هربرت سبنسر
هربرت سبنسر (بالإنجليزية: Herbert Spencer) (27 ابريل 1820 - 8 ديسمبر 1903) هو فيلسوف وعالم بريطاني، ونبي الدراوينية الاجتماعية طوال العصر الفيكتوري، ومؤسس نظرية التطور في العلوم الانسانية وعلوم الأحياء. يعتبر أحد أكبر المفكرين الإنجليز تأثيراً في نهاية القرن التاسع عشر، وقد حاول تكوين فلسفة شاملة على أساس الاكتشافات العلمية في عصره. حقق شهرة واسعة فى عصره، ولقى إعجاباً خاصاً فى الولايات المتحدة. ولقد أصبحت كثير من أفكاره جزءاً من تراث الثقافة الغربية، أو على الأقل جزءا من تحيزاتها التقليدية. ومع ذلك فقلة قليلة من الناس هى التى تقرأ أعماله اليوم أو حتى تتذكر اسمه.
تأثر سبنسر كثيرًا بعالم الطبيعة الإنجليزي تشارلز داروين. وطبق قانونه وقانون داروين الأساسي ـ فكرة النشوء والارتقاء (التطور التدريجي) ـ على علم الأحياء وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلوم أخرى. وكان سبنسر، وليس داروين، هو الذي أوجد مصطلح «البقاء للأصلح». رغم أن القول ينسب عادة لداروين. وقد ساهم سبنسر في ترسيخ مفهوم الارتقاء، واعطى له ابعاداً اجتماعياً، فيما عرف لاحقا بـ الدارونية الاجتماعية. وهكذا يعد سبنسر الأب الثاني لعلم الاجتماع الحديث بعد أوجست كونت الفرنسي،
اشتهر سبنسر بنظريته عن التطور، وقد استند على هذه النظرية في وضع الأسس لنسق ومنظومة اجتماعية (سوسيولوجية) تؤكد التطور تجاه تعقيد اجتماعي متزايد وارتفاع درجة الفردية فالمجتمع في نظره مثل الكائن الحي المعقد، يتصف بحالة من التوازن الدقيق ولا ينبغي ألاّ يسمح إلّاـ لعملية التطور الطبيعية بالتأثير في نموه. ولقد أدى هذا التأكيد على الفردية والتكيف الطبيعي إلى معارضة الإصلاح من خلال تدخل الدولة.
وفي أعماله في علم الأحياء تعقب تطور الحياة من أصغر صورها المعروفة إلى مستوى بني البشر. وكان رأيه أن قانون الطبيعة العظيم يكمن في التحرك المستمر للقوى التي تميل إلى تغيير كل الأشكال من البسيط إلى المركب. وكان يرى أن العقل البشري تطور بهذه الطريقة، متقدمًا من ردود الفعل الآلية البسيطة للحيوانات الدنيا إلى العمليات العقلية للمخلوقات البشرية.
والمعرفة في رأي سبنسر نوعان: 1- معرفة يستمدها الفرد و2- معرفة يستمدها الجنس البشري. والحدس أو المعرفة المكتسبة لا شعوريًا في رأيه هي المعرفة الموروثة أو خبرة الجنس البشري.
ولد سبنسر سنة 1820 في ديربي بمقاطعة ديربيشاير، في منطقة ميدلاند بإنجلترا. كان طفلاً رقيقًا. وكان اهتمامه الأول علم الأحياء، ولكنه انتقل بعد ذلك إلى الهندسة. عمل مهندسًا في السك الحديدية ورساماً هندسياً في لندن وبرمنجهام من عام 1837إلى عام 1846م. ثم هجر هذا العمل بعد فترة، وانتقل إلى العمل الصحفى، حث عمل محررًا لمجلة الاقتصادي، ثم تركها عام 1853م لكي يتابع أبحاثه في الفلسفة. وبدأ يؤلف بانتظام مجموعة من الكتب، التى بنت سمعته فى العلوم الاجتماعية.
قائمة مؤلفاته طويلة بشكل لافت، ويبرز من بينها: كتاب «الرجل ضد الدولة» الذي قدم فيه رؤية فلسفية متطرفة في ليبراليتها، فضلاً عن الاستاتيكا الاجتماعية، الصادر عام 1851، والمبادئ الأولى، الذى صدر عام 1862، ودراسة علم الاجتماع، وصدر عام 1873، ومبادئ علم الأخلاق (1879- 1893م)، أما المبادئ الأولى لعلم الاجتماع، وعلم الاجتماع الوصفي فقد صدرا فى مجلدات خلال الفترة من سبعينيات القرن التاسع عشر وحتى تسعينياته.
حقق شهرة واسعة كفيلسوف ولكن العلماء أثبتوا فيما بعد أن الكثير من نظرياته كان خاطئًا. كان سبنسر، طوال حياته عدوّا للحرب والإمبريالية وهذا هو سبب معارضته الحرب الأمريكية الإسبانية لعام 1898. وتوفي سنة 1903.
سيرته
ولد سبنسر في ديربي Derby بمنطقة ميدلاند بأنجلترا في 27 أبريل 1820، لأسرة استقرت منذ عدة قرون في مقاطعة دربي Derby shire. وكان أجداده الأربعة من أوائل اتباع اللاهوتي الانجيلي جون وسلي John Wesley (1703- 1791) زعيم الحركة الدينية الاصلاحية المعروفة باسم: «الميثودية» Methodism وكان أبوه ذا شخصية قوية جداً، وذا آراء دينية واجتماعية تقدمية. وكان هربرت أكبر أولاده والوحيد الذي عمّر، بين اخوته الأربعة واخواته الأربع الذين توفوا خلال أيام قليلة من ميلادهم، باستثناء الأخت الرابعة التي عاشت طوال ثلاث سنوات. وكان هذا الوالد معلماً.
لكنه أعمل تعليم ابنه هربرت الذي تلقى معظم تعليمه في المنزل، وعاش في دربي حتى سن الثالثة عشرة، باستثناء ثلاث سنوات قضاها في نواحي نونتجهام Nottingham. ودخل المدرسة لكنه كان متخلفاً في اللغتين اللاتينية واليونانية خصوصاً، وضعيفاً في سائر مواد الدراسة، ما عدا في التاريخ الطبيعي وعلم الطبيعة (الفيزياء) فقد تفوق فيهما. وكان أبوه سكرتيراً شرفياً لجمعية دربي الفلسفية، فتمكن بذلك من الاطلاع على بعض الكتب في مكتبة هذه الجمعية.
وساعده أبوه وشجعه على تنمية استعداده للعلوم الطبيعية وملاحظة الطبيعة وفي سن الثالثة عشرة أرسل إلى هِنتون اشارتر هاوس Hinton Charter House، بالقرب من مدينة باث Bath، ليعيش مع عمه توماس سبنسر، الذي كان راديكالياً تقدمياً وزعيماً لحركات اجتماعية مختلفة.
ولكن قسوة سلوك عمه هذا حمله على الفرار على قدميه عائداً إلى دربي. لكنه أرغم على العودة إلى هنتون اشارتر هاوس، حيث بقي ثلاث سنوات حريصاً على الدراسة هذه المرة. وعاد إلى دربي بعد اتمام دراسته هذه، وهو في السادسة عشرة من عمره، وبعد ذلك بعام، بدأ العمل مساعداً لناظر المدرسة في دربي لكن بعد ثلاثة أشهر استطاع عمه الآخر - و ليم سبنسر - أن يحصل له على وظيفة مهندس مقيم في جزء من سكة حديد لندن وبرمنجهام.
وفي سنة 1837 صار مهندساً مدنياً في السكك الحديدية. وفي أقل من عام رقي إلى منصب أعلى في سكة حديد برمنجهام وفرلند، وصار عمله الرئيس في ورسستر Worcester وعينه رئيس المهندسين - مورسوم Moorsom — سكرتيراً خاصاً له واستمر هربرت في انشاء هذا الخط الحديدي حتى إتمامه في سنة 1841. فسرّح من العمل. وخلال سنوات العمل في السكة الحديدية اهتم خصوصاً بالمسائل الهندسية. ونشر مقالات قصيرة في مجلة صناعية، واخترع اختراعاً او اختراعين يدلان على براعة كبيرة أحدهما «مقباس للسرعة» Velocimeter في الماكينات.
ولما سُرّح من العمل في السكة الحديدية، وعاد إلى بلدته دربي، اتجه إلى دراسة التاريخ الطبيعي (النبات والحيوان، واختراع الالات، والمواضع الخاصة بالعمليات العقلية في الجمجمة Phrenology). وكان أول إنتاج جاد في التأليف هو سلسلة من الرسائل التي نشرها في مجلة «الخارج على الكنيسة الانجليزية» Non Conformist التي كانت لسان أصحاب هذه الحركة. وفي هذه الرسائل دعا إلى الحدّ من سلطة الدولة وإلى كفالة الحرية الفردية. وخاض غمار السياسة العملية، فانضم إلى حركة الداعين إلى تقرير الحقوق الانتخابية الكاملة، وصار أميناً شرفياً لفرع هذه الحركة في دربي.
وفي سنة 1843 شر هذه الرسائل في كتيب بعنوان: «المجال الصحيح للحكومة» وفي السنة التالية صار محرراً مساعداً لجريدة اسمها: الرائد Pilot مقرها في برمنجهام، وكانت لسان حال حركة «الحقوق الانتخابية الكاملة». وشارك مشاركة فعالة في الاضطرابات الخاصة بمقاومة قانون القمع وبإلغاء الرق، وبفصل الكنيسة عن الدولة. وكان - كما وصفه أحد أصدقائه - راديكالياً في كل شيء.
لكن عدم استقرار عمله في جريدة «الرائد» وكراهية بعض أصحابها لنزعته اللادينية حملاه على ترك العمل في هذه الجريدة، وعلى العودة إلى عمله السابق مهندساً في السكة الحديدية... ولكنه ما لبث أن ترك نهائياً هذا العمل في السكة الحديدية.
وفي عام 1846-1847 انكب على اخترع الالات.
وأخيراً انتهت مرحلة التنقل بين الأعمال المختلفة وذلك حين عين في سنة 1848 محرراً مساعداً لجريدة «الايكونومست» Economist (الاقتصادي) بمرتب مائة جنيه في السنة (مع السكن والخدمة المجانيين)، حيث شهدت كتاباته المبكرة اهتماماً بالأمور الاقتصادية. وكانت، هذه الجريدة، كما هي الآن، جريدة اقتصادية مؤثرة ومهمة. وكانت ملكاً لجيمس ولسون (1805-1860) الذي كان عضواً في البرلمان البريطاني، وتحت رئاسته لتحرير هذه الجريدة بلغت هذه الصحيفة درجة عالية من النجاح.
واتاح له عمله هذا في جريدة «الايكونومست»، التعرف إلى كثير من الشخصيات البارزة في السياسة وفي الأدب والفكر، نذكر منهم خصوصاً الآنسة ماري آن Mary Aan (أو Marian Evan) التي اشتهرت فيما بعد باسم: جورج اليوت George Eliot، وهي التي ترجمت «حياة المسيح» تأليف دافيد فريدريك شتراوس (1808-1834) وجورج هنري لوس Lewes الذي صار صديقاً حميماً له، وهو الذي عرفه بالكاتب والمؤرخ العظيم توماس كارليل Carlyle، وإن كان اختلاف المزاج بين كارليل وسبنسر لم يتح لهذا التعرف الاستمرار. كذلك تعرف سبنسر إلى هكسلي Huxley الذي كان آنذاك مغموراً وبواسطة هكسلي تعرف إلى جون تندل (1819؟-1893) الفيلسوف المادي العلمي. ومن ثم قامت صداقة بين سبنسر وهكسلي وتيندال.
وكان أول كتاب ألفه هو بعنوان. «الاستاتيكا الاجتماعية: أو الشروط الضرورية للسعادة الانسانية، تحديدها وتفصيل القول في أولها» Social Statics وكما هو معلوم في علم الديناميكا، فإن الاستاتيكا هي الفرع من هذا العلم الذي يبحث في العلاقات بين القوى وهي في حالة توازن - وموضوع هذا الكتاب، الذي ظهر في مطلع سنة 1851 هو تقرير المبدأ التالي: «لكل إنسان الحرية في عمل كل ما يريد، بشرط ألا يعتدي على مثل هذه الحرية عند الآخرين» ثم استنبط من هذا المبداً العام: حرية القول المحلي، وحرية التملك، الخ. ومضى في توكيد الحرية والفردية إلى درجة أنه أكد حق المواطن في الامتناع عن دفع الضراثب، إذا تخلّى عن مزايا حماية الدولة له. وقصر وظيفة الحكومة (أو الدولة) على مهمة كفالة الأمن للمواطنين في الداخل، والدفاع عن الوطن ضد العدوان الخارجي. وألغى التعليم الرسمي، وقوانين الفقراء، والرقابة الصحية لأن هذه كلها تقتضي التدخل في حرية الأفراد. ولقي هذا الكتاب نجاحاً كبيراً، خصوصاً في الأوساط الراديكالية وعند اتباع مدرسة مانشستر التي جعلت شعارها هو: «دعه يعمل، دعه يمر» Laissez Faire, Laissez Passer وكانت في أوج نفوذها آنذاك.
عام 1851 انضم إلى مجموعة جون تشابمان، التي كانت ترعى الفكر الحر والإصلاح، وبالذات تروج لفكرة التطور والارتقاء. طلب تشابمان من سبنسر ان يبحث نظرية توماس مالتوس ويعرضها في العدد الأول من مجلة اشرف على إصداراها، ورأى سبنسر في نظرية مالتوس قانونا عاما يصلح للبشر كما للحيوانات، حيث تعمل الحروب والكوارث والاوبئة على تصحيح الزيادة السكانية. من هذه اللحظة فصاعدا اعتبر سبنسر كاتباً مهما، ووجد تعبير «البقاء للأصلح» رواجاً كبيراً، وتوالت كتبه التي شملت مواضيع مختلفة، وكانت ترى مسألة التطور والارتقاء في شتى الجوانب الاجتماعية. حيث لا مكان للضعيف في سباق الاقوياء. شكلت الدراوينية الاجتماعية في تلك الفترة بمثابة كفارة لضمير الإنسانية المتعب: حيث قدمت على أنها قانون الطبيعة الذي لا حياد عنه. كان سبنسر يمتلك علاقات وثيقة مع كبار الرأسماليين في عصره، الذين تلقفوا افكاره ورحبوا بها، وكان سبنسر قد اخبر كارينجي، واحد من أهم رأسماليي عصره: إن صعود شخص مثله، لم يكن نتيجة حتمية فحسب، بل كان حقيقة علمية. كان سبنسر معجبا جدا بداروين، ومن اجله فقط، حنث بيمينه بعدم دخول أي كنيسة، حيث حضر القداس على روحه في كنيسة وستمنستر.
وطلب منه لوس Lewes، المحرر الأدبي لجريدة راديكالية اسمها: القائد Leader، أن يكتب مقالات فيها فكتب سبنسر عدة مقالات بغير توقيع، وقد أعيد طبعها ضمن مجموع مقالاته. وأهم هذه المقالات مقال ظهر في مارس 1852 بعنوان: «فرض التطور» Development Hypothesis وفيه دافع عن نظرية التطور العضوي. ولما كان كتاب دارون Darwin عن «أصل الأنواع» قد ظهر في سنة 1859 - وفيه عرض دارون نظرية التطور- فإن سبنسر يكون قد سبق دارون بسبع سنوات في القول بنظرية التطور العضوي في الإنسان والحيوان.
كذلك نشر سبنسر مقالات في المجلة الفصلية الموسومة باسم: «المجلة الفصلية البريطانية» British Quarterly Review، وفي «المجلة البريطانية الشمالية».
وفي سنة 1853 توفي عمه توماس سبنسر تاركاً له خمسمائة جنيه، وبهذا المبلغ وبالعلاقات التي توطدت بينه وبين الأوساط الأدبية رأى أن في وسعه ان يقطع علاقته مع جريدة «الايكونومست» في يوليو سنة 1853 بعد أن عمل فيها خمس سنوات.
وفي سنة ٠ ١٨٥ نشر كتابه: «مبادئ علم النفس» Principles of Psychology، وهو كتاب لم يعتمد فيه على أي كتاب في علم النفس مما كتبه الفلاسفة وعلماء النفس، بل استمده من تأملاته الشخصية.
وهنا نشير إلى أن سبنسر لم يكن قارئاً مثابراً’ ولم يدرس الفلسفة مطلقاً. ويحكى عنه أنه حينما شرع في قراءة كتاب «نقد العقل المحض» لإمانويل كنت، طرح هذا الكتاب بعد أن قرأ الصفحات الثلاث الأولى. وصارت هذه عادة متأصلة فيه، عدم قراءة كتب لمؤلفين سابقين في الموضوع الذي يريد الكتابة عنه! ولهذا فإن من النادر جداً، أن تعثر في مؤلفاته على اقتباس من مؤلف سابق. ولم يقرأ من كتب الفلسفة كلها غير كتاب سطحي قصصي من تأليف جورج هنري لوس Lewes، عنوانه «تاريخ سير الفلاسفة» A Biographical History of Philosophy، (وقد ظهر في لندن في مجلدين سنة 1845 - 1846؛ ثم أعيد طبعه في لندن 1878 بعنوان جديد هو: «تاريخ الفلسفة من طاليس إلى أوجست كونت». وكان لوس هذا (1817-1878) صحفياً، وناشراً، وناقداً وقاصاً، ومؤلف مسرحيات، وممثلاً وكاتب سير، وكان ذا نزعة وضعية على مذهب أوجست كونت.
ولهذا لم يلق كتاب سبنسر: «مبادئء علم النفس» أي نجاح و اهتمام. وقد هاجمه رتشارد هولت هتون Richard Holt Hutton هجوماً عنيفاً في مقالة بعنوان، «الإلحاد الحديث» نشر في مجلة National Review التي كانت لسان حال «التوحيديين» Unitarians في إنجلترا، كما هاجمه الكثيرون من ذوي النزعات لدينية، نظراً لاتجاهه المضاد للدين.
وبينما كان يكتب هذا الكتاب، تدهورت حالته الصحية، وأصيب بانهيار عصبي لن يشفى منه أبداً. فقام بأسفار في أرياف إنجلترا للترويح عن نفسه طوال 18 شهرا، لكنه اضطر إلى العودة إلى الكتابة، بسبب سوء أحواله المالية فعاد إلى لندن في نهاية سنة 1856، وكتب مقالاً بعنوان: «التقدم: قانونه وسببه» وكان إرهاصاً بما سيقوله في كتابه الرئيسي: «المبادىء الأولى» وقد نشر هذا المقال في «مجلة وستمينستر».
وفي سنة 1858 أخذ في وضع مذهب شامل عن الفلسفة. وأوحى له بذلك ما تبينه، وهو يراجع مقالاته السابقة - ابتغاء نشرها في كتاب قائم برأسه - من وجود اتجاه فلسفي واضح في هذه المقالات، وهذا الاتجاه هو: تفسير الظواهر تفسيراً طبيعياً خالصاً تسوده فكرة التطور. ولهذا فإنه في مطلع سنة 1858 وضع مخططاً لمذهب في الفلسفة يقوم على نظرية التطور الطبيعي. وأعلن برنامجه لعرض هذا المذهب في عدة مجلدات، ولم يجد وسيلة لنشرها إلا بالدعوة إلى الإكتتاب، على أساس عشرة شلنات في كل عام عن أربع كراسات تصدر سنوياً. وبمساعدات اصدقاء استطاع تامين 400 مشترك في إنجلترا، و200 مشترك في أمريكا.
وبفضل هذا الترتيب، شرع سبنسر في كتابه الأول في هذه السلسلة وعنوانه: «المبادىء الأولى» لكن ظهرت صعوبات في تحقيق هذا المشروع: بعضها راجع إلى صحة سبنسر المتدهورة، والبعض الآخر راجع إلى تقاعس المكتتبين عن الدفع المنتظم. وانقذ الموقف بوفاة عمه الآخر، وليم سبنسر - الذي أوصى له بمبلغ من المال. وهكذا أمكن إتمام هذا الكتاب الأول - «المبادىء الأولى» في سنة ١٨٦٢. لكن الكتاب لم يحظ بالتقدير، وهوجم منه خصوصاً القسم الميتافيزيقي.
وفي أثناء عمله في هذا الكتاب، جمع عدة مقالات في كتاب بعنوان «التربية» وظهرت الطبعة الأولى منه في سنة 1861. وهو أكثر كتب سبنسر رواجاً، وقد ترجم إلى لغات عديدة، ومنها اللغة العربية في بداية هذا القرن، في القاهرة. وفي هذا الكتاب - كتاب «التربية» - شدد سبنسر على تدريس العلوم الوضعية، وتوكيد أهميتها في التربية العقلية. ودعا إلى التنمية الطبيعية للذكاء، دون الضغط على عقل الناشىء، وإلى استخدام وسائل التشويق في تعليم الأطفال بل والمراهقين. وقال إن تربية الأطفال لا تكون بالأوامر والعقوبات البدنية، بل بتوفير أكبر قدر من الحرية وجعل الأطفال يشعرون هم أنفسهم بالعواقب السيئة لأفعالهم السيئة.
وفي العامين التاليين كتب الجزء الثاني «مبادئ البيولوجيا»، الذي ظهر في سنة 1864، ثم ظهر الجزء الثالث من هذا الكتاب في سنة 1867، وقد استعان في وضعه لهذا الكتاب بصديقيه: هكسلي، وسير جوزف هوكر Hooker العالمين بالبيولوجيا. ولم يحظ هذا الكتاب باهتمام واضح.
وفي سنة 1864، نشر سبنسر رسالة صغيرة عنوانها: «تصنيف العلوم» ألحق بها فصلاً بعنوان: «الأسباب الداعية إلى الاختلاف مع مسيو (أوجست) كونت».
وبعد فراغه من الجزء الثاني من «مبادئ البيولوجيا»، أخذ يعيد النظر في المجلدات السابقة من هذه السلسلة. فقد تنبه إلى وجود بعض النقائص والأخطاء في كتابه «المبادىء الأولى»، وكتابه «مبادئ علم النفس»، وكتابه «مبادئ البيولوجيا» - فأعاد كتابة «المبادئ الأولى». وأضاف مواضيع إلى كتاب «مبادئ علم النفس» تندرج في إطار مذهبه في الفلسفة، وأصدر المجلد الأول في هذه الطبعة الجديدة لكتاب «مبادئ علم النفس» في سنة 1870، والمجلد الثاني في سنة 1872. أما كتاب «مبادئ علم الاجتماع» فقد رأى من الضروري أن يجمع له كمية كبيرة من الوقائع ليؤسس عليها التعميمات التي عمد إليها. واستعان في ذلك بديفد دنكان David Duncan الذي كتب بعد ذلك سيرة حياة سبنسر ونشر رسائله في كتاب بعنوان: «هربرت سبنسر: حياته ورسائله، 1908، ويشتمل على ثبت كامل بمؤلفاته» - كما قرأ كتب الرحالة وخصوصاً ما يتعلق منها بالشعوب البدائية، واستخلص منها ما يفيد، في تفسير الظواهر الاجتماعية. كما استعان أيضاً بشخصين آخرين هما جيمس كولير Collier ورتشارد تشيبج Scheppig في جمع هذه المواد. وقد نشر هذه الوقائع الاجتماعية في 10 أجزاء، بعنوان: «علم الاجتماع لوصفي» Descriptive Sociology، وقد نشر الجزء الأول من «مبادئ علم الاجتماع» في سنة 1876؛ ونشر الجزء الثاني في سنة 1882.
واتجه إلى دراسة علم الأخلاق فأصدر أولاً كتاب «معطيات علم الأخلاق» Data of Ethics الذي سيصبح الجزء الأول من كتاب «مبادئء علم الأخلاق» Principles of Ethics - ذلك في سنة 1879. أما الجزء الثاني فسيصدر في سنة 1893.
وفي سنة 1896 أصدر الجزء الأخير من «مبادئ علم الاجتماع» وقبل وفاته أصدر كتابين هما: «شذرات متفرقة» و«وقائع وتعليقات»، وكل واحد منهما يتألف من مقالات قصيرة في موضوعات شتى والكتاب الثاني منهما قد لقي اهتماماً خاصاً، بسبب اللهجة العنيفة التي هاجم بها سياسة الحكومة البريطانية في حرب «البوير» Boer في جنوب أفريقيا.
وتوفي هربرت سبنسر في يوم 8 ديسمبر سنة 1903 في مدينة برايتون Brighton وهو في سن الثالثة والثمانين. وأحرقت جثته في Golden’s green، وقام بتأبينه مستر (بعد ذلك: لورد) كورني بدلاً من المراسم الدينية.
المبادئ الأولى
كتاب «المبادئ الأولى» يتألف من قسمين: والقسم الأول، أو الميتافيزيقي هو محاولة للتوفيق بين العلم والدين، عن طريق افتراض ما سماه باسم «ما لا يمكن معرفته» Unknowable بوصفه العلة والأصل في كل الظواهر الموجودة. والقسم الثاني يحدد المبادئ الأساسية «للفلسفة التركيبية» Synthetic Philosophy التي هي فلسفة سبنسر.
يقرر سبنسر أن الحقيقة العليا لا يمكن معرفتها. ونحن لا نعلم عنها إلا تجلياتها الخارجية التي تحدث في الزمان والمكان، والتي تكون التجربة المشتركة لبنى الإنسان. أجل، نحن نشعر بوجود حقيقة مطلقة، لكننا لا نستطيع أن نعلم عنها أي شيء.
والعلم يسعى إلى أكبر تعميم في نطاق حدوده، وبعد هذه الحدود يبدأ التفكير الفلسفي، وموضوعه «التركيب الكوني» وهذا التركيب الكلي إنما يقوم في «التطور»: ذلك ان الظواهر الكونية والفيزيائية أنتجت الظواهر الحيوية (البيولوجية)، وهذه بدورها انتجت الظواهر النفسية والاجتماعية وتدير هذه الحركة الكلية الكبرى، «قوة لا يمكن معرفتها»، إنما ندرك وجودها بواسطة تجلياتها. والكون يحكمه قانون «التوزيع الدائم» للمادة وللحركة، إنه قانون التطور والإنحلال. وهذا القانون يتحكم في كل التغيرات: الكونية والاجتماعية على السواء. ولا يمكن التعبير عنه إلا بطريقة تجريدية، بل ورمزية. يقول سبنسر: «التطور هو تكامل للمادة وتشتيت للحركة مقارن له، ومن خلالها تنتقل المادة من التجانس اللامحدود وغير المحكم إلى عدم تجانس محدود ومحكم» («المبادئ الأولى») طبعة 1862، الفصل 17، الفقرة 144).
وهكذا نجد أن التطور في التركيب، سواء تعلق الأمر بتطور البذرة إلى شجرة، أو البويضة إلى كائن حي، أو المجتمع البدائي إلى مجتمع متقدم. إنما ينبغي التغيير من البساطة إلى الكثرة، ومن التجانس إلى اللاتجانس. والشيء الذي لم يتطور يبقى بسيطاً، بينما ما تطور يصير مركباً.
وإذا لم تقترن زيادة التركيب بزيادة مماثلة في الوحدة العضوية، فإنه ينشاأ عن ذلك تمزق في المجموع، وتبعاً لذلك لا يحدث تطور، بل انحلال ولكي نفسر الظواهر التي تبدو أنها غير قابلة للرد إلى الآلية، ونعني بها الظواهر البيولوجية، والنفسية، والاجتماعية - فينبغي حلها إلى عناصر تقبل المادة تمثيلها. من أجل أن تمتزج امتزاجات لا نهاية لها وفقاً لغرض حيوي.
وعلى الفلسفة أن تراعي القواعد التالية في تفسيرها للظواهر الكونية:
أ) التجانس حالة غير مستقرة.
ب) كل علة تؤكد يالضرورة معادلات متعددة.
ج) في أي مجموع نجد أن العناصر المتشابهة تميل إلى الانفصال بعضها عن بعض، بينما العناصر المتشابهة تميل إلى الاتصال يعضها ببعض فالتطور عند سبنسر يقوم على ثلاثة أسس:
- عدم استقرار المتجانس.
- تعدد النتائج الصادرة عن السبب الواحد.
- الاقتصار على الانحلال في كل مجموع موجود.
وقرر أن كل حالة للوجود - العقلي والمادي - تتميز بمبدأ التطور. وكل شيء، من النظر إلى الأصناف، يتطور من درجة بسيطة أولية لا تتم فيها إلا الوظائف الأولية، إلى درجة تنشأ فيها وظائف أكثر تركيباً وتعقيداً. والممر والتحول اللذان نعرفهما في البيولوجيا يوجدان في كل الموجودات: الحية منها وغير الحية, لكن ليس معنى هذا أن التطور عند سبنسر غائي - كما هي الحال عند هيجل. بل يقرر سبنسر بكل توكيد أنه لا توجد أية غائية في التطور، أي أن الموجودات في تطورها لا تهدف إلى غاية عامة تسعى إليها وكل ما هنالك هو: بدايات، وحالات وسطى (حالات توازن)، ونهايات. وكل هذه العمليات تتم في مكان متناه وزمان متناه. يولد الإنسان، ثم ينمو، ثم يموت - وهكذا الثبات في كل الأشياء: فالمجتمع يولد، ويبلغ درجة من الاستقرار أو التوازن، ثم ينقضي بواسطة سبب عام داخلي أو خارجي: أما أن الكون من حيث هو كل يتجه نحو غاية معينة، أو ان العالم يتطور إلى غاية محددة، - فهذا أمر لا نعلم عنه شيئا، إنه يندرج في مجال «ما لا يمكن معرفته».
وبعد أن قرر سبنسر نظرية التطور بهذا المعنى المحدد، حاول تطبيقها في سائر ميادين البحث.
٣) ففي كتابه «مبادئ البيولوجيا» (1864-1867) فحص بالتفصيل عن كيف أنه - تحت تأثير الظروف المحيطة - تصير الكائنات العضوية - التي يكاد أن لا يكون لها تركيب - متفاضلة تدريجياً، أي ذوات تراكيب معينة. فبينما في الكائنات العضوية الأولية يقوم الجسم ككل بكل الوظائف، نجد أنه في الكائنات الأكثر تقدماً تتوزع الوظائف بين أعضاء مختلفة يتخصص كل عضو منها في وظيفة محددة، فمثلاً الأميبا ameba لا إحكام بين أحكام، ويسودها تجانس نسبي؛ أما في الإنسان فتوجد أعضاء مختلفة في التكفل والتركيب، وكل واحد منها يؤدي وظيفة محددة والقلب، مثلاً الذي هو في الأصل ليس أكثر من وعاء دموي يصبح تركيباً مؤلف من أربع غرف عند الإنسان.
إن سبنسر يخضع فكرة التطور لمبدأ العلية، ويحدد التطور بأنه «الانتقال التدريجي من الأشكال الدنيا للنشاط النفسي إلى أشكال أكمل، في اتجاه المزيد من التركيب والتخصص والتجريد، والندرة، ويقرر التقدم الجوهري في تزايد التفاصيل (أو النوع) في «التخصص» الأعلى للأحوال الخارجية، التي تتكيف معها الأحوال الباطنة» (مبادئ علم النفس لسنة 1855، ط2 1870، ص 453 ومايليها).
وعرف الحياة بنفس الطريقة. وقال إن عوامل التطور ليست فقط الانتخاب الطبيعي، كما سيقول دارون، وإنما أكد التغير المباشر في الكائنات العضوية بواسطة فعل البيئة المحيطة، وأكد وراثة التغيرات التي تنتج بالوظيفة. وفي الجزء الثاني من «مبادئ البيولوجيا» وضع نظرية تقول أن أشكال الحيوان والنبات هي تعبير عن قوى البيئة المحيطة التي تؤثر فيها.
وقرر وجود التنازع والتعارف بين تكوين الأفراد وبين التوالد. ولفهم الوراثة قال بوجود «وحدات فسيولوجية» هي التي تعمل في ايجاد الوراثة.
وما دام سبنسر يقول بالتطور، فإنه ينكر نظرية الخلق إذ يرى أن الخلق فرض غير مقبول ويدل على مستوى عقلي منحط. إذ لا يمكن أن نحقق بالتجربة فرض الخلق لأننا لا نشاهد خلق النوع. كما أنه لا يتفق مع خيسية الخلق وجود هذه الأنواع الضارة، مثل الطفيليات، ولا يتفق مع الحكمة الإلهية وجود هذه الأنواع غير المرئية للكائنات الكامنة، مثل الجراثيم الدقيقة.
والمادة لا يمكن أن تفنى، لأنه لا يمكن تصور العدم، إذ هو خارج كل علاقة مع الواقع. ولما كانت المادة لا تفنى، فإن الحركة لا تفنى ولا تنقطع. وتحت تأثير قوة لا يمكن ادراكها، فإنه يتم توزيع متجدد باستمرار للمادة وللحركة والكون كله يتطور إلى غير نهاية، وينحل إلى غير نهاية.
فإذا أردنا أن نعرف المصادر التي منها أخذ سبنسر لفظ «التطور» ومفهومه، فإننا نجد سبنسر نفسه يقر بأنه أخذ اللفظ والمفهوم من الشاعر والفيلسوف الأفلطوني النزعة صموئيل تيلور كولرج (1772 - 1834)، وأنه أخذ عنه فكرته الأولى عن التطور وعن النظام العضوي الاجتماعي (راجع «ترجمته الذاتية» Autobiography ط 1 ص 350).
كذلك يدين سبنسر بالكثير لكتاب «تضافر القوى الفزيائية» تأليف وليام روبرت جروف (1846)، ثم كتاب هلمهولز Helmhdy بعنوان: «حفظ الطاقة» (1847). كذلك قرأ سبنسر كتاب: «الكون» Cosmos تأليف هومبولت Humbelto.
أما عن علاقتة باوجست كونت، فمن المؤكد أنI لم يتأثر به إطلاقاً فيما يتعلق بنظرية التطور، لأن أوجست كونت كان من خصوم نظرية التطور العضوي للأنواع، وكان في صف كونDيه Coneeie في الجدل الذي قام بين لامارك القائل بنظرية التحول Eraus formisme وبين كونDيه المعارض الشديد لهذه النظرية>
واستعار سبنسر من كارل إرنست فون باير (1792 - 1876) القول بأن النمو البيولوجي في الفرد يتم من المتجانس إلى اللامتجانس، وهذا يحدث في تطور النظام الشمسي، وفي أنواع الحيوان، وفي المجتمع الإنساني، وفي الصناعة وفي اللغة وفي العلم.
لكن ينبغي أن نلاحظ - كما قلنا من قبل - أن سبنسر نشر مذهبه من التطور قبل أن ينشر تشارلز دارون ورسل والسن (1823 - 1913) Russell Wallase آراءهما في تطور الأنواع والانتخاب الطبيعي. كما ينبغي أن نلاحظ أيضاً الفارق بين نظرية سبنسر في التطور ونظرية دارون ووالسن في التطور: ذلك أن سبنسر كان يرى أن السبب في التطور هو وراثة القدرات المكتسبة، بينما رأى دارون ووالسن أن السبب هو الانتخاب الطبيعي Natural Selection. بيد أن سبنسر قال فيما بعد إن الانتخاب الطبيعي هو واحد من أسباب التطور البيولوجي، وهو الذي صاغ عبارة: «بقاء الأصلح» (أو بتعبير أدق: الأقدر على التكيف مع البيثة Survival of the Fittest («مبادئ البيولوجيا» لندن سنة 1864 ص 444).
علم الاجتماع والفلسفة الاجتماعية
قرأ سبنسر بحماس عن علم الاجتماع الوضعي الأصلي لأوغست كونت. اقترح كونت (وهو فيلسوف في العلوم) نظرية للتطور الاجتماعي والثقافي يتقدم بها المجتمع بموجب قانون عام من ثلاث مراحل. رفض سبنسر بعد تطورات مختلفة في علم الأحياء ما اعتبره الجوانب الأيديولوجية لوضعية كونت محاولًا إعادة صياغة العلوم الاجتماعية بحسب قانون التطور الذي احترم الجوانب البيولوجية والنفسية والاجتماعية للكون.
وُصِف علم الاجتماع الذي وضعه سبنسر بالداروينية الاجتماعية الممزوجة باللاماركية، وذلك نظرًا للأهمية التي أعطاها سبنسر للتطور. ومع ذلك، تعتبر هذه النظرة لعلم اجتماع سبنسر مغلوطة؛ إذ اتفقت كتاباته السياسية والأخلاقية مع الداروينية الاجتماعية، ولكن هذا التوافق كان غائبًا في الأعمال الاجتماعية لسبنسر، فقد ركزت أعماله على الطريقة التي تؤدي فيها عمليات النمو والتمايز الاجتماعي إلى درجات مختلفة من التعقيد في التنظيم الاجتماعي. وجادل سبنسر بأنّ تقدم التطور من البسيط المتجانس غير المتمايز إلى المعقد المتمايز غير المتجانس يتضح ويتمثل بتطور المجتمع.
طبق سبنسر نظريته في التطور على المجتمع الانساني بل يمكن أن يقال إن ما ألهمه نظرية التطور هو بحثه في حال المجتمع الإنساني - كما يتبين ذلك مما كتبه في كتابه «الاستاتيكا الاجتماعية» Social Statics (1851). إذ قال في هذا الكتاب إن التطور الاجتماعي هو «عملية ازدياد في الفردانية» Increasing individuation. لقد كان سبنسر يعتقد أن الناس الأوائل (او البدائيين) كانوا أقصر قامة، وأقل ذكاء، وأكثر انفعالية من الناس المتحضرين؛ وأنه يمكن تقدير عقليتهم بدراسة عقول الأطفال في المجتمعات المتمدينة. ورأى أن ديانة المجتمعات البدائية مستمدة من الاعتقاد في وجود الأرواح والأشباح التي تشاهد في الأحلام، ولهذا اتجهت العبادات البدائية أولاً إلى عبادة أرواح الموتى من الأجداد. كذلك رأى سبنسر أن الديانات الشائعة في المجتمعات المتحضرة هي مجرد تنويعات وتعديلات في هذه الديانة البدائية، والتصنيف الاجتماعي الأساسي كان بين المجتمعات الحربية، التي كان التكافل فيها إرادياً وتلقائياً. والمجتمعات الصناعية والمقصود بالمجتمعات الصناعية تلك التي يحصل فيها الأفراد على حاجاتهم بوسائل سلمية وتعاون طوعي. والمجتمعات الحربية يحكمها زعماء عسكريون يحتفظون بالسلطة عن طريق السلاح والخرافات، وفيها تكون النساء في مركز وضيع، ويفرض عليهن في الغالب أخس الأعمال. وفي هذه المجتمعات الحربية (أو العسكرية) يوجد تنظيم اجتماعي هرمي، مفروض فيه لكل فئة مكان خاص ينبغي عليه أن يلتزم به. وعلى العكس من هذا كله يكون حال المجتمعات الصناعية، اللهم إلا في حالة نشوب حرب: فإن الوضع يشبه كثيراً الوضع في المجتمعات الحربية.
وضع سبنسر نظرية عن نوعي المجتمع المكافح والصناعي بشكل يتوافق مع تقدم التطور؛ إذ كان المجتمع المكافح الذي تطغى عليه علاقات التسلسل الهرمي والانصياع بسيطًا وغير متمايز بينما كان المجتمع الصناعي القائم على أساس من الالتزامات الاجتماعية الطوعية معقدًا ومتمايزًا. تطور المجتمع الذي اعتبره سبنسر «كائنًا اجتماعيًا» من الحالة الأكثر بساطة إلى الحالة الأكثر تعقيدًا وفقًا لقانون التطور العالمي، واعتبر المجتمع الصناعي السليل المباشر للمجتمع المثالي الذي ذكره سبنسر في كتابه «الإحصائيات الاجتماعية»، وذلك على الرغم من ارتباكه حول ما إذا كان تطور المجتمع سيؤدي إلى في النهاية إلى اللاسلطوية (كما كان يعتقد في السابق) أو ما إذا كان سيبقى دور الدولة مسيطرًا مع انخفاض تطبيق العقود وتدني الدفاع الخارجي.
وإلى جانب فكرة التطور، يستخدم سبنسر في نظرياته الاجتماعية فكرة المشابهة بين الكائنات الحيوانية العضوية، وبين المجتمعات الإنسانية إذ يوجد في كليهما: جهاز تنظيمي: الجهاز العصبي المركزي في الأولى، والحكومة في الثانية، وجهازه للمحافظة على البقاء (التغذية في الأولى، والصناعة في الثانية) - وجهاز توزيعي (الشرايين والادارة في الأولى والطرق والمواصلات الخ في الثانية). والفارق بين كليهما هو في أنه في الكائنات الحيوانية العضوية يوجد وعي واحد، بينما في المجتمعات الإنسانية لا يوجد وعي كلي ذلك لأن المجتمع الإنساني - بوصفه كلاً - لا عقل له. ويختم سبنسر كلامه ها هنا بالقول بأن المجتمع يوجد لصالح أبنائه، وليس العكس أي أن أبناء المجتمع لا يوجدون من أجل صالح المجتمع. وهذا مفهوم بالضرورة من نزعته الفردية القوية، التي ذكرناها من قبل.
ويقوم سبنسر بتكوين تحليلات طويلة للنظم المنزلية، ونظم المراسم، والنظم السياسية، والكهنوتية، والصناعية والمهنية - ابتغاء إصلاحها تمهيداً للانتقال من المجتمعات الحربية، إلى المجتمعات الصناعية.
وتمييزه القوي بين المجتمع الحربي (أو: العسكري) والمجتمع الصناعي (أو: المدني) إنما قصد به التمييز بين مجتمع شرير، ومجتمع خير، إن المجتمع الصناعي (أو: المدني) يوجد فيه أقل مقدار من القهر والضبط والربط، ويتم فيه النظام مع ذلك بتكيف جميع الأجزاء مع بعضها البعض في سلام وتفاهم. وفي كتابه «الإنسان في مواجهة الدولة» (1884) Man versus the State يطبق سبنسر نظرياته هذه على الوضع السياسي في إنجلترا في عصره، فيقول إن أعضاء حزب المحافظين يساند النظام الحربي، بينما حزب الأحرار يساند النظام الصناعي الاجتماعي. لكنه اعتقد أيضاً أن حزب الأحرار البريطاني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر قد عملوا - بواسطة التشريع الخاص بساعات العمل، ورخصة المشروبات الكحولية، والقوانين المتعلقة بالصحة وبالتعليم، إلخ - يقول: إنهم عملوا بهذا على إيجاد نوع جديد من حزب المحافظين والتمهيد لعبودية قادمة. «إن وظيفة حزب الأحرار في الماضي كانت وضع حدود وقيود على سلطات الملوك، أما وظيفة الأحرار في المستقبل فستكون وضع حدود وقيود على سلطات البرلمان».
والمجتمع الكامل هو المجتمع الذي فيه لا تذهب نواتج الصناعة إلى تقوية صفوف التنظيم الحربي، بل تكرس لأهداف أسمى من ذلك وأغراض أنبل. ومجتمع المستقبل ينبغي أن يقوم على أساس التوازن التام بين الفرد والبيئة المحيطة، وأن يجعل صرامة القوانين غير مطلوبة. وتطور النظم السياسية يدل على أن نظام الانتخاب يجب أن يحل محل تظام الوراثة الذي لا يزال هو السائد (آنذاك) في المجتمعات الحربية. والاستبداد وعبادة السلطة (او الدولة) يجب أن يخليا مكانهما للنظم النيابية الحديثة. ولكن سبنسر يعترف بأن النظم السياسية في المستقبل ستحمل في داخلها آثار الماضي، ولهذا سيوجد تنوع كبير في أشكال الحياة الاجتماعية. وبالمثل ستنتقل النظم الكهنوتية (أو: الدينية) من الثيوقراطية القديمة إلى نوع من الديمقراطية الحديثة ستسود بفضل التطور العقلي الذي سيقضي على الخرافات والمعتقدات الشعبية، وبدلاً من مراعاة قواعد العبادات سيتجه الإهتمام إلى قواعد الأخلاق
قدم سبنسر بعض المساهمات القيمة في بدايات علم الاجتماع، ومنها التأثير الذي حمله على الوظيفية الهيكلية، ومع ذلك، لم تنجح محاولته في إدخال الأفكار اللاماركية أو الداروينية إلى عالم علم الاجتماع. اعتُبِر هذا الأمر خطيرًا بشكلٍ فعال من قبل كثيرين؛ إذ كان أخصائيو علم التأويل في تلك الفترة -مثل فيلهلم دلتهي- يسعون إلى التمييز بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية. شن عالم الاجتماع ليستر فرانك وارد -الذي كان سيُنتَخَب حينها كأول رئيس للجمعية الأمريكية لعلم الاجتماع- هجومًا لا هوادة فيه على نظريات سبنسر حول مبدأ عدم التدخل والأخلاق السياسية. وعلى الرغم من إعجاب وارد بالكثير من أعمال سبنسر، لكنه اعتقد أن تحيزات سبنسر السياسية السابقة قد شوهت فكره وأدت إلى ضلاله. أنشأ إميل دوركهايم في تسعينيات القرن التاسع عشر علم الاجتماع الأكاديمي الرسمي مشددًا على دور البحوث الاجتماعية العملية. وبحلول نهاية القرن العشرين، قدم الجيل الأول من علماء الاجتماع الألمان -أبرزهم ماكس ويبر- فلسفة معاداة الوضعية المنهجية. ومع ذلك، امتلك نظريات سبنسر حول عدم التدخل والبقاء للأنسب والتدخل البشري المحدود في عمليات القانون الطبيعي جاذبية دائمة ومتزايدة في المجالات الاجتماعية الخاصة بالعلوم الاقتصادية والسياسية. كتب أحد الكتاب مؤخرًا عن أهمية سبنسر لعلم الاجتماع الذي يجب أن يأخذ دور الطاقة أو الحركة في المجتمع على محمل الجد.
لقد كان سبنسر بحق نبى علم الاجتماع خلال أواخر العصر الفيكتورى. وهو، على خلاف ماركس، لم يكن يرى فى الثورة الصناعية سوى التقدم. وكان سبنسر يفسر المجتمع ككائن حى ينمو باضطراد، وكلما ازداد تركيبا، كلما زادت قدرته على أن يفهم بوعى ذاتى أليات تحقيق نجاحه وأن يتحكم فيها. وأهم تلك الآليات التنافس الحاد للحصول على الموارد، وهى التى سماها سبنسر "البقاء للأصلح" (وبذلك سبق بعدة سنوات فكرة تشارلز داروين عن "الانتخاب الطبيعى"). وكان سبنسر يؤمن أن تطبيق هذا المبدأ دون أى قيد أو تدخل سوف يؤدى فى النهاية إلى تحقيق صالح المجتمع على أفضل نحو. وقد تبنى الناس أفكاره بحماس كبير فى أمريكا، وكان من أبرزهم ويليام جراهام سمنر. وظلت تعد حتى اليوم الأساس الذى نهضت عليه نظريات التحرر والاقتصاد الحر على الصعيدين الاجتماعى والاقتصادى.
الأخلاق
في الأخلاق يسعى سبنسر إلى التوفيق بين الأثرة (أو: الأنانية) وبين الإيثار. وهو يجد هذا التوفيق في مذهب «المنفعة العقلي»، الذي يختلف عن «مذهب المنفعة التجريبي»، من حيث أنه يقر بالنسبية في التوازن بين الفرد ومحيطه، بين اللذة والألم، بين الفرد والمجتمع وهذ التوازن يكفله قانون التطور الذي تخضع له المعاني الأخلاقية.
والأصل في المعاني الأخلاقية هو الإيثار الموجود عند الوالدين، هذا الإيثار الذي يحضهما على التضحية في سبيل الأبناء. بيد أن الأخلاق التي تفرض التضحية هي أخلاق جلفة وبدائية، والتطور يعمل على التقريب بين الواجب وبين اللذة، بحيث أنه في المجتمعات الكاملة تتم الأفعال برضا كبير وبما يشبه السلوك الغريزي. وهذا شبيه بعمل الفنان الذي ينجز عمله الفني لهدف نفعي وفي الوقت نفسه يشعر بالرضا النفسي الكبير,
والمطلوب سن علم الأخلاق وضع معايير للسلوك جديدة تهدف الى تحقيق الانسجام بين الأفعال والخدمات. وهذه الأخلاق تعمل على:
- خدمة الحياة الفردية؛
- خدمة حياة النوع؛
- خدمة حياة الجماعات الخاصة بالمزج بين النوعين السابقين وبمقدار ما تتكافل هذه الأنواع الثلاثة من السلوك، تزداد الحياة نماء وملاء.
ولما كان هذا النماء ليس ساكناً، فإنه يتقدم باستمرار ويزداد اتقاناً كلما مضى التطور.
التربية
تتفرع مبادئ التربية عن مبادئ الأخلاق، عند سبنسر. وهو لهذا يرى أن التريية تقوم على أساس التوازن بين قوى النفس، وهذه القوى هي: العقل من جهة، والعواطف من جهة أخرى. والتربية التي لا تعنى جوهرياً إلا بتثقيف العقل من شأنها أن تضر بالوحدة الباطنة للنفس، وترجع بالأنانية القهقرى في طريق مضاد للتطور. وفقاً لهذه الفكرة نجد سبنسر يدعو إلى عدم تدريس اللغتين اليونانية واللاتينية، وإلى التقليل من تدريس التاريخ، وقصر تدريس التاريخ على التاريخ القريب والمعاصر. ويقول في هذا الصدد: «إن الناس الذين يهتمون بأن يعرف أولادهم بالدقة والتفصيل ما هنالك من خرافات عرفتها الإنسانية طوال ألفين من السنين - هم أناس لا يهمهم أن يعرف أبناؤهم شيئاً عن وظائف وعمليات أجسامهم هم».
ويدعو سبنسر إلى رعاية النشاط التلقائي للطفل، هذا النشاط التلقائي الذي يمثل التطور الطبيعي للنوع. وينبغي في العملية التربوية أن تمضي:
- من البسيط إلى المركب، لأن الفعل يذهب من المتجانس الى اللامتجانس؛
- ومن المشكوك فيه (أو الظني) إلى اليقيني، لأن الفعل يذهب من اللامحدد إلى المحذد؛
- ومن العيني إلى المجرد، ومن التجريبي إلى العقلي، لأن العقل إنما هو التنظيم للتجربة.
ومهمة التربية هي تكوين إنسان يحكم نفسه بنفسه، لا إنسان يحكمه الآخرون أما التربية البدنية فينبغي أن تقوم على الأفعال الحرة التي ينجزها الطفل أو الشاب، لا على التدريب الحديدي والضبط والربط.
الدين
يرى سبنسر أن عبادة الأجداد هي المصدر الأول لكل دين فرؤية الوالد الميت في الحلم معناها القول بوجود شبح للوالد: ويربط الإنسان بين هذه الرؤيا وبين الجنس البشري فيقول: إذا كان أبي لم يمت، فإني لا أريد أن أموت؛ إذن أنا لا أريد أن يكون أبي قد مات. فهذا الشبح المشاهد في الأحلام للأباء هو التعبير عن رغبة الإنسان في البقاء الدائم. ومن هنا نشأت عادة - أو شعيرة - تقديم القرابين والأطعمة إلى القبور. وهذه شعائر تحول المقابر إلى معابد وهياكل؛ والميّت الاستثنائي يولد البطل الخالد، وعبادة هذا البطل فيصبح إلهاً. ثم يوضع الآلهة في مراتب متفاوتة، ويصبح أحدها ملكاً على سائر الآلهة. وما يلبث أن يكتسح سائر الآلهة، ويصير هو الإله الواحد الأوحد،
اللاأدرية
تعود سمعة سبنسر بين الفيكتوريين إلى أفكاره اللاأدرية بشكل كبير؛ فقد رفض سبنسر اللاهوت بسبب ما سمّاه «عقوق الأتقياء». اكتسب سبنسر سمعة سيئة بسبب تنكره للدين التقليدي، وكثيرًا ما اتهمه المفكرين الدينيين بالدعوة إلى الإلحاد والمادية. ومع ذلك، أكّد سبنسر على عدم اهتمامه بتقويض الدين باسم العلم، ولكنه أراد الموافقة بينهما، على عكس توماس هنري هكسلي الذي كان من أتباع الاأدرية التي تعتبر الإيمان خطيئة لا يمكن تجاهلها.
يقول سبنسر بأننا مدفوعون في النهاية إلى قبول بعض الأفكار التي لا غنى عنها ولكن لا يمكن تصورها حرفيًا، وذلك سواء انطلقنا من المعتقد الديني أو من العلم. لذلك، خلص سبنسر إلى أن الدين والعلم يتفقان في الحقيقة العليا على أن الفهم الإنساني قادر على إدراك المعرفة النسبية فقط. أي أننا لا نحصل سوى على الأمور والتفسيرات الظاهرية لا الأساسية المطلقة نظرًا للقيود المتأصلة في عقل الإنسان. ولذلك يجب على العلم والدين إدراك أن القوة التي يتجلى بها الكون لنا هي أمر غامض تمامًا. أطلق سبنسر على هذه القوة اسم «المجهول» أو «الذي لا سبيل لمعرفته» واعتبر عبادة هذا الكيان المجهول دينًا يمكنه أن يحل محل الدين التقليدي. في الواقع، كان يعتقد سبنسر أن المجهول يمثل المرحلة النهائية في تطور الدين والتي تحد وتقضي على التجسيد البشري للآلهة.
التأثير العام
كان تأثير سبنسر متفاوتاً كثيراً. فنظريته في التطور شاركه في القول بها كثيرون قبله وبعده. وجاء دارون فتغلب عليه في هذا الاتجاه حتى كاد الناس أن ينسوا دور سبنسر. ثم إن قلة بضاعته من الدراسات العلمية المنتظمة في الجامعات أو المعاهد العلمية المتخصصة قد جعله عيالاً على غيره، وغير موثوق به في كثير من كتاباته في هذا الموضوع.
إن تأثيره الأكبر كان في هنري برجسون، الذي صرح في رسالة كتبها إلى وليم جيمس (بتاريخ 9 مايو سنة 1908) بأن «سبنسر» هو الفيلسوف الذي التزمت به تقريباً دون تحفظ». ولهذا أشار إليه برجسون في أكثر من ثلاثين موضعاً من مؤلفاته، وثلاثة منها تشمل عدة صفحات.
فشل معظم الفلاسفة في الحصول على متابعة من قبل آخرين خارج مدرستهم الفكرية، ولكن سبنسر حقق في سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر شعبية لا مثيل لها؛ الأمر الذي يشير له الحجم الكبير لمبيعاته. وربما كان سبنسر الفيلسوف الأول -وربما الوحيد- في التاريخ الذي يبيع أكثر من مليون نسخة من أعماله خلال حياته الخاصة. باع ناشره المعتمد أبليتون 368755 نسخة بين عامي 1860 و1903 في الولايات المتحدة الأمريكية حيث كانت الطبعات المقرصنة شائعة، ولم يختلف هذا الرقم كثيرًا عن مبيعاته في موطنه بريطانيا، وإذا أضفنا عدد المبيعات في باقي أنحاء العالم، لن يبدو عدد المبيعات الذي يتجاوز المليون مبالغًا به. أشار ويليام جيمس إلى دور سبنسر «في إطلاق العنان لخيال وتفكير عدد لا يحصى من الأطباء والمهندسين والمحامين، والعديد من الفيزيائيين والكيميائيين والعامة». وجد أسلوبه الذي يؤكد على التحسين الذاتي جمهورًا جاهزًا من الطبقة العاملة الماهرة.
كان تأثير سبنسر على قادة الفكر كبيرًا أيضًا، وهذا بدا من خلال طريقة استقبالهم وردهم على أفكاره، وكذلك عبر رفضهم لها. لاحظ جون فيسك –أحد أتباعه الأمريكيين- أن أفكار سبنسر كانت بمثابة المصلح لكل اعوجاج في الفكر الفيكتوري. ربط وعرف مفكرون متنوعون مثل هنري سيدجويك وتي. جرين وج. إي مور وويليام جيمس وهنري بيرجسون وإميل دوركهايم أفكارهم عبر قرنها بأفكاره. يعتبر كتاب دوركهايم «انقسام العمل في المجتمع» نقاش ممتد مع سبنسر، وقد اتفق العديد من المعلقين على استعارة دوركهايم الكثير من علم اجتماع سبنسر.
أصبحت العديد من أفكار سبنسر في بولندا ما بعد انتفاضة عام 1863 جزءًا لا يتجزأ من أيدلوجيا نهاية القرن أو «الوضعية البولندية». أشاد الكاتب البولندي البارز في تلك الفترة بوليسلاو بروس بسبنسر واصفًا إياه بـ «أرسطو القرن التاسع عشر» ومعتمدًا استعارته «الكائن الاجتماعي»، وقدّم له كذلك إشادةً شعرية مدهشة في قصته المصغرة لعام 1884 بعنوان «عفن الأرض»، كما سلط الضوء على مفهوم سبنسر آنف الذكر في مقدمة روايته العالمية «فرعون» المنشورة عام 1895.
كانت أوائل القرن العشرين سيئة بالنسبة لسبنسر؛ إذ انحدرت سمعته الفلسفية بعد وقت قصير من وفاته، ونُبذَت أعماله بعد نصف قرن من وفاته باعتبارها «محاكاة ساخرة للفلسفة»، وقد وصفه المؤرخ ريتشارد هوفستادتر بأنه «ميتافيزيقي الفكر المنزلي، ورسول اللاأدرية البسيطة». ومع ذلك، تغلغل فكر سبنسر بعمق في العصر الفيكتوري ولم يختفِ تأثيره بالكامل.
ظهرت في السنوات الأخيرة تقديرات إيجابية أكثر من السابق، ولكن التقديرات السلبية ما زالت موجودة.
السبنسرية الاقتصادية
كان تأثير منظور سبنسر «البقاء للأصلح» ورؤيته حول بقاء الأنواع الأقوى والأصلح على الباحث الإيراني المعاصر عنايت اله مرشدي لدرجة أن هذا الباحث لديه رؤية عضوية للنظام البيئي المستقبلي وسبنسر. التعميم على النظام البيئي للأعمال التجارية والمنظمات الاقتصادية، قدم ادعاءً ونظرية بعنوان «سبنسرية اقتصادية: بقاء الشركة الأصلح واختيار المستقبل» في كتابه المعنون «أعمال عالم المستقبل». باختصار، وفقًا لنظرية سبنسریه الاقتصادية التي اقترحها عنايت اله مرشدي في كتابه، في النظام البيئي الاقتصادي المستقبلي وتغييره في بيئات الأعمال الجزئية والكليّة، تفوز المنظمة الأصلح، وهي المؤسسة الأكثر توافقًا مع التطورات والاتجاهات، وسوف ينجو. في نظرية المرشدي للسبنسرية الاقتصادية، فإن المنظمة أو الشركة الأصلح تعني المنظمة الأكثر مرونة ضد التغييرات، مع الثقافة التنظيمية الأكثر تعلمًا والتي تُظهر أقل مقاومة للتغيرات والتطورات الابتكارية والتكنولوجية في عالم المستقبل. بإلقاء نظرة عضوية على مفاهيم «المستقبل» و «المنظمة»، وسع مرشدى وعمم وجهة نظر سبنسر حول بقاء الأصلح للنظام الإيكولوجي للمنظمات الاقتصادية، واصفا إياه بالسبنسرية الاقتصادية.
من أقواله
- الثورة الجمالية الدائمة هي وظيفة الفن.
- الإنسان هو الحيوان الوحيد في العالم الذي يُخاف.
- يعيش البشر أقصى درجات الحرية عندما لا يحسون بها، فالصياح هو دائما صليل القيود.
- البشر يحاربون دائما عندما يقولون أنهم يحبون السلام.
- الموت أفضل من حياة ليست سوى تكرار للتكرار.
من أهم مؤلفاته
- أسس علم الحياة (من 1864-1867).
- أسس علم النفس (1870-1872.
- أسس علم الاجتماع (1876-1896).
- أسس الأخلاق (1879-1893).
- الاستاتيكا الاجتماعية (1850).