تاريخ تأريخ الفلسفة
اللفلسفة قانون عام تير المذاهب الفلسفيةعليه، ام أن هذه المذاهب تتتابع وتتدافع الواحد منها بعد الآخر، دون أن يكونمناكقانون يربط هذا التطور، ودون أن تكون ثمت صلة ضرورية بين وجود هذا المذهب أو ذاك الآخر، في هذا العصر دون العصر الآخر؟
الواقع ان لنظرة إلى تاريخ الفلفة - بوصفم تاريخاً عاماً يسلك سبيلا واحدة نستطيع أن نتبينها - نظرة حديثة، كانت نتيجة للمذاهب التي أتت في أواخر القرن الثامن عشر، وأوائل القرن التامع عشر، والتي كانت تقول بالتقدم لمستمرفي الزمان اللاهائي للروح الإنسانية. ومن اشهرمثلي هذا الرأي-كما
سنرى بعد حين - أ وجيست كونت، ثم هيجل، وبخاصة هذا الأخير، الذي كان يرى ان الروح المطلقة هي التاريخ نفسه وهو يعرض نفسه بنفسه، اي أنه لكي تفهم الوجود لا بد لنا أن نفهم تاريخ الوجود، لأن هذا التاريخ هوهذه الروح نفها.
اما قبل هذا، فلم يكن النظر إلى تاريخ الفلسفة على هذا النحو، بل كان مغاير تماما. وذلك ان البحث في تاريخ الفلسفة قد بد بشكل واضح في عصر النهضة، وكان ذلك نتيجة لاكتشاف المؤلفات القديمة لتي كتبت في تاريخ الفلسفة، وهذه المؤلفات لقديمة كانت عبارة عن مجموعة اقوال وإشارات وتلميحات إلى المذاهب الفلسفيةعنداليونان والرومان. وأكبر الرجال الذين كتبوا كتباً من هذا النوع هم: فلوطرخ لذي كتب كتاباً عن «أقوال الفلاسفة» («الآراء الطبيعية» كما سمى عند العرب)، ثم القديس كليمانس الاسكندري صاحب كتاب «الأمشاج،، واستوبيه، واخيراً وقل الكل: ذيوجانس اللائرسى، صاحب كتاب «حياة الفلاسفة» وهو عبارة عن مجموعة مختلطة اشد الاختلاط من الأقاويل وسبات والحكم عن حياة الفلاسفة، وكان هذا الكتاب المرجع الرئيسي لتاريخ الفلسفة في بدء عصر النهضة، وما زال حتى اليوم مرجعا من أهم المراجع التي نرجع إليها في تاريخ الفلسفة اليونانية.
اول ما كتب في تاريخ الفلسفة في العصر الحديث، كان على طريقة هذه الكتب التي ذكرناها، ومثل هذا ما فعله بورليوس في كتابه عن «حياة الفلاسفة، (نورنبرج، سنة ١٤٧٧ ) . فإن بورليوس في هذا الكتاب قد جمع أوأختار طائفة من الأقوال القديمة عن فلاسفة اليونان الأقدمين وبعض النوادر التي ذكرت عن حياة هؤلاء الفلاسفة دون تحديد لمذاهب ولا نظرالى تاريخ الفلسفة بوصفه يكون وحدة. ولم يكن لدى رجال عصر النهضة شيء من الكتب التي كتبت عن تاريخ الفلسفة في العصور الوسطى، إنما وقفت هذه المراجع عند القرن الأول اوالثافي امبلادي. فلم يكن من المتبسرإذأ أن يتبين الانان الصلة بين هذه القلسفة القديمة التي تقدمها لنا هذه المراجع، وبين الفلسفة المسيحية التي ظهرت في العصرر الوسطى ٠ ومن هنا ايضاً كان من الصعب أن يتبين المرء ان ثمت استمرارا لتاريخ الفلسفة وتطورا للمذاهب الفلسفية من الواحد إلى الآخر. ومع هذا فقد بدأ بعض الكتاب، مثل لونوا، يكتب عن تاريخ الفلسفة في العصور الوسطى، وذلك في كتابه الذي يعرف باسم: «المدارس المشهورة قبل شرلمان وبعده: .
والفكرة التي حددت النظر إلى تاريخ الفلسفة إبان ذلك العصر قد عبر عنها بيكون أوضح تعبير في كتابه عن «مكانة العلوم وتقدمها» ، حين قال إن تاريخ الفلسفة جزء من التاريخ العام الادبي، وهذا التاريخ يبحثفي امذاهب والشيع لمختلفة والآراء المتعارضة التى ظهرت على مر عصور الفلسفة، فكأن تاريخ الفلسفة إذاً هو تاريخ تتابع الشيع المختلفة وتنازعها.
فإذا بحثنا الآن في الطريقة الي كان يسيرعليها رجال عصر النهضة في نظرتهم إلى تاريخ الفلسفة، وجدنا أن الاتجاه الأول كان هو الميل إلى الكتابة عن تاريخ فرقة من الفرق لأن الكاتب لهذا التاريخ يؤمن بهذا المذهب. ومعى هذا أن كل تاريخ هوتاريخ لشيعته، وأن كل مؤرخ متشيع للشيعة التي يكتب عنها. فترى مرسيليو وشينو يكتب عن الأفلاطونية وبخاصة لأفلاطونية امحدثة، في كتابه: «الإلهيات الأفلاطونية»، وذلك لأنه كان من أنصار الأفلاطونية، وقد حاول أن ينشىء أكاديمية على نمط أكاديمية أفلاطون. ئم نرى يوستس لبسيوسيكتب عن تاريخ الرواقية، ثم بريجارد يدرس تاريخ الفلاسفة السابقين على سقراط، وأخيراً نجد جسندي ينشىء فصولاً عن حياة ابيقور، وعن ملخص المذهب الأبيقوري.
ولقد كان ثمتمذهبآخرغيرهذه المذاهب، يسيرعلى طريقة الشكاك فالشكاك كان يعنيهم ان يكتبوا تاريخاً للفلسفة، لكي يبينوا ما هنالك من تعارض بين المذاهب الفلسفية المختلفة، متخذين من هذا التعارض وسيلة لإنكار الفلسفة نهائياً. ومن اشهر الكتب التي كتبها الشكاك كتاب سكستس امبريكوس: «ضدالمتزمتين»، وقد طبع هذا الكتاب من يتشيعون لهذا الرأي من رجال النهضة ع فقد طبعه وترجم جزءا منه هنري استيين في القرن السادس عشر (سنة ١٥٦٢) .
-٢-
قلنا إن نظرة رجال عصر النهضة إلى تاريخ الفلسفة تتلخص في أن هذا التاريخ هوتاريخ للشيع الفلسفية، إذ كان الإنسان لا يكتب عن تاريخ شيعة ما، إلا إذا كان هو نفسه من أتباع هذه الشيعة. ومن ثم ظهرت نزعة جديدة ترمي إلى الفصل بين الفيلولوجيا والفلسفة - ومعنى الفيلولوجيا دراسة الآثار الفكرية والروحية دراسة تقوم على النصوص وتحقيق الوثائق، وبمعى عام علم الفيلولوجيا هو العلم الذي يبحث في
التراث الفكري المكتوب الذي خلفته امة من الأمم - والمنهج الفيلولوجي يقتضي لا ان يكتب المرء عن المذهب الذي يتبعه فحسب، بل وأن ينظر إلى المذاهب نظرة عامة بحسبانها صورة لتطور العقل الإنساني وللمحاولات التي قامت بها الروح الإنانية من اجل الكشف عن الحقيقة وإيجاد نظرة في الوجود تستطيع أن تعيش عليها وأن تسيرفي حياتها وفقها. وعلى هذا الأساس الجديد قام تاريخ الفلسفة متأثراً ايضاً بالفكرة التي خلفها رجال عصر النهضة عن المذاهب الفلسفية من ناحية أنها متضاربة متعارضة، فكان التاريخ الجديد للفلسفة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ينظر إلى الفلسفة ومذاهبها بحبانهما معرضاً لضلالات الروح الإنانية في تطورها وسيرها على مدى الزمان . وقد أوحى إليهم بهذه الفكرة الكتاب الذي كان عمدة كتب التاريخ إبان القرن الثامن عشر ونعني به كتاب بروكر: «التاريخ النقدي للفلسفة» ففي هذا الكتاب نرى الفلسفة قد نظر إليها من ناحية تطورها بحسبانها انحلالاً تدريجياً للعقل الإنساني في اكتشافه للحقيقة: ففى البدء عرف لإنسان اوأوحي إلى لإنسان بالحقائق لاولى وانتقلت هذه الحقائق إلى الآباء اليهود ومنهم إلى البابليين والآشوريين؛ ثم وصلت اخيراً إلى اليونانيين فانحلت وانحطت، لأنهم فرقوا وحدة الفلسفة او الحقيقة، وانقسموا حيالها إلى شيع ومذاهب متضاربة متعارضة. ومن هنا كان جميع مؤرخي الفلسفة طوال هذا القرن، ممن تأثروا ببروكر، يتحدثون في بدء كلامهم عما يمونه بالفلسفة البربرية، ويعنون بها كل فلسفة متقدمة على الفلسفة اليونانية. ولقد كان بروكر ومن حذا حذوه متأثرين في هذه النظرة إلى تاريخ الفلسفة بآباء الكنيسة امثال ترتليانوس وأثينا غورس فإن هذا الرأي قد ظهر عند هؤلاء الآباء بأوضح صورة، وكذلك تبدى بصورة جلية في كتاب القديس أوغطين «مدينة اله» (سنة ٤٢٦ م)، وكانت هذه الصورة التي عرضها هذا القديس هي التي اثرت في بروكر، خصوصا إذا لاحظنا ان بروكر هذا كان بروتستنتيا .
ولم يقتصر الأمر في هذا القرن على النظر إلى الفلفة اليونانية هذه النظرة، بل امتد أيضا إلى الفلسفة الحديثة . فنرى كوندياك يتحدث عن المذاهب الفلسفية بلهجة تشبه لهجة بروكروذلك في كتابه عن «المذاهب» (سنة ١٧٤٩).
-٣-
ومع هذا فيجب علينا أن نلاحظ أنه كان هناك من زمن بعيد، اي منذ مستهل القرن السابعم عشر، تيارآخرمعارض لهذا التيار، حاول اصحابه ان يجدوا في الفلسفة وحدة، وأن يوفقوا بين المذاهب المختلفة، وان يعدوا هذه المذاهب الفلسفية صوراً عدة للعقل الإنسافي وهو يتطور ناشداً الكمال أو الحقيقة الكاملة، ففي سنة ١٦٠٩ نشر جوكلنيوسكتابه «التوفيق بين الفلاسفة»، وفيه حاول أن يوفق بين المذاهب الفلسفية المختلفة على النحو الذي بيناه. وإلى جانب هذه النزعة قامت نزعة اخرى هي نزعة التلفيق éclectisme، ويرمى أصحابها من ورائها إلى اختيارما يرونه حقيقة في كل مذهب، فهم يعتقدون أن كل مذهب يحوي جزءا من الحقيقة، وما على المؤرخ إلا ان يكشف عن هذا الجزء الحقيقي من كل مذهب، وأن يضم جميع الأجزاء التي جمعها بعضها إلى بعض. وهذه النزعة نجدها ممثلة اولاً في كتاب جورج هورن الذي اشرنا إليه آنفاً، وعنهاأفصح في مقدمته لكتابه هذا ثم إنهامن ناحية اخرى أثرت في بروكر في كتابه المذكور سابقا. وكذلك أثرت في رجال الأنسكلوبديا كما نشاهد ذلك جلياً تحت مادة «التلفيق» éclectisme . وفي هذا الصدد يقول جورج هورن وبروكر إن مذهب التلفيق هو المذهب الوحيد الجدير بأن يتبعه مؤرخ الفلسفة. وعلى هذا نرى أن تاريخ الفلسفة في القرن الثامن عشرقد نظر إليه إما من ناحية نزعة التوفيق syncrétisme أومن ناحية نزعة التلفيق.
ولكنا نشاهد في هذا القرن ايضاً بذوراً لنزعة جديدة تريد القضاء على النزعة السابقة، لأن هذه النزعة السالفة لن تتطيع أن تتبين التطور المنطقي للمذاهب الفلسفية، ولا تتطيع أن تتصوران في التاريخ الفكري تتابعاً واستمراراً.
نجد بذور هذه النزعة الجديدة عند -يلاند. ففي كتابه عن «التاريخ النقدي للفلسفة» - وقد ظهر الجزء الأول منه سنة ١٧٣٧ - يقول إن طريقة جمع المذاهب وعرض الأفكار وبيان الأقوال وسرد الجمل الخاصة بكل فيلسوف لا تفيدنا مطلقا، اولاتؤدي على الأقل إلى فائدة كبيرة، وإنما المهم في تاريخ الفلسفة معرفة الصلة الوثيقة التي تربط هذا المذهب المعين بذاك الآخر، وأن نعرف كيف اعتمد المذهب الواحد على غيره من المذاهب، وكيف اعتمد الفكر اللاحق على السابق عليه مباشرة وبذلك نجد أنه علينا - على وجه العموم - القول بأن هنالك تطوراً لتاريخ الفلسفة، وان هذا التطوريسيرعلى نظام خاص وأن هذا النظام الخاص هوفي الأصل مقود بفكرة التقدم.
فكان من الطبيعي إذاً ان يأخذ بفكرة ديلاند هذه القائلون بفكرة التقدم. وعلى راس هؤلاء كوندورسيه الذي قال في كتابه «لوحة تقدم العقل الإنساني» (سنة ١٧٩٣) - وقد ظهر بعد وفاته بقليل - إن العقل ا لانساني ينحو نحو التقدم وإن هذا التقدم يبدأ باليونانيين. فالروح اليونانية هي أول روح استطاعت أن تكتشف الحقيقة اكتشافاً عقلياً على أساس أن الفلسفة-كماحددها سقراط-ليست مذاهب وأقوالاً، وإنما هي وسيلة يستطيع بها الإنسان أن يستخدم عقله على النحو الصحيح. ومن هنا ذهبت الفلسفة لبربرية المزعومة إلى غير رجعة، وأصبح بدء تاريخ الفلسفة الأيونية اليونانية؛ كما أن الفلسفة المسيحية لم يعد لها مجال في هذا التطور العقلي الجديد.
وهذه النظرة الجديدة إلى تاريخ الفلفة قد عبر عنها بوضوح رينهولدفي مقال كتبه بعنوان: «حول فكرة تاريخ الفلسفة» فقال إن النزعات السابقة كانت تتصور تاريخ الفلسفة بوصفهم معرضاً لضلال الروح الإنسانية أولانقسام هذه الروح على نفسها إلى شيع وآراء متضاربة والعلة في هذه النزعات هي انه لم يكن ينظر إلى الفلسفة نظرة حقيقية بل كانت نظرة شعبية أونظرة الجمهور. والبرنامج الذي وضعه «رينهولد» لتاريخ الفلسفة قد اتبعه تنيمان في كتابه عن «تاريخ الفلسفة». فقد حاول أن يصنف فيه المذاهب الفلسفية وأن يرجع هذا التصنيف إلى خصائص أصلية في طبيعة الروح لإنسانية,
وعلى هذا فقد بدأت نظرة جديدة إلى تاريخ الفلسفة، فإما ان يحاول الإنسان تصنيف المذاهب الفلسفية تحت أقسام عامة وقليلة وإماان يقول إن ثمت استمراراًفي التطورالفكري وإن المذاهب الفلسفية المختلفة ليست غيرلحظات في هذا التطور، أو خطوات في السبيل التي سلكتها الروح الانية وهي تبحث في الحقيقة أو في الوجود. فكأننا هنا إذن بإزاء نظرتين قد يمكن التوفيق بينهما، وقد يسلك لانسان إحداهما فحسب. ولهذا نرى مؤرخي الفلسفة في القرن التاسع عشرقد أخذوا بواحد من هذين الاتجاهين، أو أخذوا بالاثنين معاً: فأخذبالاتجاه الأول ديجرندو، الذي أرادأن يستعيض عن التاريخ الحاكي الواصف بتاريخ استقرائي، فقال إنه يجب علينا او يجب على المؤرخ أن يحدد أولاً الاسئلة التي لا بد للنفس الإنسانية أو للعقل الإنسافي أن يضعها لنفسه بإزاء الوجود، وتبعاً لاختلاف الإجابة عن هذه الأسئلة الرئيسية يكون اختلاف المذاهب الفلسفية
أما من ناحية ديجرندو نفسه فقد أرجع كل الأسئلة التي يمكن العقل الإنسافي أن يضعها لنفسه فيما يختص بحقيقة الوجود وطبيعته إلى سؤال واحد هو السؤال عن طبيعة المعرفة البشرية : والمذاهب الفلسفية المختلفة ترجع في اختلافها هذا إلى موقف كل منها بإزاء مثكلة المعرفة الإنسانية وأصلها.
وعلى نحو مشابه لما فعله ديجرندو نجد فكتور كوزان الذي اتخذ طريقة نجمع بين منهج عالم النبات الذي يقسم كل النباتات إلى أسر، وبين منج عالم النفس الذي يحاول إرجاع المذاهب إلى أصول في النفس الإنسانية. وعلى هذا قسم أولا المذاهب عدة أقسام وحاول من بعد ان يرجع هذه التقسيمات إلى الملكات الرئيسية التي تحويها النفس الإنانية، ففيها-كما رأىعلم النفس في ذلك الحين - قوى ثلاث : القوة المفكرة، والقوة الحاسة، والقوة النزوعية. والمذاهب الفلسفية المختلفة تنقسم بحسب كل ملكة من هذه الملكات، فلدينا إذا، في نظر فكتور كوزان، تصنيف للمذاهب الفلسفية امختلفة يرجعها إلى الملكات الثلاث الرثيسية الكاثنة في طبيعة النفس الإنسانية.
ري الرأي الآخر، وهو اا.رأي الذي يريد أن ينظر ال تاريخ الفلسفة على أنه حركة مستمرة مرتبطة الأجزاء أشد الارتباط وأن ليس المذهب الواحدفي العصرالواحدغيرلحظة من لحظات هذا التطور المستمر- أما هذا الرأي فقد أراد أصحابه أن يضعوا رابطة حزكية بين المذاهب المختلفة بمعنى أن كل مذهب إن هو إلا تطور وصدور عن مذهب سابق عليه. والفلسفة على هذا الأساس لا تسير في تطورها نحو مذهب بالذات أو من أجل خدمة غاية معينة، كما تصور ذلك رجال القرن الثامن عشر، وإنما الفلسفة وكل الحياة العقلية تسيرفي تطورها نحو الغاية العامة للإنسانية كلها ٠ وعلى رأس القائلين بهذه النظرة الجديدة إلى تاريخ الفلسفة أوجيست كونت الذي قال: «إن علما من العلوم لا يمكن أن يفهم مندونتاريخه الخاص، وهذ التاريخ مرتبط داثماً بتاريخ لانانية العام». ومعفى هذه العبارة أن الحال التي عليها أي علم من العلوم، في فترة من الفترات، مرتبطة بالحال السابقة عليها تمام الارتباط، كما أنها في المستقبل ستكون معينة ومرتبطة بالحالة التي سيكرن عليها العلم بعد هذه الفترة المعينة، وعلى هذا فلا نستطيع ان نفصل الماضي عن الخاضر، ولا الحاضر عن المستقبل، بل علينا ان نربط الجميع برباط واحد؛ كما ان هذه العبارة تدل من ناحية أخرى على أن التطور الانساني تطور واحد، مهما اختلفت مرافق الحياة الروحية، الواحد منها عن الآ.
فهناك من ناحية إذاً استمرار في التطور ومن ناحية أخرى هناك وحدة تسود كل خطوة من خطوات هذا التطور وتعلو عليها. اما النظرة إلى فصل تاريخ الفلسفة أو تاريخ الحياة الروحية وتقسبمه إلى اجزاء ، فهي نظرة الكاثوليك الذين لعنوا العصور القديمة، والبروتستنت الذين حملوا على العصور الوسطى، والمتحررين المحدئين الذين ينفون ان يكون في التاريخ ارتباط بين اجزائه المختلفة؛ أما الواقع فهوأن التاريخ مترابط كل الترابط، ومستمر في حلقاته. أما الحركات الفجائية فلا وجود لها في التاريخ وكذلك لا وجود للهوات غير المعبورة، وعلى حد تعبيرليبنتس : إن الطبيعة لا تعرف الطفرة. وعلى هذا الأساس لا بد في نظر كونت من أن نتصور التاريخ مستمرا، وهومن أجل هذا يقول بقانونهالمشهور المعروف بقانون الأطوار الثلاثة، وخلاصته ان العقل البشري في تطوره يمربأدوارثلاثة: هي الطوز اللاهوقي أو الطور غير العلمي المعتمد على الخرافات والتفسير بالخوارق، والطور الميتافيزيقى أوطور التجريد والعلل امجردة، نم أخيراً الطور الوضعي • ويجب اا نفهم من كلمة الاهوي أنه الخاص بالدين. وإنما لفظ إللاهوقي هنا يطلق على طريقة خاصة من طرق الفكر الإنساني في بحثه عن الحقيقة، ونعني بها أن يرجع الإنسان الظواهر الطبيعية إلى آلهة، أي ان الإنسان في هذا الطور لا يفهم القانون بانعنى المفهوم لدينا، بل يتمور الأشياء والظواهر على أنها معلولة لقوى خارقة على الطبيعة . ولهذا يصح أن نقول في علم الطبيعة منلا إن هناك تفكيراً اومنهجا لاهوتياً : فمثلا الفرض القائل بأن الكهرباء أو انتشار الضوء راجع إلى مادة هي الأثير، وإذا قلنا في علم النفس مثلا بأن ثمت نفسا إنسانية قائمة بذاتها هى التى تحدث كل الظواهرالنفية إذقلنابهذافإنناإنمانفكزتفكيراًلاهوتياً
كذلك الحال في الميتافيزيقا، أو في التفكير الميتافيزيقي. فليس المفصود بالتفكير الميتافيزيقي هنا أن نفكر في الجواهر والمبادىء والعلل أو في الموجود بما هو موجود، وإنما المقصون بالميتافيزيقا هو الارتفاع بالتفسير اللاهوقي إلى درجة من التجريد، رم وجود فكرة أولية عن القانون بمعنى ارتباط الظواهر بعضها ببعض ارتباطاً حقيقياً باستمرار اما عن الطور العلمي، فالعلم هنا بالمعنى المفهوم لدينا الأن، وهو أن يكون التفكيرقائماً على أساس من التجربة والواقع،
يقول اوجيست كونت إذاً إن التاريخ الروحي لل١ قد سار على هذا النحو، أي أنه قد ابتدأ بالتفكير اللاهوي، وارتفع منه إلى التفكير الميتافيزيقي، وأخيراً وصل إلى التفكير العلمي . والتفكيرالعلميهوالخطوةالنهاثيةوالأخيرةفينظركونت وعلى هذا لأساس يجب ان نقيم نظرتنا إلى تاريخ الفلسفة بأجمعه، فليس لنا أن ننظر إلى العصور القديمة أي العصر اليوناني على أنه أرقى في التفكيرمن العصر الوسيط، كما يجب علينا أيضاً الا نقول إن التفكير العلمي قد وجد في العصر القديم، وذلك لأن التفكير العلمي لا يمكن أن يجيء إلا إذا مر الإنسان بالطور اللاهوقي والطور الميتافيزيقي، وعلى هذا الأساس فإن الاتحاد بين العقل وبين التفكير اللاهوتي : وهو الاتحاد الذي تم في العصور الوسطى، لم يكن كما نظر إلي ذلك بروكر، شتاً عجيباً غبر معقول، وإنما كان شيئا طبيعيا ضروريا لكى ينتقل الإنسان من الطور اللاهوقي، الذي كان سائداً في العصور القديمة، إلى الطور الوضعي الموجود في العصر الحديث.
ومع هذا فيجب أن يلاحظ أن كونت في نظرته إلى تاريخ الفلسفة ل يكن ينظر إلى تاريخ الفلسفة امعنى المفهوم عادة لكلمة فلسفة، وإنما كان يقصد بهذا التاريخ تاريخ الحياة الفكرية أو الحالة السائدة من الناحية الروحية في عصر ما من العصور، وليست الفلسفة في الواقع إلا مظهراً - وهواوضح المظاهر- للحالة الروحية السائدة في عصر ما من العصور، ومن هنا نستطيع أن نفهم لماذا لم يكن كونت يستطيع أن يفرق بين تاريخ الفلسفة وتاريخ الفن والدين والسياسة.
ويشابه هذا الرأي الذي قال به أوجت كونت، ما قال به هيجل من أن تاريخ الفلسفة ليس إلا الروح المطلقة الكلية حين ينظر إليها من الخارج، أي بوصفها تعرض نفسها في الزمان . فإن الروح المطلقة لابدها على مدى الزمان أن تصل إلى إدراك ذاتها؛ وإدراكها لذاتها يتم بأن تصبح الروح موضوعا لذاتها؛ وبعد إدراكها لذاتها تعلوعلى الحالة التي هي عليها في فترة معينة، وترتفع إلى درجة أعلى وهكذا باستمرار والروح في هذا التطور تسيرعلى أساس المنهج الديالكتيكي، وخلاصته أن كل موضوع أو فكرة مرتبط أشد الارتباط وبدون انفصال عن اموضوع أو الفكرة المناقضة له، ولا بدمن بعد ن نرتفع فوق هذا التناقض بين الشيء ونقيضه لكي نصل إلى مركب يعلو على لاثنين ويرفع التناقض الموجود بين كلا الشيثين المتناقضين وهذا الشيء الثالث هو مايسمى باسم «مركب الموضوع» . ونستطيع أن نترجم هذه الألفاظ بقولنا : موضوع، ونقيض موضوع، ومركب موضوع. ومركب الموضوع هذا
يصبح موضوعا ثم لا يلبث أن يكون له نقيض موضوع، فيحتاج الأمر إلى مركب موضوع من جديد، وهكذا دواليك.
وعلى هذا النحو يير التاريخ، والتاريخ الفلسفي هو الآخر. وذلك بأن يأن مذهب من المذاهب يقول بفكرة ما، فيأتي مذهب آخريقول بفكرة مناقضة لهذه الفكرة، ثم يأتي من بعد مذهب ثالث يحاول أن يوفق بين المذهبين المتناقضين، أو أن يزيل ما بين الاثنين من تناقض. وهكذا يستمر تاريخ الفلسفة، فمهما اختلفت المذاهب الفلسفية، فهي ليست في الواقع غير وحدة واحدة، تجمعها الروح المطلقة التي تعرض نفسها في تاريخ الفلسفة، وكما أن الفلسفة ليست غير الروح المطلقة، منظورا إليها بغير الزمان، فكذلك الحال: ليس تاريخ الفلسفة غير الفلسفة نفسها، منظورا إليها من حيث الزمان.
فإذا رأينا اختلافاً بين المذاهب الفلسفية، فليس معنى هذا أنها مختلفة بالجوهر، وإنما كل مذهب خطوة سابقة بالضرورة على المذهب الذي يليه . وعلى هذا فإن المذهب اللاحق يتضمن المذهب السابق ويعلوعليه. والنتيجة لهذا هي أنه كلما تأخر المذهب كان أكثر تقدماً. لأنه سيحتوي كل المذاهب السابقة عليه، وقد أضيفت إليه أشياء جديدة ترتفع فوق الاختلاف الضروري الوجود بين المذهب الواحد والمذهب الآ.
ومن نظرتي كونت وهيجل هاتين، نستطيع أن نستخلص أن تاريخ الفلسفة قد تحدد منحاه تحديداً سابفاً، لأن هذا التاريخ سيسير على صورة إجمالية قد وضعت من قبل، لأنها توجد وجوداً جوهرياً في طبيعة العقل الإنساني فكأن هذه النظرة التي قال بها هيجل، وتلك الأخرى التي ارتاها كونت، لا تقومان على المشاهدة والاستقراء، ولا يمكن أن نقبل هاتين النظرتين إلا إذا قبلنا الأساسين الرئيسيين اللذين قامت عليهما كلتا الفلسفتين اللتين صدرتا عنهما.
أما البحث العلمي فلا يستطيع مطلقاً أن ينتهي إلى هذه النتيجة التي قال بها كل منهما وهذا نرى الفلاسفة ومؤرخي الفلسفة قد بدأوا يتحللون من هذه النظرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فنجد رنوفييه (١٨١٥ - ١٩٠٣ ) يقول إن الناظر إلى تاريخ الفلسفة لا يستطيع إلا أن يعترف بأن هذا التاريخ عبارة عن عدة مذاهب أوشيع متضاربة متعارضة، ولا يمكن القول مطلقاً إن هذا لاختلاف يمكن أن يزول أوإنه خلاف عرضي، فليس هذا الاختلاف اختلاف لحظة سيقضى عليه في اللحظة التالية من لحظات التطور، كما زعم هيجل؛ وليس تاريخ الفلسفة أيضا تقدما مستمرا نحو غاية ما من الغايات، أو نحو صورة معينة من صور التفكير هي المذهب الوضعي، كما ادعى كونت وأنصاره؛ وإنما هذا الاختلاف اختلاف جوهري اختلاف في طبيعة العقل البشري نفسه : لأن في طبيعة العقل البشري التناقض والتعارض. أما موضوع هذا لتناقض أو التعارض، فقد رأى رنوفييه أنه يرجع إلى التناقض الموجود بين فكرتي الجبر والاختيار، فكل المذاهب الفلسفية تدور حول هذه المشكلة، مشكلة الحرية والجبر. وعلى هذا فإن المذاهب الفلسفية ليست غيرمحاورة أبدية بين أنصارهذين لرأيين، وليس ثمت من جديد في موضوع الفلسفة، لأن كل تفكير فلسفي يدور حول هذا الموضوع.
لا جدة إذاً في اموضوع وإنما الجدة في الشكل فحسب. فقد تختلف الصورة التي يعطيها المفكر الواحد لهذه المسألة عن الصورة الأخرى التي يضعها مفكر اخرللفكرة عينها، أما الجوهر فواحد، وعلى هذا فليس للفيلسوف إلاً أن يأتي وكل ما عليه هو أن ينحاز إلى أحد الرأيين، وأن يصوغه في صيغة متلائمة مع العصر الذي وجد فيه ٠ ورأي رنوفييه هذا يمثل الحالة التي وصل إليها تاريخ الفلسفة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. فقد انصرف الناس عن التركيبات القبلية ولم يعودو يكتبون تاريخاً عاماً للفلسفة، بل أصبحوا يكتبون في أجزاء صغيرة، ونواح معينة من هذا التاريخ فنرى رجلا مثل اتسلر فيكتابه «فلسفة اليونانيين»، ودوهم في كتابه «نظرية العالم ابتداء من أفلاطون حتى كوبرنيكوس» - وفيه يدرس تطور مشكلة نظام العالم، ابتداء من أفلاطون حتى كوبرنيكوس - نقول إننا نجد الواحد من أمثال هؤلاء لا يكتب إلا عن التطور التاريخى لشكلة فلسفية ما. ثم إن الكتب التي حاولت أن تكون تاريخاً عاماً للفلسفة ، لم تشأ أن تكتب هذا التاريخ عل صورة إجمالية، قد حددها الذهن من قبل، وعلى أساسها قد افترض فتراضاً أن تاريخ الفلسفة سيكون، وإنما هذه الكتب تقدم لنا خلاصة عامة لكل الأبحاث الجزئية التي كتبت بالنسبة إلى نواحي تاريخ الفلسفة المختلفة ٠ ومن الأمثلة على هذا النوع كتاب رنوفييه : «الفلسفة التحليلية للتاريخ» . وظاهر من كلمة «التحليلية» المعنى الذي نقصده، وهو أن سير مؤرخ تاريخ الفلسفة، أومنهجه بالأحرى، سيكون منهجأ تحليلياً يقوم على الوثائق والكتب والرسائل الصغيرة المختلفة، بدلاً من السير على مذهب تركيي يفترض فيه سابقاً إن نلتاريخ لفلفي
قانونا معينا يسير عليه في تطوره . ولا يفوتنا أن نذكر كتاب إيبرفك : «تاريخ الفلسفة» وهو كتاب لا يعد تاريخاً للفلسفة بالمعنى الحقيقي قدر ما هوثبت بالمصادر المختلفة عن كل جزء معين من تاريخ الفلسفة . فهو أداة عمل أكنر من أن يكون كتاب تحصيل .
والسبب في هذه النظرة الجديدة إلى تاريخ الفلفة أنه قد دخل عاملان جديدان على تصور المؤرخين للفلسفة، وكان العامل الأول نتيجة للنهضة العظيمة التي نهضتها الدراسات الفيلولوجية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين حتى يومنا هذا . فقد اكتشفت نصوص كثيرة، وعني المؤرخون بعمل طبعات جديدة، وجدوا كثيراً في البحث عن الوثائق؛ وكانت نتيجة هذا كله أنه لم يعد ينظر إلى تقسبم العصور إلا من حيث ما لدينا من المواد عن كل عصر على حدة، أو عن كل فيلسوف من الفلاسفة. فالعصور القديمة إذا ما قورنت بالعصور الحديثة أو العصور الوسطى، نجد أن المواد الخاصة بها كانت ضئيلة قليلة، ولذا لم تكن العناية بها كبيرة. ثم إن معرفتنافي داخل العصور القديمة بالفلسفة الرواقية - مثلاً - أو الفلسفة الأبيقورية، أقل بكثير جذ من معرفتنا عن رجل كأرسطو وعلى هذا فإن منج المؤرخ مختلف تبعاً لاختلاف مقدار المواد وقيمة هذه المواد التي يجري عليها بحثه , ثم إن تفسيرنا للمذهب الواحد يختلف اختلافات عدة، وعلى هذا لا نستطيع أن نعطي صورة واحدة للفيلسوف الواحد
ومن هنا كات لدينا صعوبة كبيرة في كتابة تاريخ للفلسفة كتابة عامة تركيبية على أساس أنه يسير على قانون معين.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أز ا ن اخر مخالف للعامل الاول هو أننا لا نستطيع مطلقاً أن نفصل فلسفة الفيلسوف عن شخصه، كما فعل أصحاب النظرات السابقة أمثال هيجل وكونت. فهؤلاء قد ظنوا أن الفلسفة معناها الحقيقة فقط والحقيقة مجردة عن أصحايها والقائلين بها وعلى هذا لم يكن يعنيهم مطلقا أن يربطو بين الفيلسوف وبين مذهبه، ولم يكونوا يراعون ما هنالك من خلاف بين الفيلسن الواحد والفيلسوف لأخر ممن يتبعون مذهباً واحداً . والواقع أن التاريخ لا يسيرعلى هذا النحو: فإن للشخصية أكبر الأث في توجيه فكر الفيلسوف: والمهم لدينا في التاريخ هو معرفة ما أق به الفرد الواحد مختلفا عن الفرد الآخر، أي كل ما يصدر عن الذاتية والفردية. وعلى هذا الأساس فلا بد لنا أن ندخل في نظرنا في تاريخ الفلسفة عنصر الشخصية أو الفردية .
هذان العاملان قد أفضيا إلى نتيجتين مختلفتين: فالعامل الأول، أي المنهج الفيلولوجي، كان يحاول قدر استطاعته ان يبين اروابط والاستعارات ووجه القرابة والشبه بين المذاهب المختلفة . وغالى بعض أنصار هذه النزعة فيها فلم يعذالمذهب الفلسفى في نظر هؤلاء غير خليط من عدة مذاهب سابقة نستطيع ان نحله إليها . وقد سادت هذه النزعة خصوصاً في اواخر القرن التاسع عشر. أما في أوائل القرن العشرين فقد ظهرت النزعة الثانية، الفردية، وكان على رأس القائلين ب تريلتث، ثار أصحاب هذه النزعة الجديدة على النزعة التاريخية السابقة، وقالوا إن المهم في التطور التاريخي ليس أن نبين ما استعاره الشخص، وما أخذه عن هذا المذهب أوذاك، وإنما المهم أن نبين ما فعلمه الشخص المبدع بهذه الأفكار، والموقف الذي وقفه بإزائها على أساس أن هذا الموقف جديد، يدل على مدى ما لصاحبه من طرافة وشخصية.
ثم أضيف إلى هذين العاملين - أو بعبارة أدق إلى العامل الثافي - عامل ثالث هو عامل القوميات، خصوصا بعد أن تكونت القوميات واصبح الضمير القومي في كل البلاد الأوروبية ضميراً حياً مرهفاً . فإن هذا العامل قد اضطرنا إلى أن ننظر إلى شيءآخر في الفلاسفةغير الفردية، ونعي بذلك عال القومية. وعلى هذا الأساس نرى المؤرخين المحدثين لا يكتبون عن تاريخ عام للفلسفة الأوروبية، وإنما يكتبون عن تاريخ الفلسفة الفرنسية أو الفلسفة الألمانية أو الإنجليزية أو الإيطالية، إلخ.
فنرى دلبوسيكتب عن الفنسفة الفرنسية عامة، ونرى رودلف متس يكتب ع تاريخ الفلسفة الإنجليزية المعاصرة، ثم بنروبي يكتب عن تاريخ الفلسفة الفرنسية في القرن العشرين وآستر يكتب عن تاريخ الفلسفة الألمانية المعاصرة. ومعنى هذا كله أن كل فلسفة لها طابعها القومي الخاص. فلدينا إذاً اختلافات متعددة : الاختلاف في الفردية، والاختلاف في القومية، والاختلاف في الزمان. فكيف نستطيع أن نضع في المستوى الواحد مذاهب ختلفة الأصول من هذه النواحي الثلاث، وإن نسبت جميعا ووضعت تحت اسم واحد؟
تلك هي الحال التي كان عليها تاريخ الفلسفة في مستهل هذا القرن، اي إلى أن جاءت الحرب العظمى الأولى، وحينئذ
- أي بعد الحرب - بدأت محاولة جديدة كل الجدة للتوفيق بين النظرات المختلفة، وبخاصة النظرتين الأخريين اللتين تعرضنا لهما، ونعني بهما النظرة الفيلولرجية والنظ ة الفردية، بما نتضمنه من قومية وزمنية، وهذه المحاولة هي تلك التي قام بها فيلسوف نعده أكبر فلاسفة الحضارات، ونعني بم أوزفلد اشبنجلر.
يرى اشبنجلر أن التاريخ العام ينقم إلى عدة حضارات، عدها فوجدها ثماني، ورأى أن كل حضارة من هذه الحضارات تكون دورة مقفلة خاصة، بمعنى أن كل حضارة لها قانوغها الخاص الذي تسير عليه، وهي في هذا السيرمستقلة تمام الاستقلال عن الحضارة التالية عليها أو الموجودة معها أو السابقة عليها. ومعنى هذا أن حضارة كالحضار ة اليونانية مستقلة كل الاستقلال، من حيث ان لها خصائص معينة لا توجد في الحضارة الأوروبية، بل إن ثمت تعارضاً شديداً بين كلتا الحضارتين.
ولنذكر على سبيل المثال أن الحضارة اليونانية لم تكن تعرف اللامتناهى، بينما تسود الحضارة الأوروبية فكرة اللامتناهى ٠ ولهذا تجد هذه الخاصية تسود كل مظاهر الحياة الروحية اليونانية، كما ان خاصية اللانهائية تسود كل مظاهر الحياة الروحية الأوروبية . ففي الرياضيات لم تكن فكرة اللامتناهي موجودة عند اليونانيين، ولذا لم يستطيعوا أن يكتشفوا الأعداد اللاعقلية (الصماء)، كما لم يعرفو أيضاً حساب ا للامتناهيات، بينما قد وجد هذا الحساب في العصر الحديث على يد ليبنتس ونيوتن. وكذلك الحال في فكري الزمان والمكان، لم يكن ينظر إليهما في الفلسفة اليونانية على أنهما ا متناهيان. فمعنى هذا إذا أن لكل حضارة من الحضارات خصائصها المميزة لها. و-مذه الخصائص ينطبع كل تفكيروكل مرفق من مرافق الحياة الروحية الخاصة بكل حضارة.
والحفارات في تطورها تخضع جميع لقانون واحد ثابت. فالحضارة تنقم إلى أدوار هي كالفصول الأربعة بالنسبة للسنة: فهي تبدأ بربيع ١ و تعلو و تصل إلى لقمة في وقت هو صيفها، ثم يأي الشتاء بمعنى أن الحضارة يفى كل ما فيها من قوى فتموت. فهنالك إذا أربعة أقسام إلا أن كل قسمين يكونان شبئاً واحداً . ولذا تنقسم الحضارات بمعناها العام إلى قسم أول وهو الحضارة؛ وقسم ثان هو المدنية ,
والذي يعنينا الآن هو أن تطور الفلسفة في كل حضارة من الحضارات يتم تبعاً لهذا التفسيم. ففي دور الحضارة يسود علم ما بعد الطبيعة، وفي دور المدنية يسود علم الأخلاق والميتافيزيقا في اندور الأول مرتبطة أشد الارتباط بالرياضيات، بحسبان أن الرياضيات رموز للحياة الروحية ا موجودة إبان ذلك الطور. كما أنها من جهة أخرى مرتبطة بالدين. أما في دور المدنية، فالأخلاق مرتبطة أشد الارتباط بالاقتصاد السياسي، بدلاً من الرياضيات، وبقواعد لمعاملات، بدلاً من الد.
وفي الطور الأول - أي طور الحياة - تنكثف الحياة، بينما في الطور الثاني - أي طور المدنية - تصبح لحياة موضوعاً؛ والطور الأول يكون طور تأمل يبدأ إيمانياً ويصبح عقلياً فيما بعد، أما في الطور الثاني - أي طور الأخلاق والمدنية - فإن التفكير يكون عملياً قائما على أساس العاطفة وعلى أساس المنفعة العملية وينكر كل ما للعقل من قيمة في اكتشاف المعلومات. وبينما كانت مشاكل الوجرد الكبرى هي التي تثغل رجل الحضارة نرى أن الذي يعني رجل امدنية هومشاكل الحياة العملية، سواء أكان ذلك خاصاً بالفرد بوصفه فرداً، أم بالجماعة يوصفها جماعة، ففي الحضارة اليونانية نرى أن الرواقي كان يعى بجسمه، والرواقي هذا ينتسب بالطبع إلى دور المدنية، ويقابل هذا في الحضارة الحديثة ما يفعله أنصار المذهب الوضعي، من عنايتهم بالجماعة ٠ ومثل هؤلاء يسميهم اشبنجلر باسم المتواقتين، بمعنى أن الرواقي في الحضارة اليونانية القديمة يناظ ه صاحب المذهب الوضعي في الحضارة الأوروبية الغربية . والحضارة القديمة قد بلغت أوجها عند أرسطو وابتدأت المدنية بعد موته . أما الحضارة الحديثة فقد بلغت أوجها عند كنت ومن بعد كنت بدأت المدنية، ولهذا درى ان الفلاسفة الذين يبدو أنهم من يعنون بعلم ما بعد الطبيعة هم في الواقع مشغولون بالأخلاق، قبل أن يكونو مشغولين بعلم ما بعد الطبيعة. فشوبنهور لا يكتب الأجزاء الثلاثة الأولى من كتابه الموسوم باسم «العالم إرادة وامتثال» إلا من أجل الجزء الرابع وهو الخاص بالأخلاق بينما الأجزاء الأولى خاصة بنظرته فيما بعد الطبيعة ٠ وهيجل مثلاً قدأثر وأنتج لماركسية ٠
فعلى هذا الأساس نستطيع أن نقول إن للحضارة خصائص معينة، أو على حد تعبير نيتشه، إن لكل حضارة أسلويها الخاص وهذ الأسلوب يطبع كل فنان وكل سياسي وكل مفكر، في أية ناحية من نواحي الحياة الروحية، بطابعه الخاص. ولا نستطيع مطلفاً أن نفهم فيلرفاً من الفلاسفة إلا إذا عرفنا الخصائص المميزة للحضارة التي ينتمي إليها ٠ فأول
شيء يجب إذا على مؤرخ الفلسفة أن يعنى به هو أن يحدد خصائص الحضارة التى نشأت فيها تلك الفلسفة التى يعنى بدراستها، ثم يلاحظ من ناحية اخرى ان هناك قانوناً عاماً نابتاً بالتتبة لمختلف الحضارات : فكأننا نستطيع أن نقول إن هناك قانونا خاصا يسير عليه التطور الفلسفى ، لا بوصفه عاما، وإنما بوصفه تطوراً خاصاً بكل حضارة على حدة، ومن هنا يمكننا أن نرضي نزعة هيجل وأنصاره، من حيث إيجاد قانون عام يسير عليه التطور الروحي، ويلاحظ من ناحية ثانية، أن المشاكل ليست أبدية، وإنما كل مفكر وكل حضارة لها وله مشاكلهما الخاصة , وكل مشكلة من هذه المشاكل لا بد أن نحل تبعاً لخصائص كل حضارة على حدة وظروفها.
والشخص المبدع هو الذي يعك في روحم كل خصائص الحضارة التي ينتسب إليها، وبدوره يعطيها خصائص جديدة؛ فهو إذن سلبي يخضع لخصائص الحضارة من ناحية، وهومن ناحية أخرى إيجابي يخلق للحضاره ميزاتها ويضع لها قياً خاصة. ومعفى هذا ان للفردية والشخصية دخلاً كبيرا في تكوين كل فلسفة . وبهذا نكون قد أرضينا النزعة الفردية.