عدالة اجتماعية
العدالة الاجتماعية (بالإنجليزية: Social Justice) هي العدالة من حيث توزيع الثروة، والفرص، والامتيازات داخل المجتمع. في الحضارة الغربية وكذلك في الحضارات الآسيوية القديمة، غالبًا ما يشير مفهوم العدالة الاجتماعية إلى عملية ضمان قيام الأفراد بأدوارهم المجتمعية والحصول على ما يستحقونه من المجتمع. في حركات العدالة الاجتماعية الحالية، رُكز على كسر الحواجز للحراك الاجتماعي، وإنشاء شبكات الأمان، وتأمين العدالة الاقتصادية. تختص العدالة الاجتماعية بالحقوق والواجبات في مؤسسات المجتمع، ما يمكّن الناس من الحصول على الفوائد الأساسية والتعاون. وغالبًا ما تشمل المؤسسات على الضرائب، والتأمينات الاجتماعية، والصحة العامة، والمدارس الحكومية، والخدمات العامة، وقانون العمل، لضمان توزيع عادل للثروة، وتكافؤ الفرص.
التفسيرات التي تربط العدالة بعلاقة متبادلة بالمجتمع تتأثر بالاختلافات في التقاليد الثقافية، التي يؤكد بعضها على المسؤولية الفردية تجاه المجتمع والبعض الآخر على التوازن بين الوصول إلى السلطة واستخدامها المسؤول. كما يُستشهد بالعدالة الاجتماعية اليوم أثناء إعادة تفسير الشخصيات التاريخية مثل بارتولومي دي لاس كاساس، في المناقشات الفلسفية حول الاختلافات بين البشر، وفي الجهود المبذولة من أجل المساواة بين الجنسين، ومع تأمين المساواة العرقية والاجتماعية، للدفاع عن العدالة للمهاجرين والسجناء، والبيئة، والمعاقين جسديًا وعقليًا.
بينما يمكن العثور على مفاهيم العدالة الاجتماعية في المصادر الفلسفية الكلاسيكية والمسيحية، من أفلاطون وأرسطو إلى أغسطينوس من هيبون وتوما الأكويني، فمصطلح «العدالة الاجتماعية» وجد استخداماته المبكرة في أواخر القرن الثامن عشر رغم أنه كان من الناحية النظرية أو العملية غير واضح المعنى. وهكذا كان استخدام المصطلح في وقت مبكر خاضعًا لاتهامات التكرار، بالإضافة للتأنق البلاغي في أغلب الأحيان، ولكن ليس بالضرورة، فيما يتعلق بتضخيم وجهة نظر واحدة لعدالة توزيع الدخل. في صياغة وتعريف المصطلح في أطروحة علمية اجتماعية للقانون الطبيعي للويجي تاباريلي سي جي، في أربعينيات القرن التاسع عشر، أسس تاباريلي مبدأ القانون الطبيعي الذي يتوافق مع المبدأ الإنجيلي للحب الأخوي – أي أن العدالة الاجتماعية تعكس الواجب المفروض على المرء تجاه الآخر في الوحدة المجردة المترابطة للشخص البشري في المجتمع. بعد ثورات عام 1848 انتشر هذا المصطلح بشكل عام من خلال كتابات أنطونيو روزميني سيرباتي.
في الثورة الصناعية المتأخرة، بدأ علماء القانون الأمريكيون التقدميون في استخدام المصطلح أكثر، وخاصة لويس برانديز وروسكو باوند. ومنذ أوائل القرن العشرين، دُمجت بالقانون الدولي والمؤسسات الدولية. وأشارت ديباجة إنشاء منظمة العمل الدولية إلى أنه «لا يمكن إرساء سلام عالمي ودائم إلا إذا كان قائمًا على العدالة الاجتماعية». في وقت لاحق من القرن العشرين، أصبحت العدالة الاجتماعية محورية في فلسفة العقد الاجتماعي، في المقام الأول من قبل جون رولز في نظرية العدالة (1971). وفي عام 1993، يتناول إعلان وبرنامج عمل فيينا العدالة الاجتماعية باعتبارها غرضًا من أغراض التثقيف في مجال حقوق الإنسان.
