رثاء

الرِثاء هو تِعداد خِصال الميت مع التفجّع عليه والتأسّي والتعزّي بما كان يتصف به من صفات حسنة كالكرم والشجاعة والعفة والعدل والعقل ونصرة المظلوم.

ويتألف قِوامُ القصيدة الرثائية في الأغلب من عناصر أربعة ترد متراتبة على النحو التالي: الاستهلال وهو حتمية الموت ويليه العنصر الثاني وهو التفجّع ومن معانيه تحديد أسباب الفاجعة (كيف حصل موت المرثيّ) وزمانها ومكانها ثم إبراز تأثير الفاجعة في أهل المرثي وفي الراثي الشاعر ثم العنصر الثالث وهو التأبين ويكون بتعداد خصال الميت وترد مختلفة باختلاف سنّ المرثي فإن كان شابا أو كهلا تُرصد معاني تأبين مخصوصة قائمة على الشجاعة والعفة والعدل والعقل والكرم وإن كان طفلا فإنّ المعاني تأتي ضامرة، ورمزية، مدارها على البراءة والطهر والغضاضة والنضارة وإن كان شيخا فإن التأبين سينهض على معاني الوقار والتوبة والورع. وإن كان امرأة فله معان تخصّ محاسن النساء الخَلقية والخُلقية وأمّا العنصر الرابع والأخير فيتضمّن التأسّي والتعزّي.

تطور الرثاء

العصر الجاهلي

عرف الرثاء منذ العصر الجاهلي، وكان يتميز بما تميزت به سائر الأغراض من حيث الصدق وعفوية الأداء. وقد رثى شعراء الجاهلية قتلاهم في الحروب، كما رثوا موتاهم في غير الحروب. وكانوا يرثون قتلاهم بذكر مناقبهم وبالبكاء الحار عليهم حثًا للقبيلة على الثأر. كما أن المرأة أدّت دورًا كبيرًا في رثاء قتلى الحروب، إذ تذكر المصادر، مثلاً، أن الخنساء في الجاهلية كانت تخرج إلى سوق عُكاظ فتندب أخويها صخرًا ومعاوية، وكانت تحاكيها هند بنت عتبة راثية أباها، ولم تكن الخنساء ولا مثيلاتها من البواكي يقنعن بيوم أو أيام في رثاء موتاهنَّ، بل كنّ يمكثن الأعوام باكيات راثيات، ولا شك أن النساء كنَّ يدعون بدعوى الجاهلية سواء في أشعارهن أم في بكائهن وعويلهن. ومن روائع مراثي الخنساء ما قالته في أخيها صخر:

قذىً بعينــك أم بالعــين عُوَّار أم ذرَّفت مُذْ خلت من أهلها الدارُ

كأن عيني لذكراه إذا خطرت فيضٌ يسيل على الخدَّيــن مــدرار

ومثلما رثى شعراء العصر الجاهلي ذويهم، فقد رثى الشعراء أنفسهم قبل الموت، ورسموا صورًا بالغة التأثير لمآلهم بعد الموت، كقول أحدهم:

قد رجَّلوني وما رُجِّلتُ من شَعَث وألبســوني ثيابًــا غـير أخــــلاق

وأرسلــوا فتيــةً من خيرهم حسبًا ليسندوا في ضريح التُّرب أطباقي

ومثلما رسم الشاعر الجاهلي صورة للمثل والفضائل في قصائد المدح، فكذلك كانوا في مراثيهم يعددون فضائل الميت، حتى عرَّف النقاد القدماء الرثاء بأنه ذكر فضائل الميت ومدحه.

صدر الإسلام

وفي صدر الإسلام، ظل الرثاء غرضًا شعريًا، إلا أن العقيدة الجديدة أدخلت عليه تطويرًا واضحًا. فلم يعد الراثي يذكر ما حظره الإسلام من المعاني التي تتعارض مع ما أمر الله به من الصبر والإيمان بقضاء الله تعالى. كما كانت مراثي شعراء الرسول ³ تتضمن معاني الجهاد والإشادة بالبطولة والشهادة في سبيل الله. وتتضمن أحيانًا هجوًا للمشركين وقتلاهم.

