الفكرة الجمهورية

الفكرة الجمهورية اصطلاحا هي الفكرة التي أتى بها الأستاذ محمود محمد طه المفكر السوداني ومن رواد النضال الوطني ضد استعمار الحكم الثنائي. في البدء كان الحزب الجمهوري لأنه ينادي بإنشاء جمهورية سودانية ديمقراطية، وآخيرا أصبحت دعوة متكاملة متعددة الجوانب ومبوبة في كثير من المصنفات التي ألفها الأستاذ محمود وتلاميذه، الاخوان الجمهوريون.

سنقوم باستعراض جزء من كتاب معالم على طريق تطور الفكرة الجمهورية الذي كتبه الاخوان الجمهوريون تلاميذ الأستاذ محمود محمد طه في العام1975 وهو كتاب يطرح افكار الجمهوريين وتطور فكرتهم. كما سنقوم أيضا باستعراض عدد من الكتب التي يستند عليها الجمهوريون في دعوتهم وباقتطاف فقرات مع الإشارة إلى موضع الفقرة المأخوذة.

المذهبية الإسلامية منذ البدء

يبدأ الكتاب بطرح أساس الدعوة الجمهورية وظروف نشأتها ودورها في العهد الاستعماري: (ان المتصفح لتاريخ الجمهوريين، يتضح له بجلاء، انهم ظلوا، منذ عهد الاستعمار، وفي مختلف عهود الحكم الوطني، ذوي رؤية واضحة، وأصحاب مذهبية ثابتة، تدور حولها حركتهم، وتنبثق منها مواقفهم.. وتلك هي المذهبية الإسلامية التي قوامها الحرية الفردية المطلقة، والعدالة الاجتماعية الشاملة.. لقد كانت الحركة الوطنية، التي انبجست من مؤتمر الخريجين العام، في الأربعينات، تعوزها المذهبية، وتنقصها الأصالة، والثقة بنفسها، وبشعبها، الأمر الذي جعلها تلوي رأسها تحت جناح الطائفية ابتغاء السند الشعبي، المتمثل في أتباع الطائفية، فاحتضنت طائفة الختمية الأحزاب الاتحادية واحتضنت طائفة الأنصار حزب الأمة وكان هؤلاء، وأولئك، يسخرون من انتجاع الجمهوريين منتجع المذهبية، ودعوة الشعب مباشرة ليلتف حولها، من غير استعانة بالزعماء الطائفيين الذين كانوا يقتسمون ولاء الشعب بينهم.. وكان يبدو للجميع أن طريق الجمهوريين هذا، طريق طويل، فالجميع يتعجلون كسب السند الشعبي بأقرب الطرق، وهو طريق كسب تأييد زعيم إحدى الطائفتين الذي تكفي اشارته فقط ليسارع أنصاره بتأييد الحزب المعين.. هذا أقرب الطرق لاستقطاب الشعب. أن احتواء الطائفية للحركة الوطنية أعطاها سلاح النفوذ السياسي إضافة إلى سلاح العقيدة الدينية، مما مكنها من رقاب الشعب ومن مقدراته، فاستطاعت أن تجمد وعيه، وأن تستغله وتساوم به، في ميادين السياسة.. وكان رجال الأحزاب خاضعين للطائفية، وكانت حصيلة البلاد، بعد قرابة العشرين عاما من الاستقلال، ألوانا من التخبط في حكم البلاد، وتخلفا مزريا في حياة الشعب.)