مفاهيم
شاع التمييز بين "العدالة الشكلية" (القانون) والعدالة المادية (الأخلاق والسياسة)، هذا على الرغم من أن بعض منظرى العدالة يتناولون المفهومين على أنهما متوازيان ومتداخلان، ويذهبون الى القول بأنه طالما أن العدالة القانونية أو الجنائية تتم بتوزيع أنواع العقاب على المذنبين، فإنها تتشابه كثيراً مع العدالة الاجتماعية، التى تتعامل مع توزيع الامتيازات النادرة "والأضرار" على السكان؛ ويتأسس كلا النوعين من العدالة على أفكار الإجراءات الصحيحة، والنزاهة، والتوزيع وفقاُ لمعايير ملائمة. وكان التراث الأقدم حول العدالة يميز عادةً بين العدالة الاجتماعية (والتى كانت تسمى فى الغالب العدالة التوزيعية) وعدالة الجزاء (العقابية). وبقوم النوع الأخير على أن المذنب يجب أن يعاقب لأن الفعل الخاطئ الذى ارتكبه يجب أن يواجه بالعقاب، بصرف النظر عما يترتب على هذا من ردع السلوك الخاطئ، أو الإسهام بأية صورة فى الصالح العام. ولهذا فإن نظرية العقاب ليست سوى نظرية واحدة فحسب من نظريات العدالة الجنائية.
تصنيفات العدالة الاجتماعية
غالباً ما يظهر تمييز بين خمسة أنواع (وذلك سيراً على منوال إيكهوف فى كتابه: العدالة: وتأثيراتها على التفاعل الاجتماعى، الصادر عام 1974) هى:-
- التساوى أو التبادل العادل، حيث تعرف المساواة على أنها التوازن بين معدلات المدخلات والمخرجات بالنسبة لكل الأطراف الداخلين فى علاقة التبادل.
- والعدالة التوزيعية، أو التوزيع العادل، ويشتمل على التوزيع الذى يقوم به أحد الأطراف للموارد والحقوق والواجبات أو أى شئ آخر على جماعة من الفاعلين.
- والعدالة الإجرائية، أو الإجراءات والآليات العادلة، والتى تعترف بأن الإجراء العادل المتفق عليه يمكن مع ذلك أن ينتج عنه توزيع للعوائد قد يعده البعض غير عادل.
- وعدالة الجزاء أو العدالة العقابية، أو التعويض العادل، والتى تتصل بالعدالة فى توزيع العقوبات أو مستوى التعويض الذى تحصل عليه الضحية.
- وأخيراً العدالة كمساواة -والتى يمكن أن تكون تكافؤاً فى الفرص، أو مساواة فى الناتج الموضوعي، أو المساواة الذاتية "Subjective Equality" (أى المساواة فى العوائد مع الأخذ فى الاعتبار مبدأ الحاجة إلى العدالة أو مبدأ استحقاق الثواب أو العقاب). أو مساواة فى التراتب (والتى تلتزم عملية توزيع الإثابات فيها بالتوقعات المعيارية وذلك من أجل تجنب الشعور بالظلم أو بعدم المساواة)، أو التساوى (أى المساواة فى ضوء إسهامات الأفراد). وسوف يتضح لنا فيما يلى أن هذا الموضوع يزخر بشتى أنواع التنميطات والتصنيفات.
حركات العدالة الاجتماعية
هنالك عدد من الحركات التي تعمل على نشر وتطبيق العدالة الاجتماعية. تبذل هذه الحركات مجهود للوصول إلى عالم يمتلك فيه جميع أعضاء مجتمع ما، بغض النظر عن خلفياتهم، حقوق الإنسان الأساسية والمساواة. من أشهر تلك الحركات الدولية، «حركة العدل الدولية» (بالإنجليزية: Global Justice Movement).
حزب الخضر
إن العدالة الاجتماعية، التي تسمى أيضا عند الخضر «المساواة العالمية والاجتماعية والعدالة الاقتصادية» (بالإنجليزية: Social and Global Equality and Economic Justice)، تعد أحد الأركان الأربعة لحزب الخضر Four Pillars of the Green Party. يعرف حزب الخضر الكندي العدالة الاجتماعية بأنها «التوزيع المتساوي للموارد لضمان بأن الجميع لديهم فرص متكافئة للتطور الاجتماعي والشخصي».