العصر الأموي

وفي العصر الأموي ـ وبخاصة إبان أحداث الفتنة الكبرى وغيرها ـ تلقانا مراثٍ كثرٌ فيمن قتل من رجال الشيعة أو من رجال الخوارج. وبجانب البكاء في هذه المراثي أو تلك وبجانب الإشادة بالأموات، كان الرثاء ممتزجًا بالأفكار السياسية للفرق، وكان شعر الرثاء فرصة للتعبير عن هذه الأفكار. فها هو ذا عبيداللهلله بن قيس الرقيات يرثي ولدي أخيه عبداللهلله اللذين قتلا في موقعة الحرّة، فيقول:

إن الحوادث بالمدينــة قد أوجَعْـنَنِي وقرعْـن مَرْوتِيَــهْ

إلى قوله يتوعد الأمويين:

والله أبرح في مقدمةٍ أهدي الجيوش عليَّ شكَّتيه

حتى أفجّعهم بإخوتهم وأسوق نسوتهـم بنسوتيّــه

كما شاعت مراثي الشعراء للحسين بن علي رضي الله عنهما.

العصر العباسي

وفي العصر العباسي، تظهر مراثي الشيعة في الإمام الحسين، وأشهر شعرائهم في ذلك السيد الحميري ودِعْبِل الخُزاعي، ومن أصدق مراثي هذا العصر مراثي دعبل في زوجته التي قتلها في موجة شك عارمة انتابته على إثر وشاية كاذبة فلما ظهرت له براءتها مضى يرثيها أصدق رثاء.

وحين اشتدّت موجات الصّليبيين والمغول على المسلمين، كان من الطبيعي أن تشيع مراثي الشعراء في القادة خاصة، سواء من استشهد منهم أو من مات خارج المعركة. فمن ذلك مراثيهم في عماد الدين زنكي الذي استشهد على يد غلام له أثناء حصاره لإحدى القلاع، كما رثى الشعراء ابنه نور الدين حين مات، خارج المعارك، وفقد المسلمون بموته قائدًا عظيمًا.

كما بكى الشعراء صلاح الدين، وقد بلغت مرثية العماد الأصبهاني له مائتين وثلاثين بيتًا صور فيها حسن بلائه. كما شاعت مراثيهم في موتى الأيوبيين والمماليك والعثمانيين، هذا إلى رثاء الأعلام من الوزراء والعلماء والقضاة.

العصر الحديث

وفي العصر الحديث، استمر الرثاء غرضًا شعريًا مستقلاً، وبخاصة رثاء الزعماء وقادة الحركات الوطنية والإصلاحية، وهنا تصبح المراثي فرصة لتجسيد المعاني الوطنية، والسياسية والدينية، كما اصطبغ الرثاء بأصباغ فكرية، واختلفت مناهجه على أنحاء شتى تبعًا لمذاهب الشعراء ومدارسهم الفنية.

أصناف المرثيين

ويُصنّف الرثاء حسب طبيعة المرثي . ومنه:

  • رثاء الإنسان (كالرثاء العائلي: الوالدين، الأبناء، الزوجة، الأخت، الجدة)؛ ورثاء الأصدقاء؛ ورثاء أصحاب السلطة …).
  • رثاء غير الإنسان (من قبيل رثاء الحيوان الأليف، ورثاء المدن والممالك، ورثاء القصور ورثاء مظاهر الحضارة الإسلامية كما في رثاء الأندلس. وغيرها).
  • رثاء من صنف خاص هو رثاء الراثي ذاته الذي غدا مرثياً، فتحوّل الرثاء بذلك إلى اغتراب وحنين وشعور بالغمّ الوجودي وتزييه بنزعة تأملية فلسفية يمكن أن نصادفها لدى البعض من قبيل ابن حمديس الصقلّي.

في اللغة

يرتبط المدلول اللغوي لــ(الرثاء)بالميت والبكاء.وهما في الأصل مصدر للفعل (رثى) فيقال:"رثيت الميت رثياً ورِثاءً ومرثاةً ومرثية"(1).

"ويدل (رثى) في أصله اللغوي على التوجع والإشفاق"(2).

وأخذ مدلول الرثاء يرتبط بالقصيدة الشعرية، ويقول ابن فارس: بأن " الراء والثاء والحرف المعتل أُصَيْلٌ على رِقّة وإشفاق. يقال رثَيْتُ لفُلان: رقَقتُ. ومن الباب قولُهم رَثَى الميِّت بشعرٍ. ومن العرب من يقول: رَثَأْت. وليس بالأصل"(3).

وكذلك الرثاء في اللغة يعني: بكاء الميت وتعدد محاسنه.