دور الجمهوريين في الحركة الوطنية السودانية

ويواصل الكتاب ليسجل موقف الجمهوريين ورأي الفكرة في رجال الاستقلال وقيادات الاحزاب: (اننا ونحن نسجل هذه الشذرات من تاريخ الجمهوريين، نلاحظ أن الحركة الوطنية قد ووجهت من الجمهوريين بالنقد القوي، بل العنيف أحيانا، لما رؤوا من تراخيها في مواجهة الإنجليز، وانعزالها عن الشعب، مما أوجد فراغا في ميدان الفكر بصفة عامة، وفراغا في ميدان الحماس بصفة خاصة، فكان لابد للجمهوريين من أن يملؤوا، في ذلك الوقت، فراغ الحماس، ويستنهضوا الحركة الوطنية لتتجاوب معهم.. ومن هذا المنطلق كان مايصدر منهم من كلمات يتسم بالصلابة والمواجهة الحاسمة ولكن لم يغب عن بالنا، نحن الجمهوريين، وماينبغي أن يغيب عن بال أحد، أن رجال الحركة الوطنية الآخرين قد أدوا دورا مقدرا في سبيل جلاء الاستعمار، وفي اتمام السودنة، وإقامة أول حكومة سودانية بعد الاستقلال.. فان الدور الذي قام به رجال مثل السيد علي الميرغني، والسيد عبد الرحمن المهدي، وأعوانهما من السياسيين، دور كبير.. ان صلات فريق منهم، وهم الاتحاديون، بمصر، وصلات الفريق الآخر، وهم الاستقلاليون، ببريطانيا، قد أذكت روح المنافسة بين دولتي الحكم الثنائي، وساعدت كثيرا على الاتفاق الذي تم في القاهرة، عام 1953، إذا اتفقت كلمة الاحزاب السودانية، اتحادية، واستقلالية، على قبول اقامة الحكم الذاتي واجراء الاستفتاء على مصير السودان : استقلالا أم اتحادا مع مصر.. وقبلت، من ثم، حكومتا مصر وبريطانيا مااتفق عليه السودانيون.. ولما قامت الحكومة الانتقالية استطاع السودانيون أن يختصروا الأمر، فلم يحتاجوا إلى اجراء الاستفتاء الشعبي على مصير السودان وانما اتفقت الاطراف المختلفة، وأعلنوا الاستقلال من داخل البرلمان، في أول يناير 1956م.. هذه هي فضيلة الحركة الوطنية.. ولكن الجمهوريين كانوا يرشحونها للاضطلاع بدور أعظم مما قامت به.. كانوا يريدونها أن تتجه إلى الشعب فترشّده وتفك اساره من قبضة النفوذ الطائفي الذي لايزال يعاني منه حتى اليوم.. وكان الجمهوريون يريدون اختصار التجارب وقطع الطريق أمام محاولات الحكم الفاشلة.. ولكن وقد وقع ما كان يحذره الجمهوريون فلاضير، فان التجارب تعجم عود الشعب وتورثه الحكمة، وتهديه إلى الصواب.. وبعد، هذه انطباعات عجلى عن هذا الفكر، جاءت حصيلة لطواف عابر، عبر سنوات ثلاثين، ستجد، كما قلنا، من التقويم) (ومنذ فجر الحركة الوطنية، أطلق الجمهوريون صرخة داوية، وقدّموا النذير العريان مبتدرين الدعوة، والعمل لعزل الطائفية عن الحركة الوطنية، ومؤكدين التوجه إلى الشعب مباشرة، لاستنهاضه حتى يمسك قضيته في يده، فيكافح، ويتحمل مسئولية تحرير نفسه، فاذا تم له التحرر من الأستعمار، وهو لابد تام، كانت الحرية عزيزة لديه، لايفّرط فيها أبدا، ولايدع المجال لعابث ليعبث بها وقد تقدم الجمهوريون الصفوف في صدق، وشجاعة، وواجهوا الاستعمار، فضربوا المثل الحي للثائر الذي لايضعف، ولايهادن ولايساوم.. ومع أن الجمهوريين كانوا قلة، قياسا بالأحزاب الأخرى، الأمة، والأشقاء، وغيرهم إلا أن مواقفهم الصامدة، الشجاعة، في مواجهة المستعمر، كانت تثير الاعجاب، وتلهب الحماس الوطني عند الشعب وقد دخل الأستاذ محمود محمد طه السجن، كأول سجين سياسي، في الحركة الوطنية في الأربعينات، لرفضه التوقيع على تعّهد يمنعه نشاطه السياسي.. وفي داخل السجن كان الأستاذ يعصي، ويخالف أوامر السجن، نكاية بالمستعمر، وتقليلا من شأنه، وتصغيرا له. فكان يودع الزنزانة، لأيام، عقوبة على هذا العصيان، وهذه المخالفات.. فتشيع أخباره خارج السجن، فيتلقفها الشعب، فتحرك فيه كوامن الوطنية والغيرة. لقد ضرب الجمهوريون -على قلة عددهم – مثلا فريدا في قوة المواجهة، والشجاعة، فكانوا يخطبون في المساجد، وفي المقاهي، وفي الأندية.. ويقومون بتوزيع المنشورات التي تهاجم المستعمر، على الشعب، وحتى على المسئولين من الحكام الأنجليز. ومن الوهلة الأولى اتجه الجمهوريون أيضا إلى المذهبية، فرشحوا الإسلام الواعي (راجع المقالين الاخوان الجمهوريون ومحمود محمد طه لمعرفة المزيد عن فهم الجمهوريين للإسلام)، وكانوا يعيبون على الأحزاب تفريطها في المذهيبة، وكانوا يحذّرون بأن عاقبة غياب المذهبية هي التخبّط بعد الاستقلال، والسير في التيه ((فقد يخرج الإنجليز غدا، ثم لانجد أنفسنا أحرارا، ولا مستقلين، وانما متخبطين في فوضى مالها من قرار)) هكذا كانوا يقولون.. ذلك بأن الاستقلال ليس هو ((استبدال الإنجليز بانجليز في أسلاخ سوداني)) ولقد وقع ما كان يخشاه الجمهوريون.. فجاءت تجارب الحكم، نحوا من عشرين عاما، كلها سير عشوائي متأرجح، تارة إلى اليمين، وتارة إلى اليسار.. ولقد صدقت أغلب نبوءات الجمهوريين حول تخبط الحكومات الوطنية، وسيطرة الهوس الديني على السلطة وإذاقة الشعب السوداني الأمرين.)

