حياة ابن خلدون

٧٣٢: في أول رمضان (٢٧ مايو سنة ١٣٣٢ م) ولد ابن خلدون في مدينة تونس («التعريف» ص ١٥), قرأ القرآن وهو يافع على المكتب أبي عبدالله محمد بن سعد بن برال.

ودرس العربية على أبيه وعلى أبي عبدالله محمد بن العربي الحصايري، وأبي عبدالش محمد بن الشواش الزرزالي، وأبي العباس أحمد بن القصار وأبي عبداله محمل بن بحر.

وقرأ الحديث على شمس الدين ابي عبداشه محمد بن جابر بن سلطان القيسي الوادياشي. وأخذ الفقه عن ابي عبداله محمد بن عبدالله الجياني، وأبي القاسم محمد القصير، وابي عبداله محمد بن عبد السلام

ولازم أبا عبدالله محمد بن سليمان السطي، وأبا محمد ين عبد المهيمن بن عبدالمهيمن الحضرمي، وأبا العباس أحمد الزواوي ’

وأخذ العلوم العقلية عن أبي محمد بن ابراهيم الآبلى: أخذعنه الأصلين، والمنطق، وساثر الفنون الحكمية والتعليمية.

٧٤٩: حدث الطاعون الجارف، فهلك أبواه فيه وكذلك هلك بعض مشيخته . فلازم مجلس شيخه أبي

٧٥٢ م استلعاه ابو محمد بن تافراكين المستبد على الدولة بتونس، لكتابة العلامة عن سلطانه ابي اسحق فكتب العلامة للسلطان، "وهي وضع «الحمد لله والشكر لله»، بالقلم الغليظ، مما بين البسملة وما بعدها، من مخاطبة او رسوم (التعريف ٥٥),

٧٥٥ م بعد رحلة مليئة بالحوادث والمغامرات سافر الى فاس عند السلطان ابي عنان بعد ن كتب هذا الى الحاجب يستقدمه. فانتظم ابن خلدون في اهل مجلسه العلمي، وألزمه السلطان ابو عنان شهود الصلرات معه . ثم استعمله في الكتابة عنه، والتوقيع بيسن يديه. وعكف بن خلدون، اثناء مقامه بفاس، على النظر والقراءة ولقاء المشيخة من اهل المغرب ومن اهل الأندل الوافدين في غرض السفارة: منهم ابو عبداله محمد بن الصفار من اهل مراكش، إمام القراآت لوقته، ومنهم قاضي الجماعة بفاس ابو عبداله محمد المقري من أهل تلمسان، ومنهم ابو البركات محمد بن محمد بن إبراهيم بن الحاج البلفيقي من أهل المرية، وأبو عبداشه محمد بن إبراهيم بن الحاج الحسني، المعروف بالعلوي (نسبة الى العلوين، قرية من أعمال تلمسان) ، وأبو القاسم محمد بن يحيى البزجي (نسبة الى برجة Berga الأندلى).

٧٥٨: اتهم ابن خلدون باتآمر مع الأمير محمد صاحب بجاية لاسترجاع بجاية من السلطان ابي عنان. فأمر هذا بالقبض عليه، وامتحن وحب في ٨ ١ صفر سنة ٧٥٨ (١٠ فبراير سنة ١٣٥٧).

٧٥٩: في ١٤ ذي الحجة مات السلطان أبو عنان، فبادر القائم بالدولة، الوزير الحسن بن عمر، إلى اطلاق جماعة من المعتقلين مغهم بن خلدون . وخلع عليه وأعطي دابة، وأعيد الى الكتابة.

ثم انتقض على الوزير بن عمر بنو مرين، فقام ابن خلدون بالكتابة عن القاثم بأمر بني مرين، منصور بن سليمان بن منصور ابن عبد الواحد بن يعقوب بن عبد الحق ثم خلع المنصور، وتولى ابو سالم في ١٥ شعيان سنة ٧٦٠، فاستعمل ابن خلدون في كتابة سره والترسيل عنه والإنشاء لمخاطبيه. وفي هذم الفترة انشال عليه الشعر ,

ثم تولى ابن خلدون «خطة المظالم»، وظل على ذلكحتى اوائل سنة ٧٦٤.

