الفن الأخميني

لم تظهر الأسرة المالكة الأخمينية في فارس إلا اهتمامًا يسيرًا بالتطور الفكري أو العلمي، كما لم يعنوا بتوحيد حضارة إمبراطوريتهم المترامية الأطراف. وإذا كان ثمة إنجازات متفرقة في هذا الميدان فقد جاءت على أيدي رجال الدين، أو نتاج جهود فردية، بينما تخاذلت الحكومة عن مجرد محاولة الربط بين الحضارة الإيرانية والهندية من ناحية واليونانية من ناحية أخرى، تاركة مهمة ذلك للتفاعلات التلقائية العشوائية التي تحدث على حدود الإمبراطورية مع الدول المتاخمة أو داخل نطاق الإمبراطورية بواسطة الجنود الإغريق المرزتزقة، وكذلك العمال الإغريق الذين كان الملوك يستخدمونهم في إنجاز الأعمال الفنية. كما تلقت البلاد التأثيرات العلمية والتقافية على أيدي الوافدين من أصحاب المعرفة اليونانيين، وبصفة خاصة الأطباء، وكذلك على أيدي علماء الهند الذين وضعوا معارفهم الطبية في خدمة ملوك فارس.

ولقد تسللت فكرة الأخمينيين الدينية التي تستقطب الخير والشر إلى العالم القديم بأسره، فلجا الفنانون إلى استخدام موضوعات من التصاوير المحلية للآلهة والجان الحارسة أو الشريرة المسيطرة على البشر، فضلاً عن الموضوعات المتداولة بين الناس. واتسم تناول الفنانين لهذه الموضوعات بالجمود والتجرد من الانفعال الذي ظهر فيما بعد في فن التصوير الإسلامي وخاصة الفارسي منه. واقتصر الفنانون على تقديم مجموعة مشاهد ثابتة لا تتغير وإن تألقت روعتها كزخارف معمارية.

وإذا كان الأخمينيون قد أولوا زخارف النقش الخفيف البروز عناية خاصة مثلما هو الحال في برسيبوليس Persepolis. فإنهم لم يهتموا بالنحت المجسم إلا في تيجان الأعمدة. وقد لجاوا إلى أسلوبين في النقش الخفيف البروز، أحدهما اعتبار الكتلة الحجرية كلاً قائماً بذاته، وثانيهما استخدام عنصر متكرر يشكل تكويناً شاملاً (بانوراميا) كبيراً ناشئاً عن التجاوب بين العديد من العناصر.

ومن العسير إنكار تأثر الأخمينيين يالأفكار الأشورية والبابلية في مجال الزخرفة المعمارية، غير أن التقنية مختلفة، إذ تتجلى الرقة والعناية بالتشكيل والجهد الكبير في إضفاء الحيوية على الثياب بأطوائها وتموجاتها على غير ما هو معهود في ثياب الأشوريين مما يوحي بتأثرهم بالغرب. ولقد حرص داريوش على أن يكشف في ميثاقه عن أن النحاتين في برسيبوليس كانوا أيونيين وليديين من سارديس Sardis وأنهم قد تفوقوا على الفرس والميديين في الإيحاء بنسمة الريح المتموجة فوق سطح الحجر.

وإذا كانت برسيبوليس قد لجأت إلى تقنية بابل في الزخرفة بلوحات الآجر المزجج ولكن في حدود ضيقة أشد الضيق، بينما مضت تتوسع في النحت البارز على الحجر، فإن سوسة Susa. قد استخدمت النحت البارز في حالات نادرة، وغطت جدرانها بزخارف الآجر المزجج على نحو الطراز البابلي الحديث.

وكان عزوف الأخمينيين عن بناء المعابد وإقامتهم للشعائر الدينية في العراء أمام بيوت النار سببًا في غيبة كل من فني نحت التماثيل والتصوير الديني، فلم يعثر على أي مثال يمكن عن يقين نسبته إليهم. ولا نجد سببًا يفسر جمود الفنانين عن نحت التماثيل، وهم الذين لم يكتفوا بنحت أفاريز من النقش البارز تعدى طولها مئات الأمتار، بل برعوا أيضًا في تجسيد الثيران المكونة لتيجان أعمدة القاعات واستخلصوها بمهارة من الكتل الضخمة التي قدوها منها.

ولعل سر إحجامهم عن نحت التماثيل هو عزوفهم عن تجسيد الإنسان، وهو أمر يدعر إلى الحيرة نظرًا لما نلمسه من قدرة مثاليهم ومهارتهم. وعلى أية حال كان الفنان الأخميني يضفي شكلاً اسطوانيًا على شعر الرأس ويربط قمته بشريط ويصفه حول الأذنين ويهدل طرفي الشارب على شعر اللحية المربعة مراعيًا الملامح المميزة للجنس الفارسي كضيق الجبهة وتقوس الحاجبين وكبر العينين اللوزيتي الشكل، واستقامة الأنف الطويل .

وقد أثبت الأخمينيون إلى جانب تفوقهم في الفن المعماري وهيامهم بالزخارف الواسعة النطاق براعتهم في الأعمال التي تتطلب إلى جانب الذوق الرفيع الدقة التامة، أي الفن المتسم بالإبداع المفرط والبذخ في التكلفة sumptuous. فخلفوا كثرة من القطع الفنية النمطية وخاصة من الحلي والكؤوس المصنوعة من معادن تمينة. وتتجلى دقتهم الفنية في الأساور وآذان الكؤوس والحيوانات فبرهنوا على مهارتهم في صياغة المعادن. كما احتلت صناعة البرونز مكانة كبيرة في صناعة الأثاث والتماثيل الصغيرة.