أسس الفكرة الجمهورية

نقد الاتجاهات الدينية الأخرى

قلنا أن الفكرة الجمهورية دعت إلى المذهبية الإسلامية منذ البدء.. ولكن أي إسلام دعت له الفكرة وبأي فهم للإسلام نادت!! هذا ما سنحاول استعراضه الآن..

فمع تنوع الدعوات للإسلام واختلاف الجماعات المتعددة كان ظهور الاخوان الجمهوريون صاحب الدور الأبرز في الساحتين السياسية والفكرية العربيتين والإسلاميتين، وذلك لرفض الفكرة الجمهورية مبدأ الدستور الإسلامي عن طريق الشريعة الإسلامية بفهم الدعاة السلفيين! ففي كتابه (الدستور الإسلامي؟ نعم ولا) يقول الاستاذ محمود محمد طه شارحا فهمه للدستور الإسلامي وللشريعة الإسلامية:

أول ما تجب الإشارة إليه هو أن الشريعة الإسلامية ليست هي الإسلام، وإنما هي المدخل على الإسلام.. هي طرف الإسلام الذي نزل إلى أرض الناس منذ أربعة عشر قرنا، وهي في بعض صورها تحمل سمة "الموقوتية" وهي من ثم قابلة للتطور، وهي في تطورها تنتقل من نص فرعي، في القرآن، تنزل، لأرض الناس من نص أصلي. وقد اعتبر النص الأصلي منسوخا، بمعنى أنه مرجأ إلى يومه، واعتبر النص الفرعي صاحب الوقت، يومئذ. فتطور الشريعة الإسلامية، في بعض صورها، إذن، إنما يعني انتقالها من نص، إلى نص، في القرآن.. فآية السيف، وأخواتها ليست، في الإسلام، أصلا وإنما هي فرع.. وقد تنزل الفرع، عن الأصل، بفعل الضرورة، ليكون قريبا لأرض الناس، حتى ينقلهم، على مكث، إلى الأصل.. فالأصل هي الآيات المنسوخة والفرع الآيات الناسخة.. فإذا كنا نتحدث عن الشريعة الإسلامية فيجب ألا نزج بآية لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي إلا إذا كنا ندعو إلى أن تتطور الشريعة، من آيات الإكراه، إلى آيات الاسماح. وهو أمر لا يدعو إليه، بل ولا يعقله دعاة الإسلام عندنا، إلى الآن. وهناك أمر خطير يجب تقريره هنا، وهو أن الشريعة الإسلامية ليست ديمقراطية، ولا هي اشتراكية، وإنما هي تقوم، في السياسة، على آية الشورى، وهي آية حكم الفرد الرشيد، الذي جعل وصيا على قوم قصر، وقد طلب إليه أن يحسن تربيتهم، ورعايتهم، وترشيدهم ليكونوا أهلا للديمقراطية. ويومئذ تتطور شريعتهم لتنتقل من فروع القرآن إلى أصوله - من آية الشورى إلى آيتي فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر فتكون بهذا التطوير أدخل في الإسلام من سابقتها. أو قل منها قبل أن تتطور. ومثل هذا يقال عن الاشتراكية، فإن شريعة الإسلام الحاضرة ليست اشتراكية، وإنما هي رأسمالية، أريد بها أن تكون مرحلة تسير الأمة السالفة إلى منازل الاشتراكية. ويومئذ تتطور الشريعة الحاضرة، بأن تنتقل من فروع القرآن إلى أصوله - من آية الزكاة الصغرى (الفرعية) خذ من أمولهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم، والله سميع عليم إلى آية الزكاة الكبرى (الأصلية) يسألونك ماذا ينفقون قل العفو . ففي الشريعة الحاضرة ليست هناك ديمقراطية ومن ثم ليس هناك دستور إسلامي.. وكل حديث عن الدستور الإسلامي من الذين لا يرون تطوير الشريعة الإسلامية إنما هو جهل مزدوج - جهل بالإسلام، وجهل بثقافة العصر.. وهو ما يقوم عليه أمر دعاة الإسلام عندنا. ونحن نحب أن نقول لهم في ختام هذه المقدمة أنكم إن لم تفهموا حقيقة الإسلام، وطبيعة ثقافة العصر الحاضر، فمن الخير أن تكفوا عن الدعوة إلى الإسلام.. وإلا فإنكم تحملون وزر تعويق الدعوة إليه بجهالات تحاولون أن تلصقوها به، وهو منها براء.. وستكون حصيلة محاولتكم تأخير قافلة الدعاة الحقيقيين بعض الوقت. وبحسب المرء من الشر أن يعوق بجهالته، دعوة الخير، ولو لحظة واحدة، وهو يعلم.