٧٦٤: في أوائل هذه السنة سافر الى الأندلس متوجهاً الى السلطان أبي عبداله محمد بن محمد بن محمد بن يوسف بن نصر، ثالث ملوك بني الأحمر (سنة ٦٥٥ - سنة ٧١٣) وباني مسجد الحمراء الأعظم في غرناطة، وكان ابن خلدون قد عرفه حين وفد على السلطان أبي سالم بواسطة وزيره لسان الدين ابن الخطيب. فمر أولا يسبتة حيث اكرم وفادته سعيد بن موسى العجيسي. ثم عبر البحر، ووصل الى غرناطة في ٨ ربيع الأول سنة ٧٦٤ فاستقبل خير استقبال.

٧٦٥: كلفه السلطان ابو عبدالله بالسفارة الى يدرو الطاغية ملك قثتالة، لإتمام عقد الصلح بينه وبين ملوك العدوة (المغرب) . فارتحل الى أشبيلية ولقي الطاغية بدرو (بطره بن الهنشة بن آذفونش)، وعاين آثار أجداده منها . وقد عامله يدرو «من الكرامة بما لا مزيد عليه واظهر الاغتباط بمكاني، وعلم أولية سلفنا بأشبيلية، وأثنى علي عنده طبيبه إبراهيم بن زرزر اليهودي، المقدم في الطب والنجامة ٠ . . فطلب الطاغية مني حينئذ المقام

عنده، وأن يرت علي تراث سلفي بأشبيلية . فتفاديت من ذلك بما قبله» («التعريف» ص ٨٥) ثم لم يلبث الأعداء واهل السعايات أن سعوا بينه وبين الوزير لسان الدين ابن الخطيب وخيلوا إليه أن ابن خلدون سيحل محلم عند السلطان، فتغير ابن الخطيب عليه , وفي ذلك الوقت جاءه كتاب السلطان أبي عبدالسه صاحب بجاية بأنه استولى على بجاية في رمضان سنة ٧٦٥، واستدعاه إليه. فاستأذن السلطان ابن الأحمر في الارتحال إلى سلطان بجاية فأذن له، وغادر ابن خلدون الأندلس قاصداً بجاية ,

٧٦٦: في منتصف هذه السنة ركب البحر من ساحل ألمرية بالأندلس، فنزل بجاية بعد .خمسة أيام فاحتفل سلطان يجاية لقدومه، وأركب أهل دولته للقائه، وتهافت أهل البلد عليه، ووصل إلى السلطان فحيا وفدى، وخلع عليه وأعطاه دابة للركوب

ثم اضطرب الأمر بين السلطان أبي عبدالله صاحب بجاية وبين ابن عمه السلطان أبي العباس صاحب قسنطينة بسبب المشاحنة في حدود الأعمال من الرعايا والعمال، (وشب نار هذه الفتنة عرب أوطانهم من الذواودة من رياح * . فالتقوا سنة ست وستين بفزجيوه ٠ . ٠ فانهزم السلطان أبو عبداش، ورجع الى بجاية مغلولا، بعد أن كنت جمعت له اموالاً كثيرة أنفق جميعها في العرب ولما رجع أعوزته النفقة، فخرجت بنفسي إلى قبائل البربر بجبال بجاية المتمنعين من المغارم منذ سنين، فدخلت بلادهم واستجث حماهم، وأخذت رهنهم على الطاعة! («التعريف»، ص ٩٩)، لكن كثرت السعاية عند سلطان بجاية ضد ابن خلدون والتحذير من مكانته , فشعر ابن خلدون بهذا، فطلب الإذن بالانصراف، فأذن بعد لأي، وخرج إلى العرب، ونزل على يعقوب بن علي نم بدا للسلطان ابي عبدالله في أمره، وقبض على أخيه محمد واعتقله ببونة. ثم ارتحل ابن خلدون من أحياء يعقوب بن علي، و قصد بسكرة لمصاحبة بينه وبين شيخها أحمد بو يوسف بن مزنى.