وجهات النظر المختلفة للعدالة الاجتماعية
لا تقتصر الأطروحات حول العدالة الاجتماعية على علم الاجتماع فحسب، بل تظهر أيضاً فى الفلسفة، وعلم السياسة، والسياسة الاجتماعية، وعلم النفس، والقانون بطبيعة الحال، فالعدالة تعد معياراً أخلاقياً محورياً فى الحياة الاجتماعية، وينظر إليها بشكل عام على أنها تلعب دورا رئيسياً فى النظرية الاجتماعية وابفعل الاجتماعى، ومن ثم فليس بمستغرب أن يحظى المفهوم بدراسة مستفيضة فى كل العلوم الاجتماعية (ومن أفضل الكتب التى غطت المفهوم بطريقة تظهر تعدد المداخل فى دراسته الكتاب الذى أشرف كوهن على تحريره بعنوان: العدالة: وجهات نظر العلوم الاجتماعية، الصادر عام 1986).
وثمة طائفة عريضة من المبادئ المتاحة لتنظيم مظاهر عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية، الأمر الذى يجعل مفهوم العدالة الاجتماعية موضوعا لخلاف جم. فالإيديولوجيات السياسية المختلفة لديها مبادئ مختلفة للعدالة. ومن بين المفهومات والنظريات المتنوعة التى قدمتها هذه الإيديولوجيات تلك التى تدور حول الاستحقاق، والأهلية، والمساواة فى العائد، وتكافؤ الفرص، والحاجة إلى العدالة، والتفاوت الوظيفي، وجميعها مفاهيم تبدو أكثر المفاهيم اتصالاً بعلماء الاجتماع وأعمالهم.
جون رولس
يعتمد الفيلسوف السياسي الليبرالي جون رولس (1921-2002) (بالإنجليزية: John Rawls) على رؤى الفيلسوفان النفعيان، جيرمي بينثام (بالإنجليزية: Bentham)، وجون ستيوارت ميل، وأفكار العقد الاجتماعي عند جون لوك، وأفكار كانت. وكان أول تعبير له عن نظريته في العدالة الاجتماعية في كتابه «نظرية في العدالة» (بالإنجليزية: A Theory of Justice) الصادر عام 1971.
في كتابات جون رولس، تعتبر العدالة الاجتماعية فكرة فلسفية لا سياسية. كما تعد من الأركان الأربعة لحزب الخضر التي تعتقد بها جميع أحزاب الخضر في العالم. يستخدم البعض العدالة الاجتماعية لوصف التحرك الدولي باتجاه تطبيق العدالة الاجتماعية في العالم. وتشكل حقوق الإنسان والمساواة أهم دعائم العدالة الاجتماعية.
الحريات الأساسية عند رولس هي حرية الفكر، حرية التعبير والصحافة، حرية التجمع، حرية العمل المشترك، حرية التنقل، حرية اختيار الوظيفة.
وتبدأ معظم المناقشات الأكاديمية الدائرة حول مفهوم العدالة من المبدأ الذى طرحه جون رولس و أطلق عليه "مبدأ الاختلاف"، و الذى يؤكد أن صور عدم المساواة فى توزيع المزايا النادرة (كالقوة والنقود والخدمة الصحية أو أية ميزة أخرى) لا يمكن تبريرها إلا إذا عملت على زيادة منافع الجماعات الأقل حظاً فى المجتمع (انظر كتاب رولس المعنون: نظرية فى العدالة، والصادر عام 1972). والأمر الذى يجعل هذا المبدأ مبدأ للعدالة وجود الفكرة التى مؤداها أن العدالة تتشكل بالنظر إلى المجتمع من موقف مكتمل لا يتجزأ، أو من "موقف أصلى" متخيل هذا من وجهة نظر رولس - يتم فيه التوصل إلى اتفاق يبرمه أفراد يتصور أنهم قادرين على إدراك مصالحهم إدراكا عقلانيا، مع أنهم محرومون من المعلومات حول ما يمتلكونه من مهارات وخصائص، وهم يختارون لحياتهم من وراء قناع من الجهل. وفى رأى رولس أن الأفراد الممقيدين على هذا النحو عن تحقيق الاختيار المكامل غير المنحاز، سوف يحرصون كل الحرص على تعظيم رفاهية الأعضاء الأقل حظا فى المجتمع، خشية أن يسقطوا هم أنفسهم الى تلك الهاوية، ومن ثم فإنهم لا يسمحون بوجود صور اللامساواة إلا إذا كانت تسهم فى رفاهية الفقراء. وتشكل هذه القضية جزءاً من نظرية رولس حول "العدالة كنو ع من الاعتدال"، وهى نظرية تقوم على مبادى ثلاثة، وهى مبادئ قد تتصادم مع بعضها البعض أحياناً، و لهذا السبب فإننا نصنفها تبعاً للترتيب من البسيط إلى المعقد على النحو التالى: مبدأ الحرية المتساوية إلى أقصى حد (حيث يكون لكل شخص حقاً متساوياً فى الحصول على أكبر قدر ممكن من نظام الحريات الأساسية، يتوافق مع نظام مشابه لنظام الحرية للجميع). ويأخذ هذا المبدأ أولوية مطلقة على مبدأ تكافؤ الفرص (حيث تصبح المواقع الوظيفية مفتوحة للجميع بشروط يحظى فيها الأشخاص الذين لهم قدرات متشابهة بفرص متساوية للحصول على الوظيفة). ويحتل هذا المبدأ - بدوره - أولوية مطلقة على مبدأ الاختلاف ذاته، والذى يتطلب (كما رأينا سابقا) أن يتم ترتيب النظم الاجتماعية والاقتصادية بحيث يستفيد منها أشد المحرومين أقصى استفادة. ويجب أن نلاحظ أن هذه النظرية لا توحى فى أى جزء منها بأن الأفراد يستحقون المزايا التى يحصلون عليها.
نظريات العدالة
أما نظريات العدالة - الأكثر شيوعا بين علماء الاجتماع - فهى تلك التى تطالب بأن يجازى الأفراد طبقاً لاختلافهم فى درجة استحقاقهم للثواب أو للعقاب. فإذا كانت العدالة تتمثل فى إعطاء الأفراد حقوقهم، وبما أن هذه الحقوق مختلفة، فمن الواضح أن العدالة ستكون لها مخرجات تتسم بالتفاوت. ومع ذلك فإن هذا المنحى فى درس العدالة يثير التساءل حول الأسس التى يقوم عليها الاستحقاق أو عدم الاستحقاق؛ وما هى المزايا التى يتمتع بها الأفراد والتى يكون من العدل أن يثابوا عليها. وعلى سبيل المثال فبمقدور المرء أن يميز بين الخصائص المتى يمكن أن يكون الفرد مسئولاً عنها، وتلك التى توجد لديه بمحض الصدفة. وليس من الواضح أن العدالة تتحقق بإثابة أصحاب النوع الأخير من الخصائص. ولقد ذهب رولس فى معارضته لنظرية العدالة كاستحقاق للمثوبة أو العقوبة، ذهب إلى القول بأن خصيصة كالقدرة على العمل الشاق هى بذاتها خصيصة صدفة، ومن ثم فإنها لا تكون أساسا صحيحاً للعدالة.
وإذا ما ارتبطت الأفكار المتعلقة باستحقاق المثوبة أو العقوبة بمبدأ تكافؤ الفرص: فإن الأمور تصبح أكثر تعقيداً، طالما أن مبدأ تكافؤ الفرص مفتوح أمام تفسيرات عديدة. فهل هذا المبدأ يتطلب أن يتم تمكين الأفراد من تحقيق أهدافهم بصرف النظر عن قدراتهم غير المتساوية؟ إن هذا سوف يتضمن حصول الشخص غير الموهوب موسيقياً الذى يرغب فى أن يكون عازفاً للبيانو على تدريب أطول من الطفل المعجزة. وهل يتعين أن تتوفر للناس موارد متساوية لتكريسها لمخططات حياتهم بصرف النظر عن القدرة؛ أم أنه يتعين وفقاً لهذا المبدأ - وبتعبير أقل حدة - أن يحصل الأفراد الذين لهم نفس القدرات على فرص متساوية لتحقيق آهدافهم المنشودة (وهو تفسير يتسق مع الفكرة القائلة بأن الفرد الأكثر موهبة يجب أن يحصل على فرص أكثر من الفرد غير الموهوب).
روبرت نوزيك
إن الفكرة التى مفادها أن الإثابات غير المتساوية تكون عادلة لأن الناس يتمتعون بإمكانيات غير متساوية، هذه الفكرة تختلف عن الأطروحات المؤسسة على مبدأ استحقاق الثواب أو المعقاب أو مبدأ الأهلية، لأن بإمكاننا أن نجادل بالقول بان الأفراد يحصلون على امتيازات بعينها دون أن يكونوا مستحقين لها على أى وجه. و لقد ذهب روبرت نوزيك Robert Nozick (فى كتابه المعنون: الفوضى، والدولة، واليوتوبيا، الصادر عام 1974) إلى أنه حتى لو قبل المرء فكرة أن الموارد الطبيعية للفرد هى موارد عشواية، بمعنى أنه لا يمكن القول بأنه يستحقها، إلا أن الأفراد يظلون مؤهلين لجنى ثمار هذه الموارد، وثمار أى شى آخر يمنحه إياهم الآخرون طواعية. فتصورات العدالة المؤسسة على استحقاق الثواب أوالعقاب تعد - حسب تعبير نوزيك - تصورات منمطة، وهى تتتاقض بالضرورة مع التصورات القائمة على التبادل الحر والتعاملات العادلة والتى تبرر تأهل شخص معين للحصول على موارد. ولقد أدى تأكيد نوزيك المتأسس على مذهب الحرية على حقوق الملكية وحرية الاختيار، أدى إلى تصور للعدالة كاستحقاق يختلف كل الاختلاف عن فكرة أن الأفراد يجب أن يحصلوا على ما يستحقونه.
فردريش هايك
ولقد ذهب فردريش هايك (فى كتابه بعنوان: سراب العدالة الاجتماعية، الصادر عام 1976) إلى أن المرء لا يمكن أن يبرر ما يتاح فى السوق من فرص على أنها تعكس الأهلية أوالاستحقاق، طالما أن الحظ يلعب دوراً كبيراً فى تحديد ما يحصل عليه كل فرد من فرص. ومع ذلك ففى رأيه أن الامتيازات والمكاسب التى يتيحها السوق هى عبارة عن مجموعات من النتائج غير المقصودة وغير القابلة للتنبؤ، مما يعنى أننا لا تنتمى إلى ما يمكن اعتباره عادلاً أو غير عادل. فالمحقق أن فكرة العدالة الاجتماعية ككل هى - فى نظر هايك - محض سراب، طالما أنها تتطلب منا أن نرتكب خطأ النظر إلى المجتمع كفاعل. ومما يدعو للإثارة أن هايك قد استخلص أن الدفاع عن مخرجات السوق عند مستوى الجمهور العام يستنند إلى الاعتقاد الخاطئ بأن هذه المخرجات تذهب إلى من يستحقها، وذهب إلى القول بأن هذا الاعتقاد يكون ضرورياً إذا ما كان بوسع الناس تحمل مظاهر التفاوت وعدم المساواة التى ينتجها السوق ومع ذلك فإن تبريره لآلية السوق يختلف عن ذلك اختلافاً بعيداً، فهو يشير إلى ما يتمتع به السوق من كفاءة لأنه يوجه الموارد النادرة إلى الطريق الذى تحقق بمقتضاه أعظم عائد. ولذلك فحتى فى حالة وجود نمط غير عادل من التوزيع فان الفقراء يتمتعون بحظ أوفر مما يحققونه فى ظل أى نظام توزيعى آخر، طالما أن زيادة الانتاجية تعمل فى صالح الأفراد الأكثر حرمانا. وتتشابه هذه الأطروحة مع النظريات الوظيفية حول التدر ج الطبقى من بعض النواحى تشابهاً واضحاً.
الاشتراكية والليبرالية والمحافظون
يتضح لنا من هذا العرض المختصر للقليل فقط من الأطروحات الفلسفية حول العدالة أن المفهوم ذاته يعد مفهوماً خلافياً، وأن المناقشات حول العدالة سرعان ما تتحول الى خلافات لا حصر لها حول المفهومات القريبة (مثل مفهوم الكفاءة ومفجوم "المساواة)؛ وأن هذه المنطقة من الفكر هى منطقة تشهد تصنيفات يتم بمقتضاها إلحاق آراء معينة حول العدالة بايديولوجيات سياسية معينة. من ذلك - على سبيل المثال - أنه فى الوقت الذى نعرف فيه جيدا أن الاشتراكيين يميلون الى تأكيد العدالة كحاجة تكون نتيجتها تحقيق المساواة، مع ذلك فقد لا يعرف البحض أن كارل ماركس قد تظر إلى مبدأ التوزيع القائم على فكرة استحقاق الثواب أو العقاب والذى يطبق "لكل حسب عمله" على أنه المبدأ الملائم للمرحلة الأولى أو الدنيا فقط من الاشتراكية، والدى يحل محله بعد ذلك مبدأ الحد الأقصى الذى يقرر : "لكل حسب حاجته وذلك فى المرحلة الثانية أو العليا من الاشتراكية. وعلى نفس المنوال يميل الليبراليون إلى إعلاء قيمة تكافؤ الفرص، مع إضفاء شرعية على ما ينتج عن ذلك من مظاهر لعدم المساواة، اذا ما كانت هذه المظاهر تعكس اختلافات فى الأهلية (الاستحقاق)، ولكننم لا يقبلون الشروط الضرورية لتأكيد تكافؤ القرص، ولا يتفقون على الظروف التى تشكل الأهلية. ويتمسك بعض الليبراليين بموقف أكثر تطرفا فى اتجاه تأكيد الحرية (وهو موقف غالبا ما يختلط لدى العامة بموقف المحافظين)، وهم يذهبون إلى القول بأن للناس الحق فى أن يتصرفوا وفقا لاختيارهم فيما يتعلق بأى موارد اكتسبوها بشكل شرعى، وأن هذا الأمر يعد أكثر أهمية من تكافؤ الفرص. أما المفكرون المعاصرون من جناح اليمين الجديد فيميلون إلى تبنى مبادى الأهلية والاستحقاق. فهم يذهبون على سبيل المثال إلى القول بأن السوق يجب أن يمتدح لأن الناس يحصلون منه على نتيجة ما وضعوه فيه (مع إثابة القدرة على التنظيم (انظر مادة : المنظم) والعمل الشاق)، ولأن الأسواق هى أكثر الأليات كفاءةلخلق الثروة لتى يمكن أن تتدفق إلى أسفل (انظر مادة: الأثر الانتشارى) باتجاه الفقراء. وهنا يتمتبريرمايترتبعلى ذلك من عدم التساوى فى الامتيازات على أساس أنها مطلوبة لخلق الدوافع لدى الأفراد، وهى بهذه الطريقة تسهم فى تحقيق العدالة الاجتماعية عن طريق مساعدة الفقراء، ولأنها تعطى الأفراد ما يستحقونه. وعلى النقيض من ذلك فإن المحافظين ذوى الطراز القديم يميلون إلى النظر إلىالمتدرج الهرمى للبشر على أنه شى خير، إما بسبب أنهم يعتبرون اللامساواة أحد اللوازم الضرورية للثقافة والقيم المتحضرة أو بسبب أنهم يحترمون التراث الذى تعد اللامساواة جزءا منه. ومن وجهة النظرهذه يتحسدث الكل عن مبادئ العدالة الاجتماعية - وربما عن فكرة العدالة الاجتماعية ذاتها — على أنها لا تتوافق مع التفكير العقلى.
والحق أن جانبا كبيرا من التراث الفلسفى الدائر حول العدالة وكذلك النظرية السياسية حول العدالة كان لها دائما طابعا معياريا. فقد اهتم معظم الكتاب، مثلهم مثل رولس، اهتماما أساسيا بتحديد القواعد الخاصة التى يمكن أن تستخدم لتقويم صواب الفعل أو المؤسسة، وذلك من أجل تشجيع ظهور ترتيبات اجتماعية بعينها يمكن أن تدعم العدل فى الإجراءات، أو التوزيع العادل للموارد، أو المساواة. أما مناقشة الموضوع من قبل علماء النفس الاجتماعى وعلماء الاجتماع فكانت مناقشة إمبيريقية ووصفية وليست مناقشة أخلافبة او تنصب على ما ينبغى أن يكون.
الدراسات النفسية
حاولت الكثير من هذه الدراسات أن تكتشف قاعدة واحدة للعدالة التوزيعية يمكن أن يتم التعبير عنها فى صياغة رياضية. و لقد أبحر مؤلفو تلك الدراسات بوعى ذاتى يسعى نحو تحقيق أهداف كبيرة: فبرنامج بحوث المساواة الذى قاده كل من هومانز و أدمز - على سبيل المثال - لم يكن سوى محاولة لصياغة نظرية موحدة للتفاعل الانسانى، تستغرق القضايا المحورية لنظريات التدعيم، والاتساق المعرفى والتحليل النفسى، والتبادل الاجتماعى. ولقد بلغ التراث المتوفر فى هذا الميدان حداً هائلاً من التضخم، وأصبح موضوعا للعديد من المراجعات وإعادة التقويم، انظر على سبيل المثال مؤلف ولستر وزملانه، المساواة: النظرية والبحوث، الصادر عام 1978.
بحوث علم الاجتماع
أما بحوث علم الاجتماع حول قضية العدالة الاجتماعية فتتسع بأنها متشعبة، وتستغرق البحوث فى عدة مجالات نذكر منها: الرفاهية، والأسرة، والتعليم، والدخل ومجالات أخرى (و للرجوع إلى ملخص دقيق انظر مقال سولتان بعنوان: دراسات إمبيريقية حول العدالة التوزيعية، والمنشور فى مجلة: الأخلاق، عام 1982). على سبيل المثال فقد أجرى كل من وين ألفز وبيتر روسى دراسات مسحية من أجل استكشاف طبيعة الأحكام العادلة حول توزيع الدخول فى المولايات الممتحدة، وخلصا الى أن الأفراد يختلفون حول كيفية تطبيق مبادى العدالة فى المواقع، وحول الاستحقاقات التى تحصل عليها حالات بعينها. ولا يبدو الاتفاق إلا حول القول بأن القواعد ذاتها تتضمن توازناً يين اعتبارات الاستحقاق أو الأداء بجانب اعتبارات الحاجة (انظر مقالهما المعنون: "من الذى يحصل على ماذا؟" المنشور فى المجلة الأمريكية لعلم الاجتماع، عام 1978). وبنفس الطريقة توصل البحث القائم على مقابلات مكثقة، والذى أجرته جنفر هوخشيلد (ونشرت نتائجه فى كتاب بعنوان "ما هو العدل؟ المعتقدات الأمريكية عن العدالة التوزيعية"، الصادر عام 1981) توصل هذا البحث (ونقتبس هنا من نتانج الباحثة) إلى "أن الناس يستخدمون عموماً المعايير التى تشتق من مبدأ المساواة فى الميدان السياسى وميدان التنشئة الاجتماعية، وهم عموما يستخدمون المعايير التى تنبع من مبدأ التباين فى الميدان الاقتصادى ... وهكذا يبدأ الأفراد من فرضية مؤداها أنهم متساوون بالآخرين فى حياتهم المنزلية وفى المدرسة، والمجتمع المحلى، والحقوق السياسية، و المصالح. و لكنهم يبدأون من فرضية مؤداها أنهم إما أفضل أو أسواً - بقدر معين ولكنهم ليسوا بالضرورة متساوين - مع الآخرين فى قدرهم فى الميدان الاقتصادي والاجتماعي". ورغم ذلك فإن هناك قلة من الأفراد يتخذون موقفاً ثابتاً في صف المساواة أو في صف التفاوت، حتى داخل ميادين بعينها. وباختصار فإن المواطنين العاديين (مثلهم مثل الأكاديميين ورجال السياسة) يميلون إلى التوليف بين مبادى العدالة الاجتماعية التى تتناقض من الناحية التحليلية، كما يميلون إلى حل معضلات العدالة بشكل تحكمي فى ضوء الأمر الواقع، كما يميلون إلى الانتقال من معيار الى آخر دون مواربة.
ولقد أسفرت البحوث الحديثة مؤخرا عن ظهور أجماع جديد يتفق على أن بحوث العدالة الاجتماعية لن تحقق آقصى ثمارها إلا إذا تمت فى إطار تعاون عدد من التخصصات المترابطة. انظر على سبيل المثال مؤلف شيرر (محرر) المعنون: العدالة: رؤى التخصصات المختلفة، الصادر عام 1992. وقد حاول تطبيق هذه النظرة إمبيريقياً عدة باحثين، نذكر منهم جوردون مارشال وآدم سويفت، وستيفان روبرتس فى كتابهم المعنون: هل هو موقف ضد غير المتوافقين مع القاعدة العامة؟، الصادر عام 1997.
نقد العدالة الاجتماعية
ينتقد العديد من المؤلفين فكرة وجود معيار موضوعي للعدالة الاجتماعية.
ينكر النسبيون الأخلاقيون وجود أي نوع من المعايير الموضوعية للعدالة بشكل عام، ينفي غير المعرفين، والمشككين الأخلاقيين، وعدميوا الأخلاق، ومعظم الوضعيون المنطقيين، الإمكانية المعرفية للمفاهيم الموضوعية للعدالة. ويعتقد الواقعيون السياسيون أن أي مثال للعدالة الاجتماعية هو في نهاية المطاف مجرد مبرر للوضع الراهن.
كثير من الناس يقبل بعض المبادئ الأساسية للعدالة الاجتماعية، مثل فكرة أن جميع البشر لديهم مستوى أساسي من القيم، لكنهم يختلفون مع الاستنتاجات المعقدة التي قد تتبعها أو لا تتبعها. أحد الأمثلة على ذلك هو تصريح هـ. ج. ويلز بأن جميع الناس «متساوون في احترام زملائهم.»
يرفض فريدريش حايك من كلية الاقتصاد النمساوية فكرة العدالة الاجتماعية باعتبارها عديمة المعنى، دينية ومتناقضة ذاتيا وأيديولوجية، معتبرة أن تحقيق أي درجة من العدالة الاجتماعية أمر غير ممكن، ولمحاولة القيام بذلك يجب أن تدمر كل الحريات:
"لا يمكن أن يكون هناك اختبار يمكننا من خلاله اكتشاف ما هو "غير عادل اجتماعيًا" لأنه لا يوجد موضوع يمكن بموجبه ارتكاب مثل هذا الظلم، ولا توجد قواعد للسلوك الفردي يمكن أن يراعي الالتزام بها في نظام الأفراد والجماعات، وإن الموقف الذي يظهر (بصفته متميزًا عن الإجراء الذي يتم تحديده به) يظهر لنا فقط.
العدالة الاجتماعية لا تنتمي إلى فئة الخطأ ولكن إلى فئة الهراء، مثل مصطلح "حجر أخلاقي"."
جادل بن أونيل من جامعة نيو ساوث ويلز بأنه بالنسبة لأنصار «العدالة الاجتماعية»:
مفهوم «الحقوق» هو مجرد مصطلح استحقاق، يدل على المطالبة بأي سلعة مرغوبة محتملة، بغض النظر عن مدى أهميتها أو تفاهتها، مجردة أو ملموسة، حديثة أو قديمة. إنها مجرد تأكيد للرغبة، وإعلان نية لاستخدام لغة الحقوق لاكتساب الرغبة المذكورة.
في الواقع، نظرًا لأن برنامج العدالة الاجتماعية يتضمن حتماً مطالبات بالتوفير الحكومي للبضائع، والمدفوعة من خلال جهود الآخرين، يشير المصطلح فعليًا إلى نية استخدام القوة لاكتساب رغبات الفرد. ليس لكسب السلع المرغوبة عن طريق التفكير العقلاني والعمل والإنتاج والتبادل الطوعي، ولكن للذهاب إلى هناك وأخذ البضائع بالقوة من أولئك الذين يستطيعون توريدها.