وفي كتابه (قل هذه سبيلي) يقول:

الحزب الجمهورى دعوة إلى مدنية جديدة تخلف المدنية الغربية المادية الحاضرة التي اعلنت افلاسها بلسان الحديد والنار في هذه الحروب الطواحن التي محقت الارزاق وازهقت الارواح ثم لم تضع اوزارها الا وقد انطوت الضلوع على حفائظ تجعل فترة السلام فترة استعداد لمعاودة الصيال من جديد بصورة أكثر بشاعة واشد تسعيرا.. والفلسفة الاجتماعية التي تقوم عليها تلك المدنية الجديدة ديمقراطية اشتراكية تؤلف بين القيم الروحية وطبائع الوجود المادى تاليفا متناسقا مبرأ على السواء من تفريط المادية الغربية التي جعلت سعى الإنسانية موكلا بمطالب المعدة والجسد ومن افراط الروحانية الشرقية التي اقامت فلسفتها على التحقير من كل مجهود يرمى إلى تحسين الوجود المادي بين الأحياء، وطلائع هذه المدنية الجديدة اهل (القرآن) الذين قال تعالى فيهم (وكذلك جعلناكم امة وسطا) أي وسط بين تفريط الغرب المادى وافراط الشرق الروحانى ودستور هذه المدنية الجديدة (القرآن) الذي تقدم بحل المسالة التاريخية التي اعيت حكمة الفلاسفة: مسالة التوفيق بين حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة وحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة.. وسمة هذه المدنية الجديدة الإنسانية فانها ترى ان الاسرة البشرية وحدة وان الطبيعة البشرية حيث وجدت فهى بشرية وان الحرية والرفاهية حق مقدس طبيعى للاسود والأبيض والاحمر والاصفر.'

موقف الفكرة من القضايا العالمية

تنطلق الفكرة في فهمها للإسلام من حقيقة مقررة وهي ضرورة فك التعارض بين الفرد والجماعة وفي هذا يقول الأستاذ محمود في كتابه (الرسالة الثانية من الإسلام):

فالحرية في الإسلام مطلقة، وهي حق لكل فرد بشري، من حيث أنه بشري، بصرف النظر عن ملته أو عنصره، وهي حق يقابله واجب، فلا يؤخـذ إلا بـه، وهـذا الواجب هـو حسن التصـرف في الحـرية. فلا تصبح الحرية محدودة إلا حين يصبح الحر عاجزا عن التزام واجبها، وحينئذ تصادر في الحدود التي عجز عنها، وتصادر بقوانين دستورية.. والقوانين الدستورية في الإسلام هي القوانين التي تملك القدرة على التوفيق بين حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة، وحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة، فهي لا تضحي بالفرد في سبيل الجماعة، ولا بالجماعة في سبيل الفرد، وإنما هي قسط موزون بين ذلك.. تحقق حين تطبق، بكل جزئية من جزئياتها، مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة في آن معا، وفي سياق واحد.