يقول ابن منظور: "رَثى فلان فلاناً يَرْثيهِ رَثْياً ومَرْثِيَةً إِذا بكاهُ بعد مَوته.فإِن مدَحَه بعد موته قيل رثَّاهُ يُرَثِّيه تَرْثِيةً. ورَثَيْت الميّتَ رَثْياً ورِثاءً ومَرْثاةً ومَرْثِيةً ورَثَّيْته: مَدَحْته بعد الموت وبَكَيْته. ورثَوْت الميّت أَيضاً إِذا بكَيْته وعدَّدت محاسنه، وكذلك إِذا نظَمْت فيه شعراً"(1).

وعرفه بعضهم بأنه"حسن الثناء على الميت"(2).

وقيل في رثى: "رثى الميت رثيا ورثاء ورثاية ومرثاة ومرثية بكاه بعد موته وعدد محاسنه، ويقال رثاه بقصيدة ورثاه بكلمة، وله رحمة ورق له؛ (رثاه) مدحه بعد موته(المرثاة) ما يرثى به الميت من شعر وغيره"(3).

ألوان للرثاء

"والرثاء يتلون بحسب درجة التأثر لذلك رصدوا له ثلاثة ألوان، هي الندب، والتأبين، والعزاء"(4).

والذي يخص بحثنا هو الندب. وهو "بكاء الأهل والأقارب حين يعصف بهم الموت"(5).

ممن اشتهر بالرثاء

يا مُــرُّ يا بــن واقــعٍ يا أنتــا أنت الذي طلّــقتَ عامَ جُعْتــا
استشهد به بعض النحاة على جواز نداء الضمير «أنت» بالأداة «يا».
  • الشريف الرضي الذي عرف برثائه للإمام الحسين بن علي.
  • حيدر الحلي الشاعر العراقي الذي خصص أغلب ديوانه لرثاء أهل البيت النبوي ولا سيما الإمام الحسين.

المراجع

  • لسان العرب لابن منظور، كتاب الراء فصل (رثى) صفحة 149.
  • المراثي الشعرية في عصر صدر الإسلام لمقبول علي بشير النعمة صفحة 13.
  • معجم مقاييسُ اللّغة لأبي الحسين أحمد بن فارِس بن زكَرِيّا الجُزْءُ الثاني كتاب الرّاء: ـ (باب الراء والثاء وما يثلثهما) صئخ.
  • لسان العرب صفحة 149 كتاب الراء فصل (رثى).
  • صفحة: 123 تاج العروس الجزء الأول.
  • مقاييس اللغة الجزْء الخامس ص 219.
  • المعجم الوسيط ص 46 إبراهيم مصطفى ـ أحمد الزيات ـ حامد عبد القادر ـ محمد النجار
  • الرثاء للدكتور شوقي ضيف ص 5.
  • الإمام الحسين بن علي في الشعر العراقي الحديث تأليف الدكتور علي حسين يوسف، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ط1، 2013.

مراجع في رثاء الأندلس زمن المرابطين والموحدين

  • محمد، عبد الرحمن حسين: رثاء المدن والممالك الزائلة في الشعر الأندلسي حتى سقوط غرناطة، القاهرة، مطبعة الجبلاوي، 1983.
  • الزيات، عبد الله محمد: رثاء المدن في الشعر الأندلسي، منشورات جامعة قاريونس، بنغازي، 1990.
  • الكفاوين، شاهر عوض: الشعر العربي: في رثاء الدول والأمصار حتى نهاية سقوط الأندلس، أطروحة دكتوراه مقدمة في جامعة أم القرى، 2002.
  • إبراهيم، عبد وهيب: شعر النكبة في الأندلس (من قيام دولة الموحدين إلى سقوط دولة بني الأحمر) رسالة ماجستير.
  • قاسم، فدوى عبد الرحيم: الرثاء في الأندلس عصر ملوك الطوائف، شهادة ماجستير، 2002.
  • عبود، رعد ناصر: رثاء المدن في الشعر الأندلسي (عهد الموحدين) رسالة ماجستير.
  • المفلح، منى بنت عبد الله: رثاء المرأة في الشعر الأندلسي: عصر ملوك الطوائف والمرابطين: دراسة موضوعية وفنية ـ رسالة ماجستير.
  • مهجة الباشا: رثاء المدن والممالك في الشعر الأندلسي، شراع للدراسات والنشر، دمشق 2003.