ثم وقع الخلاف بين السلطان أبي عبدالله سلطان بجاية، وبين السلطان أبى حمو صاحب تلمسان. فلما

بلغ أبا حمو خروج ابن خلدون من بجاية وما أحدثه أبو عبدالس في أخيه وأهله ومخلفه كتب إلى ابن خلدون يستقده. لكن ابن خلدون تفادى ذلك بالأعذار، وأقام بأحياء يعقوب بن علي، ثم ارتحل إلى بكرة فأقام - كما قلنا - عند أميرها أحمد بن يوسف بن مزنى ٠ فلما وصل السلطان أبو حمو إلى تلمسان أخذ في استنلاف قبائل رياح ليجلب بهم مع عساكره على بجاية، وخاطب ابن خلدون في ذلك، راستدعاه لحجابته وعلامته. فتولى ابن خلدون مهمة استئلاف أشياخ الذواودة ونجح في ذلك في أخريات سنة إحدى وسبعين. وبينما هو في ذلك، بلغ الخبر أن السلطان عبدالعزيز (أبو فارس عبدالعزيز بن أبي سالم المريني صاحب المغرب الأقصى) قد استولى على جبل عامر بن محمد الهنتاتي بمراكث، واته عازم على النهوض الى تلمسان، لما سلف من السلطان أبي حمو أثناء حصار السلطان عبدالعزيز لعامر في جبله من الإجلاب على ثغور المغرب فاتصرف أبو حمو عما كان فيه من أمر بجاية، وكر راجعاً إلى تلمسان، وأخذ في لاستعداد لملاقاة السلطان أبي فارس عبدالعزيز صاحب المغرب.

وهنا آثر ابن خلدون الفرار، فطلب من أبي حمو الإذن في الانصراف إلى الأندلى، فأذن له وحمله رسالة إلى السلطان ابي عبدالله الأحمر ملك غرناطة فذهب ابن خلدون إلى المرسى بهنين للركوب في سفينة إلى الأندلس، فبلغ السلطان عبدالعزيز ن ابن خلدون في هنين وأن معه وديعة يحتملها إلى صاحب الأندلس، فأرسل لاسترجاع هذه الوديعة، وتبين أنه لا يحمل وديعة، وحمل ابن خلدون الى السلطان عبدالعزيز قريباً من تلمسان، فلقيه وعنفه على مفارقة فاس. وأقام ابن خلدون ليلة معتقلاً، ثم أطلق من الغد، فعمد الى رباط الشيخ الولي أبي مدين، ونزل بجوارم مؤثراً للتخلي والانقطاع للعلم («التعريف»، ١٣٣ . ١٣٤)، ودخل السلطان عبدالعزيز تلمسان واستولى علها.

٧٧٢: فاستدعاه السلطان عبدالعزيز من خلوته بالعباد عند رباط الولي أبي مدين، لكي يتولى استئلاف قبائل رياح، وقام بن خلدون بهذه المهمة خير قيام - كما فعل قبل ذلك من أجل خصمه أبي حمو! وانقطع ابن خلدون ببسكرة، وفي أثناء

مقامه بها بلغه خبر فرار الوزير لسان الدين ابن الخطبب من الأندلس وقدومه على السلطان بتلمسان، وقد كتب إليه ابن الخطيب، ورد عليه ابن خلدون في يوم الفطر سنة ٧٧٢. واتصل مقامه ببسكرة، بينما المغرب الأوسط مضطرب بالفتنة، إلى أن استتب الأمر للسلطان عبدالعزيز، فاستدعى ابن خلدرن، فارتحل هذا اليه في ١٢ ربيع الأول سنة أربع وسبعين.

٧٧٤: توفي أبو فارس عبدالعزيز بن أبي الحسن بن ابي سعيد بن يعقوب ابن عبدالحق المريني (بويع سنة٧٦٧)، وولى مكانه ابنه أبو بكر السعيد محمد بن عبدالعزيز بن أبي الحسن. فتوجه ابن خلدون الى فاس فوصلها في جمادى سنة ٧٧٤، فرحب به الوزير أبو بكر ابن غازي «فلقيني من بر الوزير وكرامته، وتوفير جرايته وإقطاعه، فوق ما أحتسب، وأقمت بمكاني من دولتهم أثير المحل نابه لرتبة، عريض الجاه، منوه المجلس عند السلطان , ثم انصرم فصل الشتاء ، وحدث بين الوزير أبي بكر بن غازي، وبين السلطان ابن الأحمد، منافرة، بسبب ابن الخطيب» (التعريف» ص٢١٨ - ٢١٩.

وحصلت الحروب بسبب ذلك، وظل ابن خلدون مقيماً بفاس، عاكفاً على ق اءة العلم وتدريسه، إلى أن تولى السلطان أبو العباس أحمد بن أبي سالم الملك في فاس، وخلع أبو بكر السعيد، فاتح سنة ٧٧٦، ووزر له محمد بن عشمان ، وكان بينه وبين ابن خلدون حقد قديم : فأغرى السلطان بالقبض على ابن خلدون، فقبض عليه، لكن الأمير عبدالرحمن تدخل فأطلقوا سراحه من الغد. واستأذن ابن خلدون في الرحيل الى الأندلس، فأذن له بعد مطاولة وعلى كره من الوزير محمد بن عثمان.

٧٧٦! فأجاز ابن خلدون إلى الأندلى لثاني مرة في ربيع سنة ست وسبعين ، فلقيه السلطان ابن ا لأحمر بالبر والكرامة، وكان وزيره يعد ابن الخطيب هو أبو عبداس ين زمرك. وكان ابن زمرك قد توجه الى فاس في غرض التهنتة.فلما وصل إلى فاس تحذث مع أهل الدولة في شأن ابن خلدون،

فساءهم استقراره بالأندلس، واتهموا ابن خلدون بأنه ربما حمل السلطان ابن الأحمر على الميل إلى الأمير عبدالرحمن، وخاطبوا السلطان ابن الأحمر على الميل إلى الأمير عبدالرحمن، وخاطبوا السلطان ابن الأحمر قي إرجاع ابن خلدون إلى فاس، فأبى، فطلبوا منه إجازته الى عدوة تلمسان «وكان مسعود بن ماساي قد أذنوا له في اللحاق بالأندلس، فحملوم مشافهة السلطان بذلك، وأبدوا له أني كنت ساعياً في خلاص ابن الخطيب، وكانوا قد اعتقلوه لأول استيلائهم على البلد الجديد وظفرهم به.

»وبعت إلي ابن الخطيب من محبسه مستصرخاً بي ومتوسلاً، فخاطبت في شأنه أهل الدولة، وعولت فيه منهم على ونزمار وابن ماساي، فلم تنجح تلك السعاية، وقتل ابن الخطيب بمحبسه. فلما قدم ابن ماساي على السلطان ابن الأحمر- وقد اغروه بي - فألقى الى السلطان ما كان مني في شأن ابن الخطيب، فاستوحث لذلك، وأسعفهم في إجازتي إلى العدوة، ونزلت بهنين، والجو بيني وبين السلطان أبو حمو مظلم. - . فأوغر بمقامي بهنين. ثم وفد عليه محمد بن عريف فعذله في شأني، فبعث عني الى تلمسان، واستقررت بها بالعباد، ولحق بي أهلي وولدي من فاس، وأقاموا معي وذلك في عيد الفطر سنة ست وسبعين . وأخذت في بك العلم. وعرض للسلطان أبي حمو أثناء ذلك رأى في الذواودة، وحاجته الى استثلافهم، فاستدعاني، وكلفني السفارة إليهم في هذا الغرض، فاستوحشت منه، ونكرته على نفسي، لما آثرته من التخلي والانقطاع، وأجبته الى ذلك، ظاهراً. وخرجت مسافراً من تلمسان حتى انتهيت الى البطحاء، فعدلت ذات اليمين الى منداس، ولحقت بأحياء اولاد عريف، قبلة جبل كزول. فتلقوني بالتحف والكرامة، وأقمت بينهم أياماً حتى بعثوا عن أهلي وولدي من تلمسان. وأحسنوا العذر الى السلطان عني في العجز عن قضاء خدمته، وأنزلوني بأهلي في قلعة ابن سلامة، من بلاد بني توجين، التي صارت لهم بإقطاع السلطان فأقمت بها أربعة أعوام، متخلياً عن الشواغل كلها، وشرعت في تأليف هذا الكتاب (: «العبر») وأنا مقيم بها، وأكملت «المقدمة» منه على ذلك النحو الغريب،

الذي اهتديت اليه في تلك الخلوة ، فسالت فيها شابيب الكلام والمعاني على الفكر، حتى امتخضت زبدنها، وتألفت نتائجها . وكانت من بعد ذلك الفيئة إلى تونس» •التعريف! ٢٢٩,٢٢٧),

٧٧٩: أتم «المقدمة» بالوضع والتأليف، قبل التنقيح والتهذيب ، في مدة خمسة أشهر آخرها منتصف عام تسعة وسبعين وسبعماثة «ثم نقحته بعد ذلك وهذبته، وألحقت به تواريخ الأمم كما ذكرت في أوله وشرطته» («المقدمة» ص ٦٠٦، ط٣ بولاق سنة ١٣٢١).

٧٨٠: وكتب الى أبي العباس يطلب الأذن له بالعودة إلى تونس ، فأذن له ٠ فارتحل ابن خلدون من عند أولاد عريف مع عرب الأخضر من بادية رياح في رجب سنة ثمانين. فسلك القفر الى الدوسن من أطراف الزاب، ثم صعد الى التل مع حاشية يعقوب بن علي، حتى نزلوا بضاحية قسنطينة، ومنها رحل مع أبي دينار في جماعة وساروا إلى السلطان أبي العباس، وهو يومثذ قد خرج من تونس الى بلاد الجريد لقمع الفتنة، فوافام بظاعر سوسة، فرحب به وبالغ في تأنيسه، وشاوره في مهمات أموره، نم رده الى تونس فرجع ابن خلدون إلى تونس في شعبان سنة ٧٨٠، وأرسل في طلب أهله وولده.

فلما وصل ابن خلدون تونس انهال عليه طلاب العلم، وكان محمد ابن عرفة إمام الجامع وشيخ الفقهاء يدزس لهم، وكانت بينه وبين ابن خلدون غيرة وموجدة من لدن اجتماعهما في المربى بمجالس الشيوخ. فلما تحول طلبة العلم عنه الى ابن خلدون تهيجت نيران الحقد في قلب محمد بن عرفة، وكان على صلة وثيقة ببطانة السلطان، فاتفقوا على الدس عنده ضد ابن خلدون والسعاية به . ولكن السلطان أعرض عن الوشاية . وكلفه بالإكباب على تأليف كتاب «العبر» ، فأكمل منه أخبار البربر وزناتة، وكتب من أخبار الدولتين وما قبل الإسلام ما وصل اليه منهما ■ وأكمل من ذلك نسخة رفعها الى خزانة السلطان أبي العباس. «وكثرت سعاية البطانة بكل نوع من أنواع السعايات، وابن عرفة يزيد في اغرائهم متى اجتمعوا اليه، الى أن أغروا السلطان بسفري معه، ولقنوا

النائب بتونس - القائد فارح، من موالي السلطان - أن يتفادى من مقامتي معه، خشية على امره مني بزعمه، وتواطأوا على أن يشهد ابن عرفة بذلك للسلطان، فشهد به في غيبة مني، ونكر السلطان عليهم ذلك. ثم بعث إلي (أي السلطان) وأمرني بالسفر معه، فسارعت الى الامتثال، وقد شق ذلك علي، إلا أني لم أجد محيصاً عنه. قخرجت معه، وانتهيت الى تبسه، وسط تلول افريقية، وكان منحدراً في عساكره وتواليفه من العرب الى توزر، لأن ابن يملول كان اجلب عليها سنة ثلاث وثمانين، واستنفذوها من يل ابنه ٠ فسار السلطان إليه وشرده عنها، وأعاد اليها ابنه واولياءه. ولما نهض من تبسه رجعني الى تونس، فأقمت بضيعتي الرياحين من نواحيها لضم زروعي بها، الى أن قفل السلطان ظافراً منصوراً، فصحبته الى تونس ولما كان شهر شعبان من سنة أربع وثمانين، أجمع السلطان الحركة الى الزاب، بما كان صاحبه ابن مزني قد اوى ابن يملول اليه، ومهد له في جواره، فخشيت ان يعود في شأني ما كان في السفرة قبلها، وكانت بالمرسى سفينة لتجار الاسكندرية قد شحنها التجار بأمتعتهم وعروضهم، وهي مقلعة الى الاسكندرية. فتطارحت على السلطان، وتوسلت اليه في تخلية سبيلي لقضاء فرضي (أي الحج)، فأذن لي بذلك. وخرجت إلى المرسى، والناس متسائلون على أثري من أعيان الدولة والبلد وطلبة العلم. فودعتهم .

٧٨٤: «وركبت البحر منتصف شعبان من السنة (= سنة أربع وثمانين وسبعمائة) ، وقوضت عنهم، بحيث كانت الخيرة من الله سبحانه، وتفرغت لتجديد ما كان عندي من آثار العلم» («التعريف» ص ٢٤٤-٢٤٥) فأقام بالإسكندريةشهراً لتهيئة أسباب الحج. لكنه لم يقدر له الحج في ذلك العام، اذ انتقل الى القاهرة أول ذي القعدة «فرأيت حاضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشرة الأمم، ومدرج الذر من البشر، وايوان الاسلام، وكرسي الملك، تلوح القصور والاواوين في جوه، وتزهر الخوانك والمدارس بافاقه، وتضيء البدور والكواكب من علمائه، قد مثل بشاطىء بحر النيل، نهر الجنة، ومدفع ميام السماء، يسقيهم النهل والعلل سيحه، ويجني اليهم الثمرات

والخيرات ثجه , ومررت في سكك المدينة تغص بزحام المارة، وأسواقها تزخر يالنعم» («التعريف» ص ٢٤٦ -٢٤٧) ، وبهذا التصوير الرائع الدقيق وصف القاهرة التي بهرته حينما رآها .

ولما دخل القاهرة انشال عليه طلبة العلم يتلمسون لافادة، فجلس للتدريس بالجامع الأزهر.

ثم اتصل بالسلطان الظاهر برقوق، غأبر لقاءه ووفر الجراية له من صدقاته. وانتظر لحاق اهله وولده به من تونس، وقد صدهم اللطان ابو العباس عن السفر طمعاً في عودة ابن خلدون الى تونس، فاستشفع ابن خلدون الظاهر برقوق للشفاعة له في تخلية سبيلهم، فكتب برقوق الى ابي العباس في خامس عشر صفر ست وثمانين في ذلك الشأن .

وفي ذلك الحين توفي بعض المدرسين بمدرسة القمحية التي كانت تقع بجوار جامع عمرو بن العاص، وكانت من وقف صلاح الدين الأيوبي فولاه السلطان برقوق التدريس بها. فتولى التدريس. وفي أثناء ذلك سخط السلطان برقوق على قاضي المالكية جمال الدين عبدالرحمن ابن سليمان بن خير المالكي (سنة ٧٢١-٧٩١)، فعزله سنة ٧٨٦ وولى مكانه ابن خلدون، فقعد بمجلس الحكم بالمدرسة الصالحية بين القصرين. «فقمت بما دفع إلي من ذلك المقام المحمود، ووفيت جهدي بما أمنني عليه من أحكام الله، لا تأخذني في الحق لومة، ونا يزعني عنه جام ولا سطوة، مسوياً في ذلك بين الخصمين، آخذاً بحق الضعيف من الحكمين (اي المحتكمين إليه) ، معرضاً عن الشفاعات والوسائل من الجانبين، جانحاً الى التثبت في سماع البينات، والنظر في عدالة المنتصبين لتحمل الشهادات، فقد كان البر منهم مختلطاً بالفاجر، والطيب متلبساً بالخبيث، والحكام ممسكون عن انتقادهم، متجاوزون عما يظهرون عليه من هناتهم، لما يموهون به من الاعتصام بأهل الشوكة. .. » («التعريف» ص ٢٥٤- ص ٢٥٥)، ويمضي ابن خلدون في بيان فساد القضاء في ذلك العهد، وما عمله هو في سبيل تحقيق العدالة في القضاء. . مما أثار الاحقاد عليه والشغب ضده، حتى أظلم الجو بينه وبين أهل الدولة.

ووافق ذلك أن أهله كانوا قادمين من تونس في

سفينة، فأصابها قاصف من الريح فغرقت، فمات أهله وولده غرقاً 1 «وذهب الموجود والسكن والمولود ٠ فعظم المصاب والجزع، ورجح الزهد» («التعريف» ص ٢٥٩) واعتزم الخروج عن المنصب فأعفاه السلطان من منصبه قاضياً لقضاة المالكية، وأعاد سلفه المخلوع جمال الدين عبدالرحمن ابن خير في ١٧ جمادى الأولى سنة ٠٧٨٧

وفي غمرة هذه المحنة لم يجد ابن خلدون عزاء له إلا في العودة الى العلم والتدري والتأليف وظل على ذلك ثلاث سنين.

٧٨٩: عزم على الحج، فخرج من القاهرة في منتصف رمضان سنة تسع وثمانين وسبعمائة الى مرسى الطور، وركب البحر من هنالك، عاشر شوال، فوصل ينبع بعد شهر، فوافى المحمل فرافقه من هناك الى مكة فدخلها ثاني ذي الحجة, وقضى فريضة الحج، وعاد الى ينبع، فأقام بها خمسين ليلة حتى تهيأ له السفر بالبحر، فسافر، ولما قارب مرسى الطور اعترضتهم الرياح، فلم يسعهم إلأ قطع البحر الى جانبه الغربي، ونزلوا بساحل القصير، وتوجهوا من ثم الى قوص، فأراحوا بها أياماً، ثم ركبوا في النيل الى القاهرة فوصلها في جمادى سنة تسعين ولقي السلطان.

٧٩١: شغرت وظيفة تدريس الحديث بمدرسة صرغتمش، التي كانت تقع الى جوار جامع أحمد بن طولون، فولاه السلطان التدريس بها في محرم سنة إحدى وتسعين.

وفي ٦ ٢ ربيع الآخر عين ناظراً لخانقام بيبرس عوضأ عن شرف الدين عثمان الأشقر.

وفي هذم السنة وقعت فتنة الناصري (راجع عنها «التعريف» ص ٣١٤- ص ٣٤٦، «والعبر» جه ص ٧٥ ٤وما يليها).

٨٠١؛ توفي قاضي المالكية ناصر الدين ابن التنسي، وكان ابن خلدون آنذاك مقيماً بالفيوم لضم زرعه من وقف القمحية، فبعث إليه السلطان وقلده وظيفة قاضي المالكية في منتصف رمضان سنة إحدى وثمانمائة .

٨٠٢: ذهب لزيارة بيت المقدس، فوصل القدس ودخل المسجد الأقصى وتبرك بزيارته والصلاة فيه، ولم يدخل كنيسة القيامة، ثم انصرف الى الخليل لزيارة قبر إيراهيم الخليل، ومر في طريقه ببيت لحم، وارتحل من مدفن الخليل الى غزة، ومنها توجه الى مصر، فوافى السلطان بظاهر مصر ودخل في ركابه واخر شهر رمضان سنة اثنتين وثمانمائة .

٨٠٣ وعزله السلطان من منصب قاضي المالكية، وولى بدلا منم نورالدين ابن الخلال، وكان السبب في عزل ابن خلدون - فيما يقوله ابن قاضي شهبة في تاريخه (سنة ٨٠٣ لوحة ١٧٠ب) «مبالغته في العقوبات، والمسارعة إليهاا. فتولى ابن الخلال في منتصف لمحرم سنة ثلاث وثمانمائة.

وفي منتصف ربيع الأول من تلك السنة، سنة ٨٠٣، سافر ابن خلدون مع ركاب السلطان بعد أن استدعام يشبك الدوادار، فوصل غزة، وأراح بها أياماً ترقباً للأخبار، ثم وصلوا الى الشام مسابقين الططر إلى أن نزلوا شقحب (قرب دمشق) ، ثم أصبحو في دمشق، وكان تيمورلنك في عساكرم من التتار(الططر، كما يكتبها ابن خلدون) قد رحلوا من بعلبك قاصدين دمثق. فضرب السلطان فرج خيامه وأبنيته بسأحة قبة يلبغا، ويئ تيمورلنك من مهاجمة دمشق، فأقام بمرقب على قبة يلبغا، يراقب جيش السلطان فرج، أكثر من شهر، وتجاول العسكران في هذه المدة ثلاث مرات أو أربعا، فكانت الحرب سجالا ثم تمى الخبر الى السلطان أن بعض الأمراء المنغمسين في الفتنة يحاولون الهرب الى مصر للثورة بها، فأجمع رأيه للرجوع إلى مصر خشية من نتقاض الناس وراء اولئك الأمراء، واختلال الدولة بذلك ٠ فأسرى السلطان ليلة الجمعة من شهر جمادى الآخرة، وساحل البحر الى غزة، وأصبحت دمشق في حيرة. فجاء القضاة والفقهاء واجتمعوا بالمدرسة العادلية، واتفق رأيهم على طلب لامان من الأمير تيمورلنك على بيوتهم وحرمهم، وشاوروا على ذلك نائب قلعة دمشق من قبل السلطان فرج، فأبى ذلك عليهم، فلم بوافقوه وأصروا على موقفهم، وخرج القاضي برهان الدين اين مفلح الحنبلي، فأمنهم تيمورلنك، بعد أن تدلوا من

السور وقصدوا إليه. وقد سأل تيمورلنك برهان الدين عن ابن خلدون، وهل سافر مع عساكر مصر، أو أقام بالمدينة، فأخبره بمقامه في المدرسة العادلية. وبلغ ابن خلدون الخبر في جوف الليل، فخشى البادرة على نفسه، وبكر سحراً الى جماعة القضاة عند الباب، وطلب الخروج أو التدلي من السور، فأبوا عليم ذلك أولاً، ثم قبلوا ودلوه من السور، فوجد بطانة تيمورلنك عند الباب ونائبه الذي عينه للولاية على دمشق، واسمه شاه ملك من بني جقطاي، فحياهم وأوصلوه الى معسكر تيمورلنك، وجرى بينه وبينهم الحديث الذي أوردناه في ملحقكتابنا(ص٣٠٦-ص٣٠٩).

وطلب ابن خلدون من تيمورلنك ان يسمح له بالسفر الى مصر. فأذن له، رفي الطريق إلى مصر قطع عليه الطريق ونهب ماكان معه، ونجا الى قرية هنالك، ثم ارتحل الى صفد، فأقام بها أياماً، ثم مر به مركب من مراكب ابن عثمان سلطان بلاد الروم، فركب البحر الى غزة ونزل بها، ومنها سافر الى القاهرة، فوصلها في شعبان سنة ٣ ٠ ٨.

وكان قد أشيع في مصر أنه علك، فولى على المالكية جمال الدين الأقفهسي في جمادى الآخرة سنة ٨٠٣ فلما رجع ابن خلدون الى مصز، أعيد إلى منصبه في أواخر شعبان، واستمر في منصبه إلى أن سعي فيه لدى السلطان فولى مكانه جمال الدين البساطي في أواخر رجب سنة ٤ ٨٠ .

٨٠٤: ثم أعاده السلطان إلى الوظيفة في نهاية سنة ٨٠٤، و بقي في منصبه سنة و بعض سنة، ثم أعيد جمال الدين البساطي الى ما كان في سادس ربع الآخر سنة ٠٨٠٦

٨٠٧: ثم أعيد بن خلدون قاضياً للمالكية في عاشر شعبان سنة سبع، ثم عزل في أواخر ذي القعدة مننفس السنة.

٨٠٨ في شعبان أعيد ابن خلدون قاضياً للمالكية لسادس مرة ■ وفي ه ٢ رمضان من سنة ٨٠٨ (ثمان وثمانمائة) توفي وهو في منصبه، ودفن في مقبرة الصوفية خارج باب النصر بالقاهرة ,