وفي الفكرة الجمهورية فإن الشريعة الإسلامية التي قامت في القرن السابع وما تلته من قرون غير صالحة لإنسانية القرن العشرين بل ما يصلح لهذه الإنسانية هي الإسلام في اصوله لا في فروعه.. ومن أصول الإسلام في الفكرة الجمهورية هو الانفتاح على ثقافة العصر وأخذ ما هو صالح منها وفي رأي الفكرة أن الإسلام (اشتراكي ديمقراطي) وما مرحلة (حكم الفرد) و(الرأسمالية) الا حكم وقت لا يصلح نقله لهذا العصر.. وعليه فإن (الجهاد) ليس أصلا في الإسلام.. بل فرع اقتضته ظروف محددة عن هذا الأمر يقول الاستاذ محمود في كتابه سابق الذكر: ((الجهاد ليس أصلا في الإسلام)) الأصل في الإسلام أن كل إنسان حر، إلى أن يظهر، عمليا، عجزه عن التزام واجب الحرية، ذلك بأن الحرية حق طبيعي، يقابله واجب واجب الأداء، وهو حسن التصرف في الحرية، فإذا ظهر عجز الحر عن التزام واجب الحرية صودرت حريته، عندئذ، بقانون دستوري، والقانون الدستوري، كما سلفت إلى ذلك الإشارة، هو القانون الذي يوفق بين حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة، وحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة، وقد قررنا آنفا أن ذلك هو قانون المعاوضة. هذا الأصل هو أصل الأصول، وللوفاء به بدئت الدعوة إلى الإسلام بآيات الاسماح، وذلك في مكة، حيث نزلت ((ادع إلى سبيل ربك بالحكمة، والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين)) وأخواتها، وهن كثيرات، وقد ظل أمر الدعوة على ذلك ثلاث عشرة سنة، نزل أثناءها كثير من القرآن المعجز، وتخرج أثناءها من المدرسة الجديدة، كثير من النماذج الصالحة، من الرجال والنساء والصبيان. وكان المسلمون الأولون يكفون أذاهم عن المشركين، ويحتملون الأذى، ويضحون، في صدق ومروءة، في سبيل نشر الدين، بكل أطايب العيش، لا يضعفون ولا يستكينون.. يبينون بالقول البليغ، وبالنموذج الصادق، واجب الناس، في هذه الحياة، نحو ربهم، بإخلاص عبادته، ونحو بعضهم، بصلة الرحم، وإصلاح ذات البين.)) ويستطرد الاستاذ قائلا: ((فإذا أصر الناس، بعد ذلك، على عبادة الحجر الذي ينحتون، وعلى قطع الرحم، وقتل النفس، ووأد البنت، فقد أساءوا التصرف في حريتهم، وعرضوها للمصادرة، ولم يكن هناك قانون لمصادرتها، فلم يبق إلا السيف، وكذلك صودرت.)) وروح الجملة السابقة في قوله (ولم يكن هناك قانون لمصادرتها) ويمكن أن نفهم أن السبب في اقرار الجهاد هو ثقافة العصر التي كانت لا ترتدع الا بقوة السيف، وفي ظل غياب القانون نشأ الجهاد للدفاع عن النف أولا ثم للدفاع عن الدعوة ثانية.. ومن هذا يفهم أنه إذا كان هناك قانون يحمي النفس ويحمي الدعوة (كما هو الآن) فإن الدعوة للجهاد لا تتسق وروح الدين. وعلى هذا الأمر انبنى أمر آخر وهو أمر الرق فهو أيضا وبنفس الصورة يصير غير أصلا في الإسلام. وعدم المساواة بين الرجال والنساء ليست أصلا في الإسلام، وتعدد الزوجات، والطلاق، والحجاب، والمجتمع المنعزل رجاله عن نسائه. هذا ما كان من أمر الفكرة الجمهورية في هذه القضايا وللفكرة فهما دقيقا لبناء المجتمع وصور الحكم يمكن مطالعته في كتبها بـ موقع الفكرة

