الألفاظ ذات الصلة بلفظ فقه

لفظ " الدين "

٥ - يطلق لفظ الدين لغة على معان شتى، فهو من قبيل الألفاظ المشتركة. والذي يهمنا في هذا المقام هو بعض هذه المعاني التي تتصل بموضوعنا، وهي الجزاء، كما في قوله تعالى {مالك يوم الدين} (سورة الفاتحة / ٤) ومن ذلك قوله - جل شأنه -: {قال قائل منهم إني كان لي قرين يقول أإنك لمن المصدقين أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمدينون} (سورة الصافات / ٥١ - ٥٢) أي لمجزيون. ومنها الطريقة، ومن ذلك قوله تعالى: {لكم دينكم ولي دين} (سورة الكافرون / ٦) ومنها الحاكمية كقوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} (سورة الأنفال / ٣٩) أي حاكميته وانفراده بالتشريع. ومنها القواعد والتقنين ومن ذلك قوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (سورة التوبة / ٢٩) وقوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك} (سورة الشورى / ١٣) فهاتان الآيتان تدلان على أن الدين هو القانون الذي ارتضاه الله لعباده.

أما الدين اصطلاحا فإنه - عند الإطلاق - يراد به ما شرعه الله لعباده من أحكام، سواء ما يتصل منها بالعقيدة أو الأخلاق أو الأحكام العملية. وهذا المعنى يتفق مع مدلول لفظ الفقه في أول الأمر كما تقدم، فيكونان - بهذا الاعتبار - لفظين مترادفين.

لفظ " الشرع "

٦ - أما لفظ شرع فهو مصدر شرع للناس كذا؛ أي سن لهم كذا، ثم استعمل هذا اللفظ في المشروع، فيقال: هذا شرع الله؛ أي ما شرعه الله وسنه لعباده. ومنه قوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك} (سورة الشورى / ١٣) والشرع في اصطلاح علماء الإسلام: هو ما سنه الله لعباده من أحكام عقائدية أو عملية أو خلقية. وبهذا يتبين لنا أن لفظ " شرع " مرادف للفظي الدين والفقه بالاعتبار السابق، وإن كان لفظ " شرع ودين " يعتبران لفظين عامين بالنسبة للمعنى الذي استقر عليه رأي المتأخرين من الأصوليين والفقهاء.

لفظ " الشريعة، والشرعة "

٧ - الشريعة في اللغة: العتبة ومورد الشاربة، ومثلها شرعة. وعند علماء الإسلام تطلق على ما يطلق عليه اسم الشرع. ومن ذلك قوله تعالى: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} (سورة الجاثية / ١٨) ومن ذلك قوله تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} (سورة المائدة / ٤٨) . هذا وفي العصر الحديث شاع إطلاق لفظ الشريعة على ما شرعه الله من أحكام عملية، فهي بهذا الإطلاق تكون مرادفة للفظ فقه بالاعتبار الذي عليه المتأخرون.

ولعل لهذا العرف المستحدث سندا من قوله تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} (سورة المائدة / ٤٨) فإن من المعلوم أن ما تختلف فيه الشرائع السماوية إنما هو في الأمور العملية الفرعية، وإلا فالأحكام الأصلية واحدة في كل الشرائع السماوية.

وبهذا العرف المستحدث أطلقوا على الكليات التي تعنى بدراسة الفروع اسم كليات الشريعة.

لفظ " التشريع "

٨ - التشريع لغة مصدر شرع، أي وضع قانونا وقواعد. وفي الاصطلاح هو خطاب الله تعالى المتعلق بالعباد طلبا أو تخييرا أو وضعا.

ومن هنا ينبغي أن يعلم أنه لا حق في التشريع إلا لله وحده، كقوله تعالى: {إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين} (سورة الأنعام / ٥٧) فليس لأحد - كائنا من كان - أن يشرع حكما، سواء ما يتصل بحقوق الله أو حقوق العباد؛ لأن هذا افتراء على الله، وسلب لما اختص به نفسه: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم} (سورة النحل / ١١٦، ١١٧)

ورسول الله صلى الله عليه وسلم - مع علو مكانته - ليس له حق التشريع وإنما له حق البيان، وعليه واجب التبليغ: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} (سورة المائدة / ٦٧) ويقول تعالى: {وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} (سورة النحل / ٦٤) وكقوله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} (سورة النحل / ٤٤)

وهذا ما أجمع عليه المسلمون قاطبة، بل أجمعت عليه الشرائع السماوية كلها، ولم يشذ عن ذلك إلا الذين رفضوا الانصياع إلى شرائع الله جملة وتفصيلا.

وسنبين - إن شاء الله - ذلك بالتفصيل في الملحق الأصولي، مبينين المذاهب والأدلة التي لا تدع مجالا للشك في أن الحكم لله وحده.

لفظ " الاجتهاد "

٩ - الاجتهاد لغة مأخوذ من الجهد، وهو المشقة أو الوسع أو الطاقة. قال في القاموس: الجهد: الطاقة والمشقة. . . إلى أن قال: والتجاهد بذل الجهد كالاجتهاد.

وسواء كان ذلك في معرفة حكم شرعي اعتقادي أو عملي، أو معرفة حكم لغوي أو مسألة عقلية، أو كان في أمر محسوس كحمل شيء، ولا يقال: اجتهد في حمل وردة.

وأما الاجتهاد عند علماء الفقه أو الأصول فقد عرفوه بتعاريف متقاربة في ألفاظها ومعانيها. وإذا كان قد أورد على بعض هذه التعاريف اعتراضات ترجع إلى الصناعة اللفظية، فكلها تدور حول بذل الجهد والطاقة لمعرفة الحكم الشرعي من دليله. وأدق ما قيل في تعريفه ما ذهب إليه صاحب مسلم الثبوت[١]: " إن الاجتهاد هو بذل الطاقة من الفقيه في تحصيل حكم شرعي ظني ".

ومن هنا يتبين لنا أن الاجتهاد لا يكون إلا في المسائل الظنية. وهو بهذا المعنى يتفق مع الفقه في أكثر مسائله، وإن كان الفقه يتناول بالمعنى الذي ذهب إليه الفقهاء الأحكام القطعية التي تتناول الأفعال، كقولهم: الصلاة واجبة، إلى غير ذلك. وبيان مسائل الاجتهاد بالتفصيل ستكون إن شاء الله في الملحق الأصولي لهذه الموسوعة.

١٠ - يثور بمناسبة الحديث عن الأحكام الظنية الاجتهادية التي هي مثار اختلاف الفقهاء قديما وحديثا تساؤل حاصله: أما كان الأجدر أن تأتي النصوص والأدلة قطعية حتى لا يفتح باب الاختلاف الذي هو مثار الخلاف والشقاق بين أهل الملة الواحدة، حتى استباح بعضهم دم بعض؟ ! ! فنقول، وبالله التوفيق:

إن الأحكام التي هي أساس الدين سواء ما يتصل منها بالعقيدة أو الأمور العملية قد وردت في آيات محكمة لا تحتمل التأويل ولا تثير الاختلاف؛ لأن الله سبحانه وتعالى أراد أن تكون هذه الأمور ثابتة على مر العصور، كأكثر أحكام المواريث وأصول أحكام الأحوال الشخصية، وآيات الحدود والقصاص.

أما المسائل القابلة للتطور فقد جاء القرآن الكريم في شأنها موضحا الخطوط الرئيسة، وكانت محلا لاختلاف الأنظار. واختلاف النظر - إذا لم يكن مبنيا على الهوى والتشهي - فهو رحمة للأمة، فقديما اختلف الصحابة في كثير من المسائل، ولم يكن هذا الاختلاف سببا للمنازعة، وكان يصلي بعضهم خلف بعض من غير نكير؛ لأن كلا منهم كان يرى أن ما ذهب إليه هو الصواب مع احتمال الخطأ، وما ذهب إليه غيره خطأ مع احتمال الصواب. فلما نجمت الفتنة تحكمت الأهواء، فكان الاختلاف في الرأي سببا للشقاق.

والمتتبع لسنة الله في خلقه سواء ما يتصل بالتشريع أو الإبداع يجد أنه ما من خير إلا ويشوبه بعض الشر. والذي يقارن بين الخير في وجود الظني من النصوص الذي هو مثار اختلاف الأنظار، وما قد يشوبه من شر، يدرك أن الخير كل الخير فيما وقع، فإن جمود الأفكار - لو جاءت النصوص كلها قطعية - يكون بلاء دونه كل بلاء.

والتاريخ شهد بصدق هذا، فإن الآراء المبنية على الهوى، والتي نجم عنها ما نجم من فتن، قد اندثرت آثارها، ولم يبق لها إلا آثار في بطون الكتب، نقلها الناقلون لتشهد لهذه الأمة على سعة صدرها، وحرية الرأي فيها، ولكنها ذهبت كغثاء السيل، وانطفأت كوميض البرق: {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} (سورة الرعد / ١٧) . على أنه لو جاءت النصوص الشرعية كلها قطعية لقال قائلهم: هلا كان لنا مجال للاجتهاد حتى لا تجمد عقولنا، ونصبح أمام نصوص جامدة؟ .

  1. ^ هو محب الله بن عبد الشكور البهاري، من علماء الهند المتوفى سنة ١١١٩ هـ وسنة ١٧٠٧ م. ويعتبر هذا الكتاب خاتمة ما كتب قديما في علم أصول الفقه. وقد جمع بين الطريقتين المشهورتين في تدوين هذا العلم، وهما طريقة المتكلمين وطريقة الحنفية ٢ / ٣٦٢