه نتعرف العمل الرائع الذي صنعه الصانع؛ لكن الجنس الإنساني، من حيث هو معروف لنا، ليس إلا شذرة، وقطعة صغيرة من مدينة الشه أو من جمهورية لأرواح ٠ إن مدينة الل واسعة جداً بالنسبة إلينا، ونحن لا نعرف عنها إلا القليل جداً، مما لا يسمح لنا بإدراك نظامها الرائع» («العدالة الإلهية»، القسم الثاني، بند٤٥.
ويفسر ليينتس وجود الشر من ناحية أخرى، فيقول إنه راجع إلى حرية الإرادة في الإنسان. إن الله «ترك الإنسان يفعل ما يشاء في عالمه الصغير. . . إنه لا يدخل فيه إلا بطريقة خفية، لأنه أعطى الوجود، والقوة، والحياة، والعقل دون أن يظهر هو وهناك تلعب حرية الإرادة لعبتها، ويلعب الله إن صح هذا التعبير - بهؤلاء الآلهة الصغار . . والإنسان يفعل هناك ما هو عجيب أحياناً، ولكنه يفعل أيضاً أخطاء فاحشة كبيرة. واله، بفن عجيب، يحول كل نقائص هذه العوالم الصغيرة إلى أكبر زينة، لعالمه الكبير. والأمر هاهنا شبيه بما يحدث في بعض اختراعات المنظور، التي فيها بعض الرسوم الجميلة لا تبدو إلآكتشويه إلى أن نرد إلى وجهة النظر الصحيحة، أو يشاهد بواسطة منظار أو مرآة خاصة. بوضعها في الوضع السليم يمكن أن تصير زينة لغرفة. وهكذا فإن التشويهات الظاهرية في عوالمنا الصغيرة تتجمع لتكون أشياء جميلة في العالم الكبير وليس فيها ما يتعارض مع وحدة مبدأ كلي كامل كمالا لا نهاية له بل الأمر على العكس، إنها تزيد في عجائب الله التي تجعل الشر في خدمة خير أكبر» («العدالة الإلهية»، القسم الثاني، بند ١٤٧)،
وبالجملة، فإن ليبنتس لا ينكر وجود الشر في العالم؛ لكنه يحاول أن يبرهن على فائدة الشر في تحقيق الخير في العالم ولهذا فإنه يسمح بالشر ابتغاء الإفادة منهفيتحصيل الخير.
وعلى نقيض ليبنتس نجد آراء كنت Kant في الشر. فهو يؤكد أنه يوجد في النفس الإنسانية مبدآن
شمبرلن
متعارضان: مبدأ الخير، ومبدأ الشر. لكن الإنسان من حيث طبيعته الحيوانية (أنه كائن حي)، ومن حيث إنسانيته (أنه عاقل)، ومن حيث شخصيته (أنه كائن حر) فإنه مستعد للخير. وهو في نفس الوقت مستعد للشر لصفات ثلاث كائنة فيه هي الضعف، النجاسة، الخسة والفساد. ومن هنا جاء الشر الأصيل das radikale Böse. «إن الإنسان على وعي بالقانون الأخلاقي، لكنه اتخذ لنفسه مبدءاً هو البغد عن هذا القانون الأخلاقي» («الدين في داخل حدود العقل المحض). وهذا الشر أصيل لأنه يفسر أساس كل المبادىء الأخلاقية؛ ولا يمكن استئصاله بقدرة الإنسان.
ويرجع كنت هذه الشرارة (صفة: الشر) في الإنسان إلى كونه كائناً حسيا (أو حساسا)، بينما الخير مقرون بالصفة العقلية في الإنسان.
وأربى كثيراً على كنت في هذا الاتجاه: شوبنهور الذي دارت كل فلسفته على محور واحد هو أن العالم كله شر مطلق. إن الحياة - في نظر شوبنهور - ألم، وأكبر الشرور عند الإنسان هو أنه موجود. وهذا الشر يحيط بكل شيء في العالم، ولا سبيل إلى التخلص منه ٠ «فكل رغبة تنشا عن نقص، وعن عدم رضا بالحالة الراهنة؛ فكل رغبة إذن تؤدي إلى الألم إلى أن تشبع. والرغبة لا تنتهي أبداً؛ والإشباع لا يستمر بل هو بداية لرغبة جديدة». (شوبنهورم «العالم إرادة وامتثال»، قسم ١، بند ٥٦) ولمزيد من التفصيل، راجع كتابنا: "شوبنهور» (ط ١ ، القاهرة سنة ١٩٤٢) وخلاصة رأي شوبنهور هو أن هذا العالم - على النقيض تماماً مما قاله ليبنتس - هو أسوأ عالم ممكن.
ثم جاء كارل ماركس وسجموند فرويد فاكدا وجود الشر في المجتمع وفي نفس الإنسان؛ لقد وجد أولهما في انحلال المجتمع البورجوازي، وفي الصراع بين الطبقات، وفي تأثير الدين - دلائل قوية على تآصل الشر في المجتمعات الإنسانية ورأى فرويد ما يعج به اللاشعور من عوامل تدمير للنفس. واتفق كلاهما مع كنت وهوبز في القول بأنه نظراً إلى تجارب الإنسانية في تاريخها فإن جوهر الإنسان يتألف من غرائز مدمرة . وراح ماركس يتلمسها في المغايرة، واللإنسانية والظلم الاجتماعي، والأنانية، وهي المعاني الأساسية السائدة في
حياة بني الإنسان
ومشكلة الشر من المشاكل الرئيسية التي عنيت بها الوجودية. فعند كيركجور أن الشر الفزيائي عنصر أساسي في تركيب الوجود؛ وهو مرتبط بالحالة الزمانية للإنسان؛ أما الشر لأخلاقي فراجع إلى سوء استعمال الإراده... وعند هيدجر أن الشر ملازم بالضرورة للوجود، لأن الإنسان موجود - للموت، والوجود وجود - لفناء . وعند بسبرز أن الإخفاق ملازم بالضرورة للحياة الإنسانية وسارتر يقول إن الإنسان «وجدان لا فاثدة منه» ٠ وألبير كامي يقول «إن الوجود لا معقول» .