العالمية بدل العنصرية

لقد قيم الجمهوريون دعوة القومية العربية كدعوة عنصرية، تضلل العرب، وتصرفهم عن أصالتهم، وتراثهم، وتضعهم لقمة سائغة في ساحة الصراع الدولي.. وقدّموا فهمهم للإسلام، والإقليمية بديلا عن القومية العربية، فان الإسلام (على حد زعمهم)بفكره الواعي، يمثل الروح، والإقليمية، باطرادها، تمثل الهيكل لنظام الحكم العالمي المرتقب، الذي تكون في قاعدته حكومات الاقطار، والحكومات الإقليمية، وفي قمته الحكومة العالمية التي تمثل هيئة الأمم المتحدة الحاضرة نواتها.. إن الجمهوريين لم يدعوا للإسلام تعصبا، وتقليدا، وانما كانت دعوتهم اليه عن فهم واقتناع بأحقيته، وجدارته وقدرته على اقناع العقل المعاصر، وذلك هو ما اصطلح الجمهوريون على تسميته بالمرحلة العلمية من الإسلام، في حين كانت المرحلة الماضية منه هي مرحلة العقيدة.. وعليه فإنهم قد كانوا في نقد دائم للنظام الناصري بمصر ولنظام البعث بسوريا والعراق وكانوا ضد التكتلات القومية بصورة كبيرة.. ولقد أخرجت الفكرة الجمهورية كتابا، في عام 1967 عقب النكسة مباشرة، بعنوان (مشكلة اشرق الأوسط) قدمت فيه نقدا كبيرا لعبدالناصر كرئيس لأكبر دولة بالمنطقة ودعت فيه للاصطلاح مع إسرائيل ومما جاء فيه: (كان، ولا يزال، اعتراف العرب بإسرائيل، بالنسبة لإسرائيل أعز امانيها، لانه يوفر عليها حالة الخوف، والتوتر، والقلق ـ التي ارقت لياليها، وشغلت أيامها، كما يوفر عليها الجهد والمال، وهى في سبيل هذا الاعتراف يمكن ان تساوم إلى حدود بعيدة لا تقف عند حد إعادة اللاجئين إلى ديارهم، وتعويضهم عن ممتلكاتهم، ولا عند حد الجلاء عن الاراضى العربية التي احتلتها في 5 يونيو، وانما تذهب إلى الرجوع إلى الحدود التي بينها قرار التقسيم الاصلى الذي اتخذته الأمم المتحدة في التاسع والعشرين من نوفمبر عام 1947. وهى حدود قد تخطتها إسرائيل، وتوسعت عليها عقب كل معركة من المعارك التي نشبت بينها وبين العرب منذ 15 مايو عام 1948. ولكن العرب يرفضون هذا الاعتراف بدولة إسرائيل، وهم، ان اردت الدقة، لا يرفضونه الا شكلا، ولا يرفضونه الا قولا.. ولكنهم مضمونا، وعملا، لا يرفضونه.. هذا من أشد الامور مدعاة للاسف، وهو في نفس الوقت من أدل الدلائل على جهل القيادات العربية، وقلة حنكتها، ذلك بان إسرائيل في فترة الاصرار على عدم الاعتراف بها قد تقوت ولا تزال تتقوى، عسكريا، وسياسيا، ودبلوماسيا، واقتصاديا، وبشريا. ثم هي ستنال الاعتراف الكامل بها بعد أن تفرضه وبعد أن يكون العرب كما هو واضح الآن، قد قدموه على أقساط، وبعد أن يكون على ذلك قد فقد قيمة المساومة التي كان ولا يزال يحظى بها.. فكأن إسرائيل ستحرز اعتراف العرب بها بدون أن يقبض العرب من إسرائيل ثمن هذا الاعتراف. ورفض العرب الاعتراف بإسرائيل يقوم على كبرياء زائف!! كيف يجلسون ليتفاوضوا، على مائدة واحدة، مع من أغتصب أرضهم؟؟)

راجع هذه الكتب للأستاذ محمود محمد طه

  1. - السفر الأول
  2. - قل هذه سبيلي
  3. - اسس دستور السودان
  4. - الرسالة الثانية من الإسلام
  5. - رسالة الصلاة
  6. - الدستور الإسلامي نعم، لا
  7. - الديباجة

مراجع

  • الفكرة الجمهورية على الإنترنت [١]