نظرية الانجراف القاري
الانجراف القاري أو تزحزح القارات أو زحف القارات هي نشاط جيولوجي تقوم به الصفائح التكتونية للكرة الأرضية وتتمثل في حركات تكتونية إما التباعد أو التقارب أو الاحتكاك ما بين صفيحتين، لتبدو وكأنها تتزحزح عبر قاع البحر. كان أبراهام أورتيليوس أول من افترض أن القارات قد تكون «تتزحزح»، وذلك سنة 1596 م. إلا أن هذه الفرضية تطورت واكتملت بشكل مستقل على يد ألفريد فيغنر سنة 1912 م، لكن نظريته رفضها البعض لعدم شرحها للآلية التي تم بها ذلك، ورفضها البعض الآخر لما تضمنته من افتراضات نظرية. ثم لاقت قبولاً بعد أن قدمت نظرية الصفائح التكتونية شرحًا لآلية حركة القارات.
التاريخ
قديمًا
قديمًا، قال عدد من العلماء أمثال أبراهام أوريليوس (سنة 1596), وثيودور كريستوف ليلينثال (سنة 1756) وألكسندر فون هومبولت (سنتي 1801 و 1845) وغيرهم آخرين بأن شكل القارات على جانبي المحيط الأطلسي (بالأخص أفريقيا وأمريكا الجنوبية) تبدو كما لو كانوا متطابقة. وقد وصفت جاكلين كيوس أفكار أوريليوس قائلةً:
في سنة 1889 م، كتب ألفرد راسل والاس قائلاً: «في السابق، كان هناك اعتقاد عام شائع، حتى بين علماء الجيولوجيا، أن الشكل العامة لسطح الأرض تعرّض لتحولات مستمرة، وأنه خلال الزمن الجيولوجي المعروف تبدّلت مواقع القارات والمحيطات العظمى مرارًا وتكرارًا مع بعضها البعض.» واقتبس قول تشارلز لايل بأن: «على الرغم من أن القارات بقيت كما هي عبر الحقب الجيولوجية، إلا أنها تغيّرت مواقعها تمامًا عبر الزمن.»
وفي سنة 1863 م، عارض جيمس دانا في كتابه «دليل الجيولوجيا» تلك الفكرة قائلاً بأن: «القارات والمحيطات قد حافظت على حدودها وهيئاتها منذ العصور السحيقة، والذي أمكن إثباته من خلال دراسة موقع أمريكا الشمالية وتوزيع قيعان البحار في العصر السيلوري - بالأخص خلال حقبة بوتسدام - وربما يمكن إثباته بتطبيق تلك الحالة على القارات الأخرى أيضًا.» كان لدانا نفوذًا هائلاً في أمريكا - ولا زال كتابه «دليل المعادن» يُطبع في إصدارات منقحة - وأصبحت نظريته تلك تُعرف باسم «النظرية الدائمة».
وجدت تلك النظرية تأييدًا بعد حملة تشالنجر لاستكشاف قيعان البحار العميقة بين سنتي 1872-1876 م، والتي أظهرت خلافًا لما هو متوقع، أن الطمي الذي جلبته الأنهار إلى المحيط ترسّب تدريجيًا بالقرب من الشواطيء في ما يعرف الآن باسم الرصيف القاري، مما دعّم نظرية أن مواقع المحيطات أبدية على سطح الأرض، وأن القارات لم تتبدل مواقعها.
فيجنر ومن سبقوه
في 6 يناير 1912 م، قدّم ألفريد فيجنر أمام الجمعية الجيولوجية الألمانية فرضية أن القارات كانت يومًا ما قارة واحدة عملاقة قبل أن تنقسم وتنجرف إلى مواقعها الحالية. ورغم أن فيجنر وضع نظريته باستقلالية وبشمولية أكثر مما اقترحه من سبقوه، إلا أنه أرجع فضل ما توصّل له إلى أفكار عدد من المؤلفين الذين سبقوه أمثال فرانكلين كوكسوورثي (بين سنتي 1848-1890 م) وروبرتو مانتوفاني (بين سنتي 1889-1909 م) وويليام هنري بيكرينغ (1907 م) وفرانك بورسيلي تايلور (1908 م). وفي سنة 1858 م، افترض إدوارد سويس وجود قارة عملاقة غندوانا، وكذلك افترض وجود المحيط العملاق بانثالاسا سنة 1893 م. وفي سنة 1895 م، قدّم جون بيري ورقة افترض فيها باطن الأرض كان سائلاً، واعترض على تقدير لورد كلفن لعمر الأرض.
فعلى سبيل المثال، أدى تشابه التكوينات الجيولوجية للقارات الجنوبية إلى افتراض روبرتو مانتوفاني سنتي 1889 و1909 م أن جميع القارات كانت يومًا ما مترابطة في قارة عظمى (تُعرف الآن باسم بانجيا)، وقد أشار فيجنر في فرضيته إلى آراء مانتوفاني وخرائطه عن المواقع السابقة للقارات الجنوبية. ونظرًا، للنشاط البركاني الناتج عن التمدد الحراري، انقسمت تلك القارة وانجرفت القارات الجديدة مبتعدة عن بعضها البعض بسبب تمدّد مناطق الانفصال، التي تُشكّل المحيطات الآن. أدى ذلك إلى افتراض مانتوفاني نظرية تمدد الأرض التي لم يثبُت صحتها منذ ذلك الحين.
وفي سنة 1908 م، افترض فرانك بورسيلي تايلور في ورقته التي نشرها سنة 1910 م، أن القارات تنجرف دون أن يكون هناك تمدد للأرض، قائلاً بأن آلية ذلك كانت من خلال انجذاب القارات نحو خط الاستواء عندما زادت جاذبية القمر خلال العصر الكريتاسي، وبالتالي تكونت جبال الهيمالايا وجبال الألب. وقد قال فيجنر أن جميع تلك النظريات، وتتشابه إلى حد بعيد مع نظريته.
كان فيجنر أول من استخدم عبارة «الانجراف القاري» وفي سنة 1920 م، درس بول سوفوس إبشتاين فرضية القوة الطاردة المركزية الناتجة عن دوران الأرض، ووجد أنها أيضًا غير مقبولة.
إسهامات وليم أوينج وهاري هس في مجال الجيولوجيا
إن الرفض شبه العالمي لفكرة زحزحة القارات (١٩١٢) التي جاء بها ألفرد فاجنر تولد عن وجود عيب خطير بتلك الفكرة. فعلى الرغم من أن فاجنر استطاع جمع أدلة مؤثرة تؤكد تحرك القارات - أي أنها تقترب من بعضها البعض أو تنفصل عن بعضها البعض - فإنه لم يستطع شرح كيفية حدوث ذلك. لذا، اعتقد معظم علماء الجيولوجيا أن فكرة تحرك القارات اليابسة عبر قيعان البحار اليابسة أيضا مدعاة للسخرية وقد كانت بالفعل كذلك.
تم بدء في إعادة صياغة فكرة فاجنر المتطرفة في عام ١٩٥٣، عندما نشر عالم الجيولوجيا الأمريكي وليم أوينج نتائج الدراسات التي قام فيها بعمل مسح شامل لقاع المحيط الأطلنطي. فعن طريق استخدام معدات متطورة في قياس عمق المياه وبالتالي تخطيط المناظر المختفية عن العين، اكتشف أوينج وجود سلسلة جبال مترامية الأطراف تمتد تحت وسط المحيط، وتقريبا تأخذ شكل الخط الساحلى الموجود على الجانبين فضلاً عن ذلك، كلما اقتربت من تلك السلسلة الجبلية، كانت الصخور أحدث من حيث التكوين، سواء كانت هذه الصخور الموجودة بقاع المحيط أم تلك الرواسب الفوقية.
فسر أوينج هذا بأن قاع المحيط الأطلنطي كان يتحرك ليمتد بعيد عن السلسلة الجبلية. كما أنه قد تصور وجود قاع جديد للمحيط تكون من الصخور المنصهرة المندفعة بمحاذاة خط السلسلة الجبلية من داخل باطن الأرض، والتي تندفع بقوة نحو الخارج في كلا الاتجاهين. فإذا ما افترضنا أن قارتي أفريقيا وأمريكا الشمالية كانتا موجودتين داخل قاع البحر، فمن المتوقع أنهما انفصلتا عن بعضهما البعض. وبهذا يتضح لنا كيف تكون القارات قد تحركت. ومنذ ذلك الحين، استطاع فاجنر أن يستعيد زهوه ومكانته بين علماء الجيولوجيا.
لقد ظهرت أدلة أكثر فعالية في عام ١٩٦٢، عندما قام عالم الجيولوجيا الأمريكي هاري هس بتمرير مقياس شدة المجال المغناطيسي على قاع المحيط (وقد تم ذلك أولاً في قاع المحيط الهادئ، لكن المحيط الأطلنطي أظهر نتائج مماثلة.) وقد سجل هذ المقياس قوة واتجاه الموجات المغناطيسية الموجودة داخل الصخور. جدير بالذكر أن عالم الفيزياء الفرنسي بيير كوري (١٨٩٨) اكتشف أنه عندما يتم تبريد الصخور المنصهرة تحت درجة حرارة معينة (أطلق عليها نقطة كوري)، فإنها تقوم بالتقاط أي مجال مغناطيسي كان يوجد بداخلها وتظل هكذا إلى الأبد. وقد وجد هس أن الصخور الموجودة في قاع البحار والمحيطات تمت مغنطتها على امتداد أشرطة كبيرة يصل عرضها إلى مئات الكيلو مترات ويبلغ طولها آلاف الكيلو مترات، ويشير المجال المغناطيسي الموجود بأحد هذه الأشرطة إلى ناحية الشمال، بينما يشير الشريط التالي له إلى ناحية الجنوب.
برهن هذا على وجود حقيقتين من أروع الحقائق. أولهما، أن المجال المغناطيسي للأرض قد غير من اتجاهه مرات كثيرة في الماضي، حيث تغير المجال المغناطيسي الذي يشير إلى ناحية الشمال ليتجه نحو الجنوب ثم تغير اتجاهه إلى العكس مرة أخرى وبتحديد عمر الصخور باستخدام النشاط الإشعاعي (١٩٢١)، اكتشفنا الوقت الذي حدثت فيه التغييرات بين القطبين. وكان أحدث هذه التغييرات يرجع عمره إلى 500000 سنة.
أما الحقيقة الثانية، فتكمن في التوافق التام بين شكل الأشرطة الممغنطة على أحد جانبي السلسلة الجبلية الموجودة في المحيط مع تلك الموجودة بالجانب الآخر. وهذا بالضرورة يعني أن هذه الأقسام من قاع المحيط، التي تبعد الآن عن بعضها البعض آلاف الكيلو مترات، قد بردت في الوقت نفسه؛ وبالتالي، كانت إلى جانب بعضها البعض ذات مرة. والشيء الوحيد الذي يستطيع شرح ذلك هو امتداد قاع المحيط.
دلائل زحزحة القارات
- لتفاصيل أكثر عن هذا الموضوع، انظر نظرية الصفائح التكتونية.
تعددت الدلائل على حركة القارات على الصفائح التكتونية الآن. فقد تم العثور على أحافير لنباتات وحيوانات على شواطيء قارات مختلفة، مما يدعو للاعتقاد بأنهم كانوا يومًا ما مجتمعين. وقد وجدت أحفوريات لميسوصورات وهو من زواحف المياه العذبة يشبه التمساح الصغير في كل من البرازيل وجنوب أفريقيا. كما اكتشفت أحفوريات لسحلية المجرفة وهي من الزواحف الأرضية في صخور ترجع لنفس الزمن الجيولوجي في مواقع في أفريقيا والهند والقارة القطبية الجنوبية. وهناك أيضا أدلة الحي الحيوانات نفسها التي وجدت على قارتين. تم العثور على بعض العائلات دودة الأرض (على سبيل المثال Ocnerodrilidae، Acanthodrilidae، Octochaetidae) في أمريكا الجنوبية وأفريقيا، على سبيل المثال. وهناك أمثلة حية لا زالت بيننا لحيوانات موجودة في قارتين مختلفتين، مثل بعض عائلات دودة الأرض التي تتواجد في أفريقيا وأمريكا الجنوبية.
دعى التشابه الواضح بين شكل جانبي قارتي أفريقيا وأمريكا الجنوبية، وإن كان تطابقًا مؤقتًا حيث ستؤدي القوى الفيزيائية لتكتونيات الصفائح عبر ملايين السنين إلى انفصال ودوران تلك القارات، فيجنر لدراسة ما أطلق عليه الانجراف القاري التي مات دون أن يرى قبول فرضيته. وكان توزيع الرواسب الجليدية التي تعود للعصر البرمي-الكربوني في أمريكا الجنوبية وأفريقيا ومدغشقر والجزيرة العربية والهند والقارة القطبية الجنوبية وأستراليا أحد الدلائل الرئيسية على نظرية الانجراف القاري. كما دعى اتصال المثلجات المستنتجة من التصدعات والترسيبات الجليدية إلى التفكير في وجود القارة العملاقة غندوانا، التي أصبحت عنصرًا أساسيًا في فهم نظرية الانجراف القاري. وتشير التصدعات الجليدية إلى تحرك المثلجات ابتعادًا عن خط الاستواء نحو القطبين، مما يؤيد فكرة أن القارات الجنوبية كان سابقًا في مواقع مختلفة تمامًا عن مواقعها الحالية، فضلاً عن كونها كانت متجاورة مع بعضها البعض. كما أنهى كتابه «مباديء الجيولوجيا الفيزيائية» الذي نشر سنة 1944 م، بفصل عن الانجراف القاري. وقد ذكر ديفيد أتينبارا موقفًا حدث أثناء دراسته في الجامعة في أربعينيات القرن العشرين يوضح حالة الرفض لتلك النظرية حينئذ، قائلاً: «ذات مرة، سألت أحد المحاضرين لماذا لا يحدثنا عن الانجراف القاري، فسألني باحتقار إن كنت تستطيع إثبات وجود قوة بإمكانها تحريك القارات، وقتها سيُفكّر في الحديث عن تلك النظرية. مُضيفًا أن الفكرة بحد ذاتها هراء.»
أظهرت الخرائط الجيولوجية في تلك الفترة وجود جسور يابسة عملاقة تمتد بين المحيطين الأطلسي والهندي ربطت بين التشابه في الحياة النباتية والحيوانية وانقسام قارة آسيا في العصر البرمي، ولكنها فشلت في الربط بين المثلجات في الهند وأستراليا وجنوب أفريقيا. في سنة 1953 م، أي قبل خمس سنوات من تقديم صامويل وارين كاري لنظرية الصفائح التكتونية، رفض الفيزيائي شيدغر نظرية الانجراف القاري لعدة أسباب أولها أن الكتل العائمة في أي مجسم أرضي دائر ستتجمع عند خط الاستواء وتستقر عنده، وهذا يُفسّر تواجد فواصل جبلية بين أي قارتين. ثانيًا، أن الكتل العائمة في الأوساط السائلة كالجبال الجليدية في المحيط، لابد أن تكون خاضعة لتوازن قوى بمعنى أنه يجب أن تكون قوى الجذب وقوى الطفو في حالة تعادل، لكن أظهرت قياسات الجاذبية أن العديد من المناطق لا تخضع لهذا التوازن. ثالثًا، هناك صعوبات في تفسير سبب تجمّد مناطق في القشرة الأرضية، وبقاء مناطق أخرى في حالة سائلة.
يرجع الفضل للجيوفيزيائي جاك أوليفر في تقديم أدلة زلزالية تدعم نظرية الصفائح التكتونية التي شملت وحلّت محل نظرية الانجراف القاري في مقالته «علم الزلازل والتكتونيات العالمية الجديدة» التي نشرت سنة 1968 م، وذلك باستخدام البيانات التي تم جمعها من محطات زلازل، بما في ذلك تلك التي جمعها من جنوب المحيط الهاديء. ومن المعروف الآن أن هناك نوعان من القشرة: قشرة قارية وقشرة محيطية. القشرة القارية أخف وزنًا وتختلف في تكوينها عن القشرة المحيطية، ولكن كلاهما يتجاوران فوق دثار لدن. تنشأ القشرة المحيطية عند مناطق تمدد قاع البحر، التي تشكل مع الاندساس، النظام الذي يدفع الصفائح بطريقة فوضوية، نتج عنها حركة أوروجينية مستمرة، ومناطق ضغط غير متوزانة. قدمت نظرية الصفائح التكتونية تفسيرًا لكل هذا، بما في ذلك حركة القارات، بصورة أفضل من نظرية فيجنر.