ذروة النفط


استغرب كثيرا من تحليلات المحللين المحليين لارتفاع أسعار النفط في شبه محاولة لاستقراء الأحداث ومطابقتها مع بعضها البعض. في حقيقة الأمر فإن غالب التحليلات إن هي إلا اجترار لجمل مكررة أشبه ما تكون بلزمات مسرحية لا ادري ما الهدف من ورائها، إذا كانت فعلا مقصودة. في الحقيقة لا شك إن للمضاربات والأحداث السياسية تأثيرا على سعر النفط، إلا أن الظاهرة الجديدة في الموضوع هو الزيادة الملحوظة في زيادة الحساسية لهذه الأحداث. فإن أحداثا تضاهيها قد حصلت في الماضي لم يكن لها مثل هذا التأثير المتصاعد الصامد في اتجاهه إلى الأعلى وان تموج في صعوده. فحينها كان هناك قدرة إنتاج استيعابية تضفى الطمأنينة على السوق أو ما يسمى بلغة النفط "Spare Capacity". فالنظرة الموضوعية إذن هي أن تتابع الأسعار على مداها البعيد.

لقد بدأت منذ عدة سنوات مجموعة من العلماء والجيولوجيين في الغرب بالحديث والكتابة في موضوع بالغ الأهمية يعرف ب "ذروة النفط Peak Oil" . كان حديثهم قبل عشر سنوات خافتا وقلما يسمع. بل ويقابلون بالاستهزاء واللامبالاة أحيانا وفي أحد المرات أطلق على أحدهم لقب كاساندرا (أي المبشرة بالأخبار السيئة في الثقافة اليونانية). إلا أنه وبعد هذه السنوات وخاصة بعد الزيادة الملحوظة في أسعار النفط صار مصطلح ذروة النفط دارجا. بل وأكثر من ذلك فقد أعلن سكرتير الطاقة الأمريكي السابق(Dr James R. Schlesinger) في مؤتمر ذروة النفط الأخيرASPO 2007 في ايرلندا في سبتمبر الفائت أن أهل الذروة قد فازوا وأصبحوا هم أهل الكلمة المسموعة.

بعد أن كان السؤال الدارج قبل ذلك "هل هناك ذروة للنفط؟" أصبح السؤال الدارج الآن "متى الذروة ؟". متى وليس هل!. وبلغ الحد أن مجلة مرموقة مثل (National Geography) وضعت على غلافها لشهر يونيو 2004 موضوعا بعنوان " نهاية النفط الرخيص ". وقد طرح الموضوع على الكونغرس الأمريكي أكثر من مرة. يقول خبير الطاقة (ماثيو سيمنز Mathew Simmons) وهو صاحب بنك استثماري عريق في هيوستن في مجال الطاقة، أنه قد ناقش الموضوع مع الرئيس الحالي للولايات المتحدة. وقد صرح جورج بوش في مايو 2001 قائلا : "ما يحتاج أن يسمعه الناس بوضوح وبصوت عال إن الطاقة آخذة بالنضوب في أمريكا!". وقد ذكر ماثيو سيمونز في كتابه الحديث الرائع "غروب في الصحراء Twilight in the desert" أنه قد التقي في 2003 بقيادات النفط في الكويت والقي عليهم معلومات هامة عن النفط في المنطقة.

وليس مستغربا إذن أن يجتمع العلماء القائلون بهذا المذهب وأن يكونوا جمعية عالمية متخصصة بدراسة هذه الظاهرة مستخدمين كل ما عندهم من معرفة وتطبيقات علمية. فلقد أسسس الدكتور (كولن كامبل Colin Cambel) وهو جيولوجي مخضرم جمعية دراسة ذروة النفط ASPO وهذا العام قد انتهوا لتوهم من مؤتمرهم السادس في أيرلندا ومقبلون على المؤتمر السابع في هيوستن في نوفمبر 2007. وفي حقيقة الأمر أخذ العلماء في عدة بلدان في تأسيس فروع لهذه الجمعية كل في بلده. ومن آخر المؤسسين مجموعة علماء في الصين وقبل ذلك في إيطاليا والسويد وغيرها. ولعل الوقت حان لأن تتبنى جمعية المهندسين في الكويت تأسيس فرع الكويت، فالأمر عالمي ويمس الجميع.

ما هي ذروة النفط ؟

فلنرجع بالتاريخ قليلا إلى الخمسينيات من القرن الفائت حيث تكلم الجيولوجي النفطي الفذ الدكتور (كينج هوبرت Hubert) عن نظرية ذروة النفط لأول مرة في مؤتمر نفطي. حينها تنبأ بذروة الإنتاج النفطي الأمريكي وصرح بأنها ستكون في 1970 حسب نموذجه العلمي الرياضي الجيولوجي. ولم يؤخذ كلامه على محمل الجد أبدا. بل قوبل بالسخرية حتى عام 1970 حيث كانت السخرية منه في ذروتها ولكن ذروة السخرية ذاتها كانت هي فعلا ذروة النفط تماما كما تنبأ. فقد بدأ إنتاج النفط الأمريكي بالتناقص في 1971 ولا يزال متناقصا منذ ذلك الحين. وبعد أن كانت أمريكا هي المصدرة للنفط صارت دولة مستوردة. فذروة النفط هي باختصار وصول المكمن النفطي إلى قمة إنتاجه وانخفاض إنتاجه بعد هذه النقطة.

أذن فأن الاسم العلمي للظاهرة هو ظاهرة هوبرت لذروة النفط. ومثل ما حدثت ذروة هوبرت في الولايات المتحدة في 1971 فهي تتكرر على مرأى ومسمع من الجميع. فقد حدثت لبريطانيا صاحبة حقول الشمال في 1999 وقريبا ستتحول بريطانيا لدولة مستوردة للنفط. وحدثت للنرويج في 2005 وحدثت لغيرها وغيرها. حتى تكررت في قرابة الستون دولة من الدول المنتجة للنفط. ومع ذلك لا يفتأ المحللون عندنا من اجترار تحليلات أكل عليها الدهر وشرب. فهم دائما يكررون ان السبب هو المضاربات أو التكهنات أو السياسة أو أوبك المنظمة المسكينة المظلومة أو أحيانا بسبب بضعة عمال مضربين في نيجيريا. مثل ما أن هوبرت قد تنبأ بذروة لأمريكا فهو قد تنبأ كذلك بأن ذروة نفط العالم ستكون في 1995 غير أن بعض الخبراء يقولون أن انخفاض الطلب بعد المقاطعة العربية في السبعينات قد أدي إلى تأخيرها. هذا بالإضافة إلى أن جداول هوبرت لنفط العالم لم تكن كاملة المعلومات بطبيعة الحال. حيث انه قد حدثت بعض الاستكشافات بعد ذلك.

على الرغم من هذه الظاهرة وحتميتها فأنه لايزال القليل يتحدث عنها ولا يزال استهلاك النفط آخذ بالتزايد حتى في أولى الدول ذروة الولايات المتحدة الأمريكية. والآن هو آخذ بالتزايد في دول حديثة النمو نسبيا مثل الصين والهند اللتان صارتا تنافسان العالم على استهلاك مضطرد التزايد تبعا لاضطراد نموها الأقتصادي. فالنفط هو الأقتصاد والأقتصاد هو النفط. فهل تستطيع الدول المنتجة مسايرة هذا التزايد في الطلب؟ أن نظرية هوبرت تقول عكس ذلك تماما فالعلماء البيكييون كما يطلق عليهم أحيانا نسبة إلى ذروة بالأنجليزي : يتنبأون بأن ذروة النفط قد أوشكت وصارت قريبة جدا - أن لم تكن قد حدثت فعلا. فهذا الجيولوجي الدكتور كولن كامبل يقول انها بين 2005 و 2007 ومثله يصرح الدكتور على سمسم بختياري المعروف حيث قال ان نموذجه الرياضي يستنتج انها بين 2005 و 2007. بل وان الدكتور(دافير) يقول انها حدثت في عيد الشكر في 2005.

و بعيدا عن الحسابات العلمية فأن تصرفات الشركات النفطية الكبيرة توحي بما يعرفونه فعلا ولا يصرحون به صراحة مراعاة للعوامل الاجتماعية والسياسية وأسهمهم في البورصات العالمية. فمثلا بالرغم من الزيادة في أسعار النفط فأن استثمارهم وميزانيتهم المخصصة للاستكشافات الجديدة لا توازي إطلاقا هذه الزيادة في السعر. و هذا مفهوم إذا عرفنا أن ذروة الاستكشافات النفطية قد حدثت في الستينات كما هو واضح في مخطط الاستكشافات الشهير الذي أصدرته شركة شل.

و هذا يعني انه منذ الستينات والاستكشافات النفطية الجديدة آخذة بالتناقص. كما أن الشركات أخذت بالأندماج داعمة بعضها البعض. مثل شركات BP – AMACO وشركات Chevron – Texaco وشركات Exxon Mobil. كما انه بالرغم من أن المصافي تعمل بكامل طاقتها الا انه لم يتم بناء مصفاة جديدة منذ سنوات طويلة.

فهل يعنى هذا ان نفاد النفط ؟ لا بل السؤال عن نفاد النفط ليس ذو أهمية الآن إن ذروة النفط بحد ذاتها ذات أهمية قصوى. فمعناها عدم القدرة على زيادة الإنتاج العالمي ومن ثم ثبات الإنتاج ومن ثم بدأ الانخفاض التدريجي للإنتاج بمعدل 6 % سنويا على الأرجح كبداية.و ليس للنفط بديل حقيقي على الأطلاق. وللعارفين بالأقتصاد حقا فإن لهذا تعاديات اقتصادية وسياسية خطيرة جدا. فبعد الذروة لن يكون هناك نفط كاف لدفع عجلة الأقتصاد العالمي المبنية بالأساس على(الزيادة) المستمرة. وخاصة في الدول الصناعية وبالتالي فأن أي نقص مثل هذا يعني عند المستثمرين استحالة النمو وبالتالي امتناعهم تدريجيا عن الاقتراض من البنوك للاستثمار وبالتالي عدم وجود أساس عند البنوك المركزية لطباعة اوراق نقدية جديدة وهكذا تنكسر الحلقة فلا تجد البنوك ما تسد بها عجزها.

و ربما يكون هذا أيضا بداية حروب الطاقة، هذا إذا لم تكن قد بدأت